الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

42/02/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - مسألة ( 87 ) يشترط في البيع أن لا يكون غررياً - الفصل الثالث (شروط العوضين ).

الرواية الثانية: - صحيحة الحلبي الأخرى، وقد رواها المحمدون الثلاثة كالصحيحة الأولى، فقد نقلها الشيخ الطوسي بإسناده ( عن الحسين بن سعيد[1] عن محمد بن أبي عمير عن سفيان بن صالح وحمّاد بن عثمان عن الحلبي عن هشام بن سالم وعلي بن النعمان عن ابن مسكان جميعاً عن ابي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن الجوز لا نستطيع أن نعدّه فيكال بمكيال ثم يعدّ ما فيه ثم يكال ما بقي على حساب ذلك العدد، قال:- لا بأس به )[2] ، ورواه محمد بن يعقوب ( عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي )[3] ، وراه الصدوق أيضاً[4] بإسناده عن حمّاد – يعني عن حمّاد عن الحلبي-، وقد أشار صاحب الوسائل على أنهم رووها.

والكلام تارة يقع في دلالتها وأخرى في سندها: -

أما من حيث الدلالة: - فالسؤال هو أنه كيف نستدل بها على شرطية معلومية العوضين؟ تقريب الدلالة هو أنه يظهر من الرواية أن لمرتكز في ذهن السائل أنه لابد من ضبط المبيع وبين طريقة للضبط، فإنَّ الجوز لا يمكن عده واحده واحدة فهم يكيلونه بكيل ثم يعدّونه، فلو كان العدد خمسين جوزة فحينئذٍ يقومون ببيع كيلاً كيلاً بعنوان أنه خمسين جوزة، والامام عليه السلام قال هنا لا بأس بذلك، فالمرتكز في ذهن السائل أنه لابد من الضبط وبيّن طريقةً لهذا الضبط والامام عليه السلام أمضى هذا الارتكاز على اعتبار معلومية العوضين، ومن الواضح أنَّ الصحيحة موردها هو المثمن دون الثمن وأنَّ المعدود لابد من ضبطه دون المكيل والموزون، ولكن بما أنه يقطع بعدم الخصوصية من هذه الناحية للمثمن وعدم الخصوصية للمعدود فنتعدى إلى غير ذلك، وقد صار إلى ذلك السيد الخوئي(قده)[5] .

ولكن يمكن أن يشكل ويقال:- حيث نقول صحيح أنَّ المرتكز في ذهن السائل - يعني الحلبي - اعتبار الضبط أما انه هل هو معتبر بنحو اللزوم ا، بنحو الرجحان فإن هذه الصحيحة لا توجد فيها دلالة على أنه بنحو الزوم، فلعل المرتكز في ذهنه أنه معتبر بنحو الرجحان، وهو يريد أن يحصل على هذا الأمر الراجح، فهو أراد أن يحصل عليه بهذه الطريقة والامام عليه السلام أمضاه، وهذا شيء محتمل ومقبول، فإذاً لا يمكن التمسك بهذه الرواية بعد النكتة التي أشرنا إليها، فنحن نسلّم أن المرتكز في ذهن الحلبي اعتبار الضبط، ولكن كون هذا الاعتبار بنحو اللزوم لا دلالة عليه، بل لعله بنحو الرجحان، فعلى هذا الأساس لا يمكن التمسك بها.

وأما من حيث السند: - فإنَّ سند الشيخ الكليني وسند الصدوق تامان.

ولكن توجد وقفة في سند الشيخ الطوسي فإنه قال:- ( الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن سفيان بن صالح[6] وحمّاد بن عثمان عن الحلبي عن هشام بن سالم وعلي بن النعمان عن ابن مسكان جميعاً )، وهنا يوجد سؤالان:-

السؤال الأول:- إنه قال ( وحماد بن عثمان عن الحلبي )، فالحلبي عادةً يروي عن الامام رأساً، وإذا لم يُرِد الرواية عن الامام فلابد أن تكون هناك واسطة واحدة لا أنه يروي بوسائط متعددة، فإنه يروي عن هشام بن سالم عن ابن مسكان، فكيف حصل هذا؟

السؤال الثاني:- إنه قال ( جميعاً )، والحال أن تعبير ( جميعاً ) يأتون به فيما إذا كان يوجد طريقان، فاثنين من الرواة يرويان هذه الرواية أحدهما الحلبي مثلاً والثاني ابن مسكان فهنا يقال ( جميعاً )، يعني أن الاثنين رووها عن الامام عليه السلام، فيقال ( جميعا ) إذا كان يوجد عندنا طريقان طريق ينتهي إلى الحلبي عن الامام عليه السلام وطريق آخر ينتهي إلى ابن مسكان عن الامام عليه السلام، أما هنا فيوجد طريق واحد وليس طريقان فلا معنى لذكر كلمة ( جميعاً )، فإذاً يوجد خلل في السند، والمناسب أن يصير السند ( الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن سفيان بن صالح وحماد بن عثمان عن الحلبي - يعني عن الامام عليه السلام -) ولكن توجد واو سقطت من قلم الشيخ عن جملة عن هشام بن سالم فيكون المناسب في السند أن يكون هكذا ( وعن هشام بن سالم وعلي بن النعمان عن ابن مسكان جميعاً - يعني الحلبي وابن مسكان - عن الامام عليه السلام )، فنحن نطمئن بوجود واو ساقطة، وهذا ليس بالشيء الغريب، ونحن لم نفعل شيئاً فإنَّ الطريق معتبر سواء كانت الواو موجودة أو ليست موجودة ولكن هذه نكتة بيناها.

ويوجد شيء: - وهو أنَّ ابن مسكان هل يروي عن الامام عليه السلام مباشرة أو لا؟، وهذا شكال آخر يغاير ما قبله تمام المغايرة، فإنَّ ابن مسكان إما أنه يروي بطريق مستقل غير طريق الحلبي، أو أنه الحلبي يروي عن ابن مسكان عن الامام الصادق عليه السلام، فهل ابن مسكان يروي عن الامام الصادق عليه السلام مباشرة والحال أنه كان ينقل عنه أنه لا يدخل على الامام الصادق عليه السلام إجلالاً له وإنما كان ينقل عن أصحاب الامام الصادق عليه السلام عن الامام، وهذا الشيء قد ذكر في رجال الكشي حيث النجاشي(قده) قال ما نصّه:- ( وزعم[7] أبو النظر محمد بن مسعود أن ابن مسكان كان لا يدخل على أبي عبد الله عليه السلام شفقة ألا يوفيه حق إجلاله )[8] ، وإذا رجعنا إلى رجال النجاشي وجدناه يقول:- ( روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام. وقيل إنه روى عن أبي عبد الله عليه السلام، وليس بثبتٍ )[9] ، أي ليس بثابت أنه يروي عن الامام الصادق عليه السلام ولعلّه أخذها من أبي النظر محمد بن مسعود العياشي، فإذاً شكك اثنان في نقل عبد الله بن مسكان عن الامام الصادق مباشرة النجاشي وابن مسعود، فعلى هذا الأساس أحد السندين يصير فيه تأمل - أي الطريق الثاني لابن مسكان- ولكن يبقى طريق الحلبي تام ولا مشكلة فيه.

وعلى أي حال لا إشكال في سند الرواية وإنما الكلام في دلالتها وقد اتضح أنه يشكل أمر دلالتها.

وبهذا اتضح أنَّ كلتا الصحيحتين للحلبي مجملتان يشكل التمسك بهما.

الرواية الثالثة: - صحيحة عبد الرحمن بن عبد الله التي رواها الشيخ الصدوق بإسناده عنه وطريقها معتبر: - ( أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري الطعام أشتريه منه بكيله وأصدّقه؟ فقال: - لا بأس ولكن لا تبعه حتى تكيله )[10] ، وموضع الشاهد هو قوله عليه السلام ( لا تبعه حتى تكيله )، فالإمام عليه السلام فرّق بين قضيتين الأولى، أن تشتريه لك اعتماداً على إخبار البائع فهنا قال الامام اعتمد عليه، فهذه الرواية من الروايات الدالة على حجية إخبار البائع بمقدار المبيع كيلاً أو زوناً أو غير ذلك، ولكن حينما تريد بيعه فعليك أن تكيله فإنَّ الاعتماد على إخبار البائع هو حجة في شرائك أنت أما إذا أردت أن تبيعه أنت فلابد أن تكيله، فالشاهد هو قوله عليه السلام ( لا تبعه حتى تكيله )، وليس الشاهد في عبارة ( الرجل يشتري الطعام اشتريه منه بكليه وأصدقه، قال:- لا بأس )، فلا تأتِ لي بتقريب السيد الخوئي(قده) في صحيحة الحلبي الثانية وتطبقه هنا وتقول إنَّ المرتكز في ذهن الشائل أنه لابد من ضبط كقدار المبيع والامام أمضى ولكن جوز له الاعتماد على إخبار البائع ولكن قلنا إنَّ هذا لا ينفعنا، لأنَّ هذا الارتكاز كما يتلاءم مع اللزوم يتلاءم مع الرجحان أيضاً، فنحن لا نأخذ بالفقرة الأولى وإنما نأخذ بالفقرة الثانية فإنها صريحة، فهي قالت ( لا تبعه حتى تكيله ) ودلالتها واضحة، وموردها وإن كان خاصاً بالكيل إلا أنَّ بضم القطع بعدم الخصوصية بين الكيل والعدّ والمعدود والموزون نتعدّى إلى الباقي أيضاً.

فإذاً إن كان يوجد إجمال في الصحيحتين السابقتين لكن هذه الصحيحة لا إجمال ولا مشكلة فيها.

وعلى منوالها رواية رابعة: - وسندها معتبر، وهي ما رواه الشيخ إسناده: - ( عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عن محمد بن حمران قال:- قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- اشرتينا طعاماً فزعم صاحبه أنه كاله فصدقناه فأخذناه بكيله، فقال:- لا بأس، فقلت:- أيجوز أن أبيعه كما أشتريه بغير كيلٍ؟ قال:- لا، أما أنت فلا تبعه حتى تكيله )[11] ، ومضمونها نفس مضمون الرواية السابقة، وتقريب دلالتها كتقريب الدلالة السابقة، ولا فرق بنيهما، ودلاتها تامة.

نعم نقل الشيخ الآراكي(قده)[12] عن أستاذه الشيخ عبد الكريم الحائري(قده) أشكالاً:- وهو أنه إذا كان يجوز الاعتماد على إخبار البائع في الشراء فلا فرق بين هذا وبين حالة ما إذا أراد المشتري لهذا الشيء بيع هذا الشيء أن يعتمد في بيعه على إخبار البائع، فإخبار البائع ينفعني في شرائي وفي بيعي أما أنه في شرائي يجوز ولكن في بيعي لا يجوز فهذا لا وجه له؟

والاشكال على ذلك واضح: -

أولاً:- إنَّ الانسان حينما يريد أن يبيع ويقول إنَّ وزن المبيع هو كذا فهذا يعني أنه يقول أنا اتحمل المسؤولية، فإن كان قد وزنه أو عدَّه أو كاله فهذا تحمّل للمسؤولية، أما إذا المشتري باعه ولكن اعتمد في بيعه على قول البائع الأول بأنَّ وزنه كذا فهذا ليس تحمّلاً للمسؤولية، فيوجد فرقٌ بين الحالتين، فالمشتري حينما يريد الشراء فهنا البائع يخبر بذلك فيكون متحمّلاً للمسؤولية فيصح للمشتري الشراء منه بناءً على إخباره بمقدار المبيع، أما حينما يريد هذا المشتري أن يبيع لآخر فهو سوف يتحمّل المسؤولية فلابد أن يتصدّى بنفسه للكيل أو الوزن لا أنه يعتمد على الغير، وهذه تفرقة عقلائية، ولا معنى أنه لا فرق بينهما.

ثانياً: - أن نقول إنَّ هذه قضية تعبّدية، فلا معنى للتوقف في الرواية، اللهم إلا إذا فرض أنَّ التفرقة كانت مرفوضة عقلائياً وعرفاً وليست مقبولة أبداً فالتعبّد هنا يكون صعباً، أما إذا كانت فيها شائبة القبول فهنا نأخذ بالتعبّد، وهناك الكثير من القضايا نأخذ بها من باب التعبّد.

فإذاً لا موجب للتوقف في هاتين الروايتين، وقد اتضح من خلال ما ذكرنا أنَّ صحيتي الحلبي قابلتان للتأمل، وأما هاتان الروايتان فهما تامتان سنداً ودلالة.


[1] وطريق الشيخ إلى الحسين بن سعيد معتبر في المشيخة.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص348، أبواب عقد البيع شروطه، باب7، ح1، ط آل البيت.
[3] الكافي، الكليني، ج5 ص193، وهذا طريق معتبر ايضاً.
[4] من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج3، ص140.
[5] موسوعة السيد الخوئي ( التنقيح في شرح المكاسب )، الخوئي، تسلسل37، ص364.
[6] وسفيان بن صالح غير معروف ولكنه لا يضر هنا لن الشيخ الطوسي يقول ( عن سفيان بن صالح وحمّاد بن عثمان ) وحماد من الثقات الأجلة فلا يهمنا الحث عن سفيان بن صالح.
[7] ولعل تعبير النجاشي بزعم محمد بن مسعود هو لأجل أن محمد بن مسعود العياشي هو لم ينقل مباشرة عن ابن مسكان هذا الأمر وإنما توجد بينه وبين ابن مسكان فترة زمنية لعلها ثلاث طبقات، فهو لأجل أنه سمع بذلك عبر الكشي بأنه زعم.
[8] اختبار معرفة الرجال، الكشي، ج2، ص680.
[9] رجال النجاشي، النجاشي، ج1، ص214، رقم الترجمة559، ط مؤسسة دار النشر الإسلامي.
[10] وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص346ـ، أبواب عقد البيع وشروطه، ب5، ح8، ط آل البيت.
[11] وسائل الشيعة، الحر العاملي، الشيخ أبو جعفر، ج17، ص345، أبواب عقد البيع وشروطه، باب5، ح4، ط آل البيت.
[12] كتاب البيع، الآراكي، ج2، ص260.