الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 87 ) يشترط في البيع أن لا يكون غررياً - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

هل المدار على عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

نحن عرفنا أنَّ المكيل لابد وأن يكال والموزون لابد أن يوزن ولكن ما هو الضابط في كون الشي مكيلاً أو موزوناً، فهل كل عصر يتبع عصره وزمانه أو أنَّ المدار على عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما كان مكيلاً في ذلك الزمان فهو مكيل في كل الزمان وما كان موزوناً في ذلك الزمان يلزم أن يكون كذلك أو يفصّل في ذلك؟

وهذا السؤال نطرحه في موردين، المورد الأول في مسألة الضبط، وهي محل كلامنا الآن، فالشيء إذا أريد أن يباع فلابد أن يضبط مقداره ولا يجوز بيع المجهول، فالمكيل يكال والموزون يوزن، المورد الثاني هو أنه إذا كان الشيء مكيلاً أو موزوناً في عصر النبي فبيعه بالمقابل مع الزيادة يلزم أن يكون ربوياً، فالطحين إذا قلنا بأنه موزون فبيع خمسين كليواً من الطحين الأبيض بخمسين كيلواً من طحين الأسمر لا يجوز، لأنَّ هذا موزون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو مكيلا فلا تصح هذه الزيادة، فإذاً هذه المسألة نحتاجها في موردين، فحينما قلنا هل المدار على عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد المكيل الموزون فتارة بالنسبة إلى مسألة الضبط وأخرى في مسألة الربا.

وقد أجاب صاحب الجواهر(قده) وقال:- إما بالنسبة إلى الربا فالمدار على عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للاجماع على أنَّ المدار في تحديد المكيل والموزون هو على عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما في مسألة الضبط فلأجل أن لا تصير الجهالة فإنَّ المدار في كل زمان على ذلك الزمان ولا نجعل المدار على عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه في مسألة الضبط لابد أن تلاحظ زمانك ولا ربط لهذا بزمان النبي صلى الله عليه وآله، فإذا كان الشيء في زماننا ينضبط من خلال المشاهدة فلا داعي إلى ملاحظة زمان النبي وإذا كان الآن ينضبط إلا بالوزن فحتى لو كان يباع بالمشاهدة في زمن النبي ولكن المدار على هذا الزمان، ففي مسألة الضبط لا معنى لأنه نلاحظ زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، أما مسألة الربا فلأجل الاجماع يصير المدار على زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وحذف صاحب الجواهر التكملة لوضوحها، وهي أنه ولولا الاجماع القائم على أنَّ مسألة الربا تتبع كون الشي مكيلاً أو موزوناً في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنا نجعل المدار في تحقق الربا وعدمه على كون الشي مكيلاً أو موزناً بلحاظ كل زمان، فقد يكون في قرنٍ مكيلاً أو موزوناً فيتحقق الربا حينئذٍ، وقد يكون في قرنٍ ثانٍ ليس مكيلاً أو موزوناً وإنما كان يضبط بالمشاهدة فلا يتحقق الربا، وصاحب الجواهر لم يذكر هذا لوضوحه، فإن الأحكام تدور مدار العناوين وكل زمان لابد أن نلاحظ العنوان في ذلك الزمان، فهذا الحكم - وهو أنه لا يجوز بالبيع مع الزيادة في المكيل والموزون فلابد أن نلاحظ كل زمان فإن كان مكيلاً أو موزوناً فسوف يحصل والربا وإن لم يكن مكيلاً أو موزوناً فلا يحصل الربا - هو المناسب حسب القاعدة ولكن لأجل الاجماع جعل المدار على زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً فصَّل صاحب الجواهر(قده) بين مسألة الضبط وبين مسألة الربا، قال ما نصه: - ( نعم قد ذكروا ذلك بالنسبة إلى حكم الربا ........ لا أنه كذلك أيضاً بالنظر إلى الجهالة والعلم الغرر وعدمه الذي من المعلوم عدم المدخلية لزمانه صلى الله عليه وآله في رفع شيءٍ من ذلك )[1] .

وقال الشيخ الأنصاري:- إنَّ المدار على زمان النبي صلى الله عليه وآله، للاجماع على أنَّ المدار على زمان النبي صلى الله عليه وآله، ونص عبارته:- ( ما ثبت كونه مكيلاً أو موزوناً في عصره صلى الله عليه وآله فهو ربوي في زماننا ولا يجوز بيعه جزافاً فلو فرض تعارف بيعه جزافاً عندنا كان باطلاً وإن لم غرر للجماع )[2] .

والجواب:- إنَّ مثل هذه الاجماعات المدّعاة إذا كنّا نأخذ بها فهي تؤدي إلى ما ذكره، وحيث لا نعتبر ذلك فدعوى الاجماع وحدها لا تنفع، وإنما يكون المدار على كل زمان بلحاظ ذلك الزمان، فما كان مكيلاً أو موزوناً في هذا الزمن لا يجوز بيعه جزافاً ولا يجوز فيه البيع مع الزيادة فإنه ربا وإن صار في زمان ثانٍ يباع بالمشاهدة أو بالعدّ كالبيض فهنا أيضاً نتبع الزمن، ولكن إذا لم يجزم الفقيه بذلك فسوف يحتاط بملاحظة زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كان معدوداً في زماننا ولكنه كان مكيلاً أو موزوناً في زمان النبي صلى الله عليه وآله فهنا يحتاط، وأما إذا انعكس الأمر فهنا يصير عكس الاحتياط.

النقطة الرابعة: - إذا كان الشيء في حالةٍ يباع بالمشاهدة وفي حالةٍ أخرى يباغ بالكيل أو الوزن فلكل فترةٍ حكمها.

كالتمر، فإن كان على النخلة فهو يباع بالمشاهدة، وإن كان على الأرض فالمدار على الكيل أو الوزن، فلكل حالة حكمها، وهكذا بقية الأشياء، كاللبن فمادام بعد في ضرع الدابة فالمدار ليس على الكيل والوزن وإنما يكون بالمشاهدة، وإذا كان في الاناء فيباع بالكيل أو الوزن.

والدليل على ذلك: -

أولاً:- إنَّ المفهوم من الروايات أنَّ المدار على ملاحظة الفترة الزمنية، فما كان مكيلاً أو موزوناً بالفعل لا يباع إلا بالكيل أو الوزن، أما إذا لم يكن مكيلا ً أو موزوناً بالفعل وإنما كان بالمشاهدة فتكفي المشاهدة، فالروايات التي اعتبرت الكيل أو الوزن ناظرة إلى حالة الكيل والوزن بالفعل، أما إذا لم يكن مكيلاً أو موزوناً بالفعل كما لو كان اللبن في الضرع فالرواية لم تقل لابد من كيله أو وزنه، فهي ليست ناظرة إلى هذه الحال، فإذا لم تكن ناظرة إلى هذه الحالة فلا نعتبر الكيل أو الوزن وتكفينا حينئذٍ المشاهدة، ومن الروايات التي ذكرت ذلك موثقة سماعة حيث قالت:- ( سألته عن شراء الطعا وما يكال ويوزن هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن فقال:- أن تأتي رجلاً في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأول قد أخذه بكيلٍ وزن )[3] ، فهي اعتبرت الكيل أو الوزن ولكن إذا كان مكيلاً أو موزوناً أما إذا لم يكن مكيلاً أو موزوناً كما لو كان في الضرع فلماذا تعتبر الكيل أو الوزن بل تكفي المشاهدة.

إن قلت: - إنَّ الاكتفاء بالمشاهدة يحتاج إلى دليل، فإنه وإن كانت المشاهدة وسيلة للضبط ولكن من قال إن المشاهدة تكفي؟

قلت: - إنَّ الدليل هو المطلقات كـ ﴿ أحلَّ الله البيع ﴾ أو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنها تشمل هذه الحالة والذي خرج من هذا العموم وحصل التخصيص فيما إذا كان مكيلاً أو موزوناً، أما إذا لم يكن مكيلاً أو موزوناً فنحن والعمومات فيكون كل هذا صحيحاً، فنحن خرجنا عن العمومات في الكيل والموزون، أما في غيره إذا لم يكن الآن مكيلاً أو موزوناً نتمسك بالعمومات، فتكفي المشاهدة.

مضافاً إلى ما ذكرناه مرة من أنَّ الكيل والوزن إنما هو معتبر لأجل كونه وسيلة للضبط، فإذا كانت المشاهدة يحصل بها الضبط أخذناها بنحو المرآتية فتكفي هي أيضاً.

ثانياً: - الروايات: -

من قبيل:- ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى عن عيسى بن القاسم قال: - ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل له تعم يبيع ألبانها بغير كيل[4] ، قال: - نعم حتى تنقطع[5] أو شيء منها )[6] .

وعلى منوالها موثقة سماعة قال:- ( سألته عن اللبن يشترى وهو في ضرعن فقال:- لا إلا أن يحلب لك منه سكرّجة فيقول اشتر مني هذا اللبن الذي في السكرّجة وما في ضرعها بثمن مسمى فإن لم يكن في الضرع شيء كان ما في السكرّجة )[7] ، دلالتا واضحة، وهو عليه السلام قال إنه لابد من حلب شيء في السكرجة فبقرينة التعليل نعرف أنه يحتمل أنه لا يوجد لبن في الضرع فلأجل ذلك قال لابد من حلب شيءٍ فيها، أما أذا كان الضرع كبيراً فحتماً يوجد فيه لبن ولا يحتاج إلى الحلب في السكرجة.

وعلى هذا المنوال روايات بيع الثمر على الشجر، وهي روايات متعددة، منها ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين[8] عن صفوان عن يعقوب بن شعيب قال:- ( قال:- قال أبو عبد الله عليه السلام:- إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضاه فلا بأس ببيعها جميعاً )[9] ، وسند الرواية معتبر، وواضح أنَّ البيع هنا يكون بالمشاهدة، لأنَّ بعض الثمار قد أدرك أما البعض الآخر فهو لم يدرك بَعدُ، لا أنه يقطعه ثم يبيعه.

وبهذا تنتهي هذه المسألة.


[1] جواهر الكلام، الجواهري النجفي، ج22، ص427.
[2] كتاب المكاسب، الانصاري، ج3، ص229.
[3] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج7، ص5، أبواب عقد البيع وشروطه، ب5، ح7، ط آل البيت.
[4] أي وهي في الضرع.
[5] أي حتى ينقطع اللبن من الضرع.
[6] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ح17، ص348، أبواب عقد البيع وشروطه، ب8، ح1، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ح17، ص348، أبواب عقد البيع وشروطه، ب8، ح2، ط آل البيت.
[8] ومحمد بن الحسين هو محمد بن الحسن بن أبي الخطاب وهو من أجلة أصحابنا.
[9] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج18، ص217، ابواب بيع الثمار، ب2، ح1، ط آل البیت.