الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.

استدراك:- ذكرنا في المحاضرة السابقة الحكم السابع هو كراهة السوم ما بين الطلوعين وقلنا تدل عليه رواية علي بن اسباط قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم عن السوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ) ، وقد قلنا إنَّ الرواية واضحة الدلالة من هذه الناحية ، ولكن ربما يتمسّك بروايات استحباب التعقيب ما بين الطلوعين وقد ذكرنا معتبرة الوليد بن صبيح حيث قالت: ( التعقيب أبلغ في طلب الرزق من الضرب في البلاد ) ، ونحن أشكلنا على هذه الرواية من حيث الدلالة بأنها لا تحدّد مقدار التعقيب فإنَّ التعقيب للصلاة يصدق بربع ساعة أو بنصف ساعة أما ما بين الطلوعين فهي لم تذكره.

بيد أنه يمكن أن يقال[1] :- إنه توجد روايات أخرى تحبّذ وتحبّب التعقيب فيما بين الطلوعين ، من قبيل رواية ابن أبي يعفور أنه قال للصادق عليه السلام:- ( جعلت فداك يقال ما استنزل الرزق بشيءٍ مثل التعقيب فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ؟ فقال:- أجل )[2] ، يعني أنَّ الامام أمضى ذلك.

وعلى منوالها ما جاء في حديث الأربعمائة:- ( الجلوس في المسجد بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض )[3] ، ولعله توجد روايات أخرى بهذا المضمون ولكن يكفينا هذا المقدار.

ولكن يمكن أن يورد على هذه الروايات:- بأنَّ أقصى ما تدل عليه هو رجحان العقيب ما بين الطلوعين وأنه طريق سليم لاستنزال وطلب الرزق أما أنَّ السوم ما بين الطلوعين يكون مكروهاً فهذا كيف نثبته ؟ ، نعم أنا تركت المستحب والراجح ولكن استحباب أحد الضدّين لا يلازم كراهة الضدّ الآخر ، فعلى هذا الأساس يكون اثبات الكراهة أمراً مشكلاً .

فإذن المهم هو رواية علي بن اسباط المتقدمة حيث كان ينهى النبي صلى الله عليه وآله فيها عن السوم ما بين الطلوعين فإنَّ دلالتها واضحة على ذلك - بعد أن قلنا أنَّ المناسب تفسير السوم بنفس المعاملة - ، فإذن المدرك المهم هو هذا لا روايات التعقيب ، فإنه حتى لو حصلنا على روايات تثبت استحباب التعقيب ما بين الطلوعين بالكامل لكن هذه لا تلازم كراهة السوم في الفترة المذكورة فإنَّ استحباب أحد الضدّين لا يلازم كراهة الضد الآخر.

الأدب الثامن:- يكره أن يدخل السوق قبل غيره.

وتدل عليه رواية جابر - أو معتبرة - جابر[4] وقد رواها الشيخ الطوسي في أماليه وهي الحسن بن محمد الطوسي[5] في مجالسه عن أبيه عن المفيد عن عفر بن محمد بن قولويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن سيف بن عميرة عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال:- ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله لجبرئيل أيّ البقاع أحبّ إلى الله تعالى ؟ قال: المساجد وأحبّ أهلها إلى الله أولهم دخولاً إليها وآخرهم خروجاً منها ، قال: فأيّ البقاع أبغض إلى الله تعالى ؟ قال: الأسواق وأبغض أهلها إليه أوّلهم دخولاً إليها وآخرهم خروجاً منها )[6] ، وقد رواها الشيخ الصدوق(قده) ولكنه نقلها عن أعرابي حيث قال: ( سأل أعرابي النبي فأجاب النبي ..... ) بهذا المضمون مع اختلافٍ في بعض الألفاظ[7] . ودلالتها واضحة تقريباً.

لكن الملاحظة التي عليها:- هي أنَّ الملحوظ فيها هو الدخول أوّلاً والخروج آخراً ، فكان من المناسب للسيد الماتن(قده) أن يذكر ذلك أيضاً لا أنه يخصّص الكراهة بالدخول فقط بل حتى حالة الخروج ، وقد اختلفت كلمات الفقهاء من هذه الناحية فبعضهم خصّص بالدخول وبالعض الآخر عمّم لحالة الخروج ، أما الوارد في الرواية فالاثنان ، فإذن المناسب التعميم .

وههنا ثلاث قضايا:-

القضية الأولى:- هل هذه الكراهة تختص بأهل السوق أو تعم الشخص الذي ليس من أهل السوق وإنما كانت له حاجة يريد أن يشتريها من السوق فدخله فهل يشمله عنوان ( أوّلهم دخولاً ) أو لا ؟

ربما يقال:- إنَّ الوارد فيها هو عنوان أهلها حيث قيل ( وأبغض أهلها إليه أوّلهم دخولاً ) ، فإذن هذه الرواية خصّصت البغض والمبغوضية بأهل السوق أما هذا الشخص فلا يشمله العنوان المذكور.

ولكن يمكن أن يقال:- إنَّ كلمة ( الأهل ) كما وردت بلحاظ السوق وردت بلحاظ المسجد أيضاً ، فهل تخصّص محبوبية دخول المسجد أوّلاً باهل المسجد فقط كاهل المحلّة مثلاً ؟! ، فالشخص الذي يأتي من بعيد هل هو ليس براجح له الدخول في المسجد أوّلاً ؟! إنَّ هذا بعيد ، فعلى هذا الأساس يمكن أن يقال إنَّ المقصود هو الأعم من ذلك ، باعتبار أنَّ السوق أبغض البقاع - لأنَّ الرواية قالت هكذا - ، فعلى هذا الأساس من المناسب عدم الفرق بين أن يكون الداخل إلى السوق من أهله أو من غيرهم مادام الهدف يرتبط بالسوق والدنيا .

نعم يمكن أن يقال:- إنَّ هذا منصرف عمن يدخل إلى السوق لا لأجل البيع الشراء وإنما لأجل المرور ، أو لأنَّ السوق من الأسواق الأثرية القدية وأراد مشاهدته فهذا الشخص يمكن أن يقال منصرفٌ عنه ، أما بالنسبة إلى الداخل لهدفٍ يرتبط بالشراء والبيع فلا فرق بين أن يكون من أهل السوق أو يكون من غيرهم للقرينة التي ذكرناها وهي بغض المكان فإنها تصلح لأن تكون قرينة على التعميم.

القضية الثانية:- إنَّ المفهوم من الرواية هو أنَّ أوّل داخل يكون فعله مكروهاً ، وآخر خارج يكون فعله الخروجي مبغوضاً أيضاً ، وعلى هذا الأساس إذا أراد المؤمنون في يومٍ من الأيام أن يمتثلوا أحكام الشرع ولا يقعوا في فعل المكروه أو في ترك المستحب فماذا يفعلون ، فحينئذٍ أوّل شخص يدخل السوق يكون فعله مكروها وحينئذٍ سوف يقف ولا يدخل السوق ، وأيضاً يقف الثاني والثالث .... وهكذا وحينئذٍ لا يدخل الجميع ، فبالتالي هذه الكراهة لا يمكن امتثالها - أو عصيانها بتعبيرٍ آخر - ، لأنه بالتالي سوف يبقى السوق معطلاً وفارغاً ومن البعيد أن الشرع يشرّع حكماً يلزم منه هذا المحذور ، وهكذا بالنسبة إلى الذي يخرج أخيراً فإنه يلزم عليه أنه بما أنَّ خروجه أخيراً فسوف يكون مكروهاً فحينئذٍ يلزمه أن لا يخرج من السوق ، وهذا أيضاً لا يمكن أن نحتمله ، فإنه كيف يشرّع الشرع حكماً من هذا القبيل بحيث يوجد محذور في طريقة امتثاله ، والمحذور من ناحية الدخول أوّلاً هو أن يبقى الجميع خارج السوق ، وأما المحذور من ناحية الخروج آخراً عن السوق هو أنَّ الأخير يلزمه أن يبقى في حانوته ولا يخرج.

وقد أشار إلى هذا الاشكال صاحب الوسائل(قده) في الهامش وأجاب عنه ببعض الأجوبة:- من قبيل: إنه في البداية فلنقل إنَّ هناك اضطراراً إلى الدخول والاضطرار يرفع الكراهة ، أو نقول: ليجتمع اثنان أو ثلاثة فيدخلون السوق فلا يصدق حينئذٍ عنوان ( الداخل أوّلاً ) ، فإذن هو أجاب بهذا الجواب أو بنحوه.

والأنسب أن يقال:- إنَّ اللغة العربية مبنيّة على الكنايات والمجازات والاستعارة ، والأخذ بحاقّ الفاظ أحياناً لا يكون محبباً ، وهذه قضية ينبغي أن يلتفت إليها الفقيه ، والظاهر أننا متفقون عليها كبروياً ، أما صغروياً فقد نختلف بأنَّ هذا هل هو من الموارد التي قصد فيها المعنى المطابقي للألفاظ أو المعنى الكنائي ، ولكن هذا اختلاف في الصغرى والمهم هو الالتفات إلى الكبرى ، كما أنَّ محاولة تطبيق هذه الكبرى على الصغريات المناسبة شيء مهم أيضاً ، ولذلك يمكن أن يقال إنَّ الفقه يحتاج إلى صناعة وذوق معاً لا أنه صناعة فقط ، فمثلاً إذا فرض أنه كانت هناك امرأة لا تحمل من زوجها فنأخذ حيمناً من رجل أجنبي ونضعه في رحمها - وسواء كان بتلقيحه في الخارج أم الداخل فإنَّ هذا ليس بمهم لنا - فهل هذه عملية جائزة أو ليست بجائزة ؟ قال بعض الفقهاء:- إنه لا يجوز ، من باب أنه توجد عندنا رواية تلعن من يضع نطفته في رحم امرأة لا تحلّ له ، من قبيل رواية عليّ بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( إنَّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً [ رجل ][8] أقرّ نطفته في رحمٍ يحرم عليه )[9] ، فإذن المتبنّي لهذا الرأي أخذ بالمعنى المطابقي وقال إنَّ هذا نحو من الإقرار للنطفة في رحمٍ تحرم عليه فهو لا يجوز.

ولا يصير أحد حرفياً جداً فيقول:- إنَّ الذي يضع النطفة هو الطبيب وليس صاحب النطفة ، فلا يصدق عليه أنه أقرّ نطفته في رحم المرأة الأجنبية ، فلا الطبيب مشمول للنص ولا صاحب النطفة.

فنقول:- إنَّ هذه كلّها تمسّكات بالألفاظ والحروف ، وسوف تصير النتيجة هكذا.

والحال أنه يمكن أن يقال:- إنَّ هذه كناية عن الزنا ، فإنَّ الرواية ناظرة إلى الزنا وهذه الألفاظ كناية عنه ، وهي أجنبية عن ذلك المعنى أو ما يقرب منه.

فإذن نحتاج إلى ذوق.

وفي محل كلامنا الوارد في الرواية أنَّ السوق هو أبغض البقاع إلى الله عزّ وجلّ فلذلك أوّل داخلٍ يكون فعله مبغوضاً وهكذا آخر خارج منه ، فإنَّ المقصود من هذا ليس الأوّلية بالمعنى اللفظي والحرفي والدقّي ، وإلا لو فرضنا في يوم من الأيام تأخر أهل السوق بأجمعهم لسببٍ ما فاضطررت أنا الذي من أهل السوق أن أدخل السوق فهل يصدق علي أني أوّل داخلٍ إلى السوق وتشملني الرواية ويقال إنَّ هذا الدخول مكروه لأني أوّل داخل فيه ؟! كلا ، وإنما المقصود هو أن يكون الشخص مقبلاً على الدنيا وأن يكون همّه الدنيا والأموال والسوق ، أي حالة الشره والانكباب على الدنيا ، وعلى هذا الأساس يكون المقصود هو أنه يدخل قبل الوقت المناسب والمقرّر للسوق ، فمثلاً لو كان المناسب في زماننا أن يدخل الشخص السوق في الساعة الثامنة ولكن هذا الشخص أتى قبل ذلك فهنا تكون الكراهة ، أما أنه يأتي على الوقت المناسب أو بعده لكن بقية أهل السوق لم يأتوا فهل هذا يكون مشمولاً أيضاً ؟ كلا هو ليس مشمولاً.

إذن النظر في الحقيقة ليس إلى الأوّلية والآخرية بمعناها الحرفي والمطابقي ، وإنما المقصود الكناية عن الدخول قبل الوقت المقرر والخروج بعد الوقت المقرّر من باب الانكباب على الدنيا ، هكذا ينبغي أن تفسّر الرواية .

فإذن يرتفع هذا الاشكال من أساسه ، فنقول للشخص الذي يأتي أوّلاً هل جئت قبل الوقت المناسب أو لا ؟ فأن كان قد أتى قبل الوقت المناسب فهو مشمول للرواية ، وأما إذا جاء في الوقت المناسب أو بعده فهذا ليس مشولاً للرواية حتى لو كان أوّل الداخلين ، وهكذا بالنسبة إلى الخارج منه[10] .


[1] وهذا هو استدراكنا.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج6، ص460، ابواب التعقيب، ب18، ح6، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، العاملي، ج6، ص461، ابواب التعقيب، ب18، ح10، ط آل البيت.
[4] والترديد هو أن جابر بن يزيد الجعفي إذا ثبتت وثاقته فالرواية تصير معتبرة وغذا توقفنا فيه فسوف تصير الرواية محل تأمل.
[5] وهو المفيد الثاني أي ابن الشيخ الطوسي.
[6] وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص469، ابواب آداب التجارة، ب60، ح2، ط آل البيت.
[7] وسائل الشيعة، العاملي، ج17، ص469، ابواب آداب التجارة، ب60، ح1، ط آل البيت.
[8] هذا ما هو الموجود في الكافي وهو المناسب.
[9] وسائل الشيعة، العاملي، ج20، ص317، ابواب النكاح المحرم، ب6، ح1، ط آل البيت.
[10] ولو قلت: إنه يرتفع الاشكال ايضاً بناء على الملاحظة المتقدمة وهي أنه يكره ذلك إذا جمع الشخص يسن أن يكون اول داخل وآخر خارج فبناء عليه اكون انا أول داخل ولكني لا أكون آخر خارج منه.قلت:- ليس من البعيد ان المفهوم من الرواية المفهوم العرفي لأنها عللت بمبغوضية المكان فإذا كان لأجل مبغوضية المكان فالجمع حينئذٍ بينهما ليس هو الدخيل وإنما حتى لو دخل أولاً من دون أن يخرج آخراً فهذا ايضاَ يكون مشمولاً لهذ النكتة اليت اشرنا إليه، نعم إذا غضضنا النظر عن هذا وبنينا على ما ذكرتم فالاشكال يرتفع حينئذٍ.