الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/03/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 87 ) يشترط في البيع أن لا يكون غررياً - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

النقطة الثانية: - تعتبر المشاهدة فيما يكتفى فيه المشاهدة.

فبعض الأشياء ضبطها يكون بالمشاهدة ولا يصير ضبطها بالكيل أو الوزن كما لو أراد شخصاً أن يشتري داراً فهو يذهب ولاحظ خصوصياتها أو أنه يريد أن يشتري الثمر وهو على الشجر أو أنه يريد شراء عباءة أو غير ذلك فهذه الأمور يتم ضبطها بالمشاهدة، فإذاً ما ينضبط بالمشاهدة تعتبر فيه المشاهدة، والدليل على ذلك أحد وجهين: -

الوجه الأول: - أن يقال إنَّ ما دل على ضبط المكيل بالكيل والموزون بالوزن إنما دل على ذلك من باب أن الكيل وسلة إلى ضبط المكيل والوزن وسيلة إلى ضبط الموزون، وإلا فالكيل والوزن بما هما ليسا مطلوبين ولا مدخلية لهما فإذاً هما وسليلة للضبط، وعلى هذا الأساس نقول كل شيء يكون وسيلة للضبط يكفي، لأنَّ المهم والمقصود الأصيل هو الضبط والكيل والوزن هي طرق فإذا فرضنا أنه لا يمكن الكيل والوزن في شيء من الأشياء، فالمشاهدة وسيلة عقلائية للضبط كفت حينئذٍ لأنَّ المهم هو الضبط.

وقد يقول قائل: - لنقل أصلاً حتى المشاهدة ليست معتبرة في مثل هذه الأمور.

قلنا: - إنَّ هذا غير محتمل فقهياً، فبعد عدم احتمال جواز بيع الجزاف ومن دون ضبط يتعيّن أن تكون وسيلة الضبط هي المشاهدة بعدما كانت وسيلة عرفية عقلائية لتحقق الضبط كالوزن في الموزون والكيل في المكيل.

الوجه الثاني: - هناك سيرة عقلائية - اجتماعية بشرية - على أنَّ الثمر الموجود على الشجر يشترى بالمشاهدة ولا أحد ينكر ذلك فإن سيرة الناس جارة على هذا وهكذا في شراء الدار، فبالمشاهدة يكتفى بشرائها، وفي زماننا لو أراد أن يشتري شخص سيارة أو ما شاكل فيكتفى بالمشاهدة، والمهم لنا هو السيرة السابقة، فهي جرت على الاكتفاء في مثل شراء الثمرة على الشجر وغير ذلك، وهذه السيرة ليست سيرة حادثة وإنما هي سيرة منذ زمن الصدر الأول للإسلام، فلو كان يعتبر شيء آخر غير المشاهدة لوصل إلينا ولبان بعد كون المسألة ابتلائية، وبعد ضعف احتمال جواز الشراء من دون مشاهدة فإنه جزاف ولا نحتمل صحة بيع الجزاف شرعاً ومادام سيرة الناس جارية على الاكتفاء بالمشاهدة في شراء ثمر النخلة أو شراء الدار مثلاً يدل على أنَّ الأمر شرعاً كذلك، ولو كان للشرع وسيلة أخرى لبينها ولوصلت إلينا، فبعد وهن احتمال عدم اعتبار المشاهدة وأنه يكفي الشراء جزافاً يتعيّن أن تكون تلك الوسيلة هي المشاهدة وإلا لأوصل لنا الشرع الطريق الآخر، وحيث لم يوصله إلينا فهذا معناه أنَّ المشاهدة كافية.

ونشير إلى قضية أشار إليها السيد الماتن في كلامه: - هي أنه في مثل المذروع لابد من ذرعه، فمثلاً في القماش لابد أن يمتر بالمتر أو يذرع بالذراع، أو أنه يريد شراء أرض فلابد من معرفة مساحتها بالأمتار أو بالذراع أو بوسيلة الضبط الموجودة في كل زمان فإنها تكفي، وما هو الدليل على كفاية ذلك فيه؟ إنه اتضح من الدليلين المتقدمين وفي أنَّ ما يكون ضبطه بالمشاهدة تكفي فيه المشاهدة، فنطبق الوجه الأول فنقول إنَّ الكيل والوزن إنما اعتبار من باب أنهما وسيلة للضبط وإلا لا نحتمل وجود خصوصية لهما، فإذا فرض أنَّ الضبط للمبيع يكون من خلال الذراع أو الأمتار أو الأشبار أو ما شاكل ذلك كفى ذلك بعد فرض عدم احتمال كفاية الجزاف وبعد اعتبار الضبط بأيّ وسيلة، فإنه بعد ضعف هذا الاحتمال يتعيّن أن تكون وسيلة الضبط هي المتعارفة، كما نطبق الوجه الثاني ونقول إنه جرت سيرة العقلاء على بيع القماش بالمتر أو الذراع، فإذاً هذه وسيلة كانت موجودة ومتعارفة منذ العصر الأول للإسلام ولو كان غير ذلك لوصل إلينا، وحيث لم يصل إلينا فهذا يدل على كفاية هذه الوسيلة، فنفس الوجهين اللذين ذكرناهما في باب المشاهدة في الشيء الذي يحتاج إلى ذرعٍ وعدٍّ يأتيان هنا.

النقطة الثالثة: - لا محذور في بيع المكيل بالوزن أو الموزون يباع بالكيل إذا لم يستوجب ذلك الغرر والجهالة.

وقبل أن نبين النكتة هناك تعليق على التعبير:- وهو ليس بمهم لأنه قال ما نصه: - ( ولا بأس بتقديره بغير المتعارف فيه عند البيع كبيع المكيل بالوزن وبالعكس إذا لم يكن البيع غررياً )، والتعبير بالغرر هنا في بداية المسألة قد لا يكون وجيهاً من الجنبة الفنية، لأنَّ التعبير بـ( إذا لم يكن غررياً ) يوحي أنَّ الغرر هو مانع لما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم ( نهى النبي عن بيع الغرر )، وهو لا يقبل بهذا الحدث كما نحن انتهينا إلى ذلك أيضاً، فالأنسب في مقام التعبير أن لا يعبر بالغرر وإنما يعبّر بالجهالة فيقول ( فيجوز بيع المكيل بالوزن الموزون بالكيل إذا لم يستوجب الجهالة وارتفعت بذلك الجهالة، وهكذا في بداية المسألة فإنه قال ( يشترط في البيع أن لا يكون غررياً )، فالأحسن التعبير بـالجهالة فيقول ( يشترط في البيع أن لا يكون مشتملاً على الجهالة )، لأنه بتعبيره بالغرر يوحي أنه يستند إلى حديث ( نهى النبي عن بيع الغرر ) والحال أنه لا يقبل به.

فإذاً يجور بيع المكيل بالوزن والموزون بالكيل إذا حصل الضبط وارتفعت الجهالة، والوجه في ذلك واضح.

وفي هذا المجال نقول: - إنه تارة يبيع المكيل بالوزن لا على نحو المرآتية والآلية وإنما على نحو الاستقلالية، فالمكيل يبيعه بالوزن لا من باب أنَّ الوزن سوف يعرف من خلاله الكيل أو بالعكس وإنما ذلك بنحو الاستقلالية، فهو يريد أن يبيع المكيل بالوزن أو بالعكس، فمرة يكون ذلك بنحو الموضوعية، وأخرى يكون بنحو الآلية، فإن فرض أنَّ البيع كان بنحو الاستقلالية فهذا باطل، إذ الجهالة لا ترتفع بذلك، وهذا واضح، لأنَّ الجهالة يعتبر ارتفاعها في البيع، فأنت إذا لم تأخذ الكيل كمرآة للوزن أو بالعكس فالجهالة باقية والغرر - إذا قبلناه - باقٍ، فإذاً هذا لا ينفع، وأما إذا فرض أنَّه كان بنحو الآلية، كما لو فرض أنا وزنا الرز ووجدنا أنَّ الكيلو منه يملأ إناءً معيناً فحينئذٍ نبيع من خلال الكيل بهذا الاناء من دون وزنٍ بعنوان أنَّ هذا الكيل هو مقدار كيلو، فنحن لم نزنه ولكن جعلنا الكيل مرآةً للوزن، فإذاً المكيل يجوز بيعه بالوزن إذا كان بنحو المرآتية، فإنَّ هذا يكفي، والوجه هو أنَّ المقصود والمهم هو الضبط وهنا الضبط سوف يتحقق، ومادام قد تحقق الضبط كفى ذلك بعد ضعف احتمال أنَّ الكيل بما هو مكيل معتبر وليس وسيلةً للضبط.

وهناك رواية قد تقدمت ذكرت أنَّ السائل يقول يوجد عندنا جوز فنضع قسماً منه في إناء معين ثم نعدّه ثم بعد ذلك نقوم بملئ هذا الاناء بالجوز ونبيعه على أساس أنه يساوي ذلك العدد من الجوز والامام عليه السلام قال له لا مشكلة في ذلك.

فهذه الرواية داعمة لمقامنا وهو أنَّ الكيل في الموزون أو بالعكس لا محذو فيه، والرواية وإن كانت واردة في المعدود إذا بيع بالكيل ولكن هذه الخصوصيات ملغاة، فنتعدّى من موردها إلى موردنا إذ لا احتمال لوجود خصوصية في المورد وإنما هي من باب كونها وسيلة للضبط بالوزن وبالعكس ولو ليس بنحو المرآتية، وهي ما رواه الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي: - ( محمد بن الحسن بإسناد عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال:- لا بأس بالسلف [ بسلف ][1] ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن )[2] ، وأحمد بن أبي عبد الله هو أحمد بن خالد البرقي، ثم قال صاحب الوسائل ( ورواه الصدوق بإسناده عن وهب بن وهب مثله ).

فالرواية فهم منها أنَّ الموزون يباع يكيلاً والمكيل يباع وزناً.

ويرد على ذلك سنداً ودلالة: -

أما دلالةً: - فنقول إنه ليس من البعيد بل لعله هو الظاهر أنَّ المقصود من أن المكيل يباع بما يقابله من الموزون فالمقابل هو الموزون لا أنَّ المكيل لا نكيله وإنما نبيعه بالوزن من دون المرآتية، لأنه لم يذكر المرآتية حتى تقول إنَّ هذه الرواية تدل على أنَّ المكيل يجوز بيعه بالوزن وبالعكس، بل يقول يوجد عندنا أحد العوضين مكيلاً ونحن نبيعه بالعوض الآخر الموزون، لا أنَّ الاثنين معاً مكيلين أو الاثنين معاً موزونين وإنما أحد العضوين موزون نبيعه بالعوض الثاني المكيل والامام عليه السلام قال لا مشكلة في ذلك، وهذا الاحتمال موجود في الرواية وإن لم يكن هو الظاهر فلا أقل تكون الرواية مجملة، وعليه فسوف تكون خارجة عن محل كلامنا.

وأما سنداً: - فقد ورد فيها وهب بن وهب وهو أبو البختري الذي هو أكذب أهل البرية.

فإذاً هذه الرواية ضعيفة سنداً ودلالة، فيقبى مقتضى القاعدة لا محذور في الأخذ به.


[1] هذا ما ورد في الفقيه.
[2] وسائل الشيعة، الشیخ الحر العاملي، ج18، ص296، أبواب بيع السلف، ب7، ح1، ط آل البيت.