الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/03/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة (92 ) اشتراط معرفة جنس العوضين - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

وأما الحكم الثالث: - فالوجه في ذلك واضح، فإنَّ مدرك لزوم معرفة الأوصاف إذا كان هو الغرر فسوف يرتفع بأحد هذه الأمور الثلاثة، وإن كان هو الاجماع فهو يرتفع أيضاً بأحد هذه الأمور الثلاثة، وإن كان هو الجهالة فهي ترتفع بأحد هذه الأمور الثلاثة، فعلى أيّ حال المدرك لاعتبار معرفة الأوصاف أيّ شيءٍ كان هو يشبع حاجته بأحد هذه الأمور الثلاثة، فالجهالة ترتفع بأحد هذه الأمور الثلاثة، وهذا لا كلام فيه.

أما الحكم الثاني: - وهو معرفة الأوصاف التي تختلف باختلافها القيمة، كما لو أردت شراء لبناً فكون اللبن دسماً فبالقياس اللبن الذي ليس فيه دسومة هذه صفات تختلف باختلافها القيمة، والسيد الماتن قال في هذه الأشياء أنه يعتبر معرفتها وإلا وقع البيع باطلاً.

وما هو الدليل على ذلك؟

وقبل أن نذكر الدليل نبين مطلباً: - وهو أنَّ المسألة ليست اجماعية، فإن المفيد والشيخ الطوسي ذهبا إلى اشتراط معرفة هذه الأصواف التي تختلف القيمة باختلافها ولكنهما لم يذكرا الدليل، لكن المحقق في الشرائع قال ( في المسألة قولان ) يعني لا يوجد إجماع في المسألة، وهو قرّب الجواز من دون حاجة إلى ذكر الأوصاف، وعلّق السيد مير علي صاحب الرياض عند شرحه لمختصر العلامة بأنَّ الأكثر ذهب إلى الجواز، فإذاً المسألة ليست اجماعية وإنما هي خلافية، فالشيخان ذهبا إلى الاعتبار أما المحقق وجماعة فقد ذهبوا إلى عدم الاعتبار، وعلينا أن ننظر في الأدلة الأخرى غير الاجماع، قال المفيد:- ( وكل شيء من المطعومات والمشمومات يمكن الانسان اختباره من غير إفساد له كالأدهان المستخبرة بالشم وصنوف الطيب والحلوى المذوقة فإنه لا يصح بيعه بغير اختبارٍ له فإن ابتيع من غير اختبا كان البيع باطلاً والمتبايعان فيه بالخيار )[1] ، فهو بالتالي صرح بأنَّ البيع باطل من دون اختبار، فإذا اشتريت طيباً مثلاً ولم تشمه فهذا البيع باطل، أو إذا اشتريت حلوىً ولم تذوقها فهذا البيع باطل، وقال الشيخ الطوسي في النهاية:- ( وكل شيء من الطعوم والمشروب يمكن الانسان اختباره من غير إفساد له كالأدهان الطيبة المستخبرة بالشم فإنه لا يجوز يعه بغير اختبار له فإن بيع من غير اختبار كان البيع غير صحيح والمتبايعان فيه بالخيار فإن تراضيا بذلك لم يكن به بأس )[2] ، فعند المراضاة لا يصير بيعاً وإنما هي مراضاة أو صلح، فعبارة العلمين واضحة في أنه يشترط اختبار الأوصاف وإلا وقع البيع بطلاً.

قد خالف المحقق في الشرائع حيث قال: - ( ولو بيع ولما يختبر فقولان اشبههما الجواز )، وعلّق صاحب الرياض على قول صاحب الشرائع حينما قال ( أشبههما الجواز ) فقال صاحب الرياض:- ( وعليه الأكثر)[3] أي أنَّ الأكثر بنوا على الجواز، والذي نريده هو أنه لا يوجد إجماع في السألة، وعليه فيكون لنا الحق في أن نلاحظ ما الدليل الذي يقتضي لزوم الاختبار، كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي ووافقه على ذلك بعض الأعلام من المتأخرين، وقد يستند لذلك بوجهين:-

الوجه الأول: - قوله عليه السلام ( نهى النبي عن بيع الغرر ).

وقد قلنا: - إن هذا الحديث محل كلام سنداً ودلالةً، أما سنداً فقد تقدم أنه لا سند ثابت له، وأما دلالة فقد قلنا يحتمل أنَّ المقصود من الغرر ليس الجهل وإنما الغرر بمعنى الخديعة، فهذا الحديث غير معتبر والسيد الخوئي لا يعتبره سنداً أيضاً.

الدليل الثاني: - وراية محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن أبي جعفر عن دواد بن إسحاق الحدّاء عن محمد بن العيص قال: - ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل اشترى ما يذاق يذوقه قبل ان يشتريه؟ قال: - نعم فليذقه ولا يذوقن ما لا يشتري، قال: - نعم فليقه ولا يذوقن ما لا يشتري )[4] .

والكلام يقع تارة في الدلالة وأخرى في السند: -

أما الدلالة: - فقد يقال إنها واضحه فإن الامام عليه السلام قال ( ليذقه ) فهذا يدل على لزوم الذوق، وموردها وإن كان هو الأشياء التي تذاق ولكن بضم عدم احتمال الخصوصية نتعدى إلى الأشياء التي تشم أو غير ذلك.

ويرد عليه: - إنه يحتمل أنَّ السؤال ليس عن شرطية التذوق وإنما عن جواز التذوّق، لأنَّ هذا تصرف في مال الغير، فالسائل يسأل ويقول هل يجوز لي التذوق قبل الشراء أو لا، كما لو أردت أن أعرف هذا التمر هل هو جيد أو لا فهل يجوز لي أن أتذوقه بأن أتناول منه تمرة واحدة؟، فالسؤال هنا عن جواز التذوّق لأنَّ هذا تصرف في مال الغير، والأمام عليه السلام قال له نعم لا مشكلة في ذلك ولكن لا تتذوق الشيء الذي لا تريد أن تشتريه أما إذا أردت أن تشتريه فحينئذٍ يجوز لك تذوقه، فالرواية أجنبية عن المقام، ونحن لا نريد الجزم بكون هذا هو المقصود ولكن يكيفنا الاحتمال الموجب للاجمال والتردد، فلا يمكن التمسّك بها لما أريد.

وأما السند: - فقد رواها محمد بن الحسن عن أحمد بن محمد بن يحيى الأشعري القمي صاحب نوادر الحكمة وهو ثقة من دون كلام، وطريق محمد بن الحسن إلى محمد بن أحمد بن يحيى معتبر، وأما أبي جعفر فقد ذكر في ترجمة أحمد بن عيسى أن كنيته أبو جعفر فليس من البعيد بمناسبة هذا السند لأنَّ محمد أحمد بن يحيى يروي عن أحمد بن محمد بن عيسى، فليس من البعيد أنه تحصل قناعة بأنَّ أبو جعفر هو أحمد بن محمد بن عيسى، وأما داود بن إسحاق الحذّاء فهو مجهول الحال إلا إذا بنيا على أنَّ كل من روى عنه أحمد بن محمد بن عيسى يكون ثقة، ولكن هذا المبنى لا نقول به، مضافاً إلى أنَّ محمد بن العيص - أو محمد بن الفيض - مجهول الحال أيضاً.

فإذاً الرواية ضعيفة سنداً ودلالة، وعلى هذا الأساس يكون الذهاب إلى شرطية اختبار الأوصاف التي تختلف باختلافها القيمة لا دليل عليه، وسيرتنا الآن جارية على عدم ذلك، فمثلاً نحن نذهب ونشتري علبةً من الدبس هي مغلقة ونحن لا نعلم ما هو قوامه وأنه خفيف أو ثخين، وكذلك نشتري علبة من العسل المغلقة ولا عرف كل أوصافه، وهذه سيرة جارية منّا، وهل كل هذا باطل؟!! إنه لا دليل على الاعتبار، فتكفينا المطلقات، ومن الغريب أنَّ السيد الخوئي يشترط ذلك بنحوٍ قاطع، وكان المناسب له أن يحكم بالاحتياط لعدم وجود دليلٍ معتبر، ولكن الصحيح كما ذكرنا، وهو أنه لا داعي إلى اعتبار ذلك وإن كان الاحتياط شيئاً حسناً.


[1] المقنعة، المفيد، ج1، ص609، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
[2] النهاية، الشيخ الطوسي، ج1، ص404.
[3] رياض المسائل، السيد العاملي، ج8، ص138.
[4] وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص375، أبواب عقد البيع وشروطه، ب25، ح1، ط آل البيت.