الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/04/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة (44) استحباب التفقه في التجارة ( آداب التجارة )- كتاب التجارة.

 

آداب التجارة.

مسألة 44: يستحب التفقه فيها ليعرف صحيح البيع وفاسده ويسلم من الربا، ومع الشك في الصحة والفساد لا يجوز له ترتيب آثار الصحة، بل يتعين عليه الاحتياط، ويستحب أن يساوي بين المتبايعين فلا يفرق بين المماكس وغيره بزيادة السعر في الأول أو بنقصه، أما لو فرق بينهم لمرجحات شرعية كالعلم والتقوى ونحوهما فالظاهر أنه لا بأس به، ويستحب أن يقيل النادم‌ ويشهد الشهادتين عند العقد، ويكبر اللّه تعالى عنده، ويأخذ الناقص ويعطى الراجح.

..........................................................................................................

بما أنَّ المسألة تشتمل على المستحبات فنمرّ عليها مرور الكرام.

ومحل كلامنا الآن في صدر المسألة يعني قوله: ( يستحب التفقه فيها ليعرف صحيح البيع وفاسده ويسلم من الربا ) ، وتشتمل المسألة المذكورة على عدة نقاط:-

النقطة الأولى:- يستحب التفقه في أحكام التجارة لأمرين؛ الأوّل ليعرف صحيح البيع ويميزه عن فاسده، والثاني ليسلم من الربا.

ولتوضيح الحال في هذه النقطة نذكر بعض القضايا:-

الأولى:- قد علل استحباب التفقه في أحكام التجارة بأمرين هما ليعرف صحيح البيع وفاسده وليسلم من الربا.

وكان المناسب التعليل بشيء آخر وهو الأخبار فيقال:- إنه يستحب التفقه في أحكام التجارة للأخبار ، ولا نعلل بهذين الأمرين فإنه سوف يتضح أنَّ التعليل بهما عليل.

والوجه في أنهما لا يصلحان للتعليل:- هو أن الشك في صحة المعاملة وفسادها تارة يكون بقطع النظر عن ترتيب الآثار، وأخرى يفترض إرادة تريب الآثار، وثالثة يفترض أنا نشك لا من حيث الصحة والفساد - أي من حيث الحكم الوضعي - وإنما نشك من حيث الحكم التكليفي أي في أصل الحرمة التكليفية ، كما هو من قبيل بيع المجهول ، ولكن مرة من دون إرادة ترتيب الآثار، وأخرى نلاحظ ترتيب الآثار - أي بيع المجهول وأخذ الثمن والمثمن - وثالثة يكون الشك في الحكم التكليفي، أي في أنَّ هذه المعاملة يحتمل أن تكون محرمة كما لو كنا نحتمل أن تكون ربوية.

أما على الأول:- أي من دون نظر إلى الآثار ومن دون إرادة ترتيب الآثار فلا محذور في إيقاع هذه المعاملة ما دام لا يراد ترتيب الآثار وحينئذٍ ايقاعها يكون مباحاً لا محرّماً ولا مكروها ، ولا محذور في ذلك ، فنفس ايقاع المعاملة التي هي مشكوكة الصحة لا محذور فيه ، وحتى لو افترضنا أنها فاسدة لا شيء فيه مادام قد غضضنا النظر عن ترتيب الآثار.

إذن في هذه الحالة لا يصلح هذين الأمرين المتقدّمين كتعليلٍ لاستحباب التفقه.

وأما على الثاني:- فالمناسب حرمة ايقاع المعاملة بقصد ترتيب الآثار بحيث ألزمه بأخذ ما عنده من الثمن أو المثمن وذلك لما قرأناه في المكاسب من أنه عند الشك في صحة المعاملة وفسادها الأصل هو الفساد لأصالة عدم ترتيب الأثر والمقصود من الأصل هنا يعني الاستصحاب أي قبلاً لم يكن نقل وانتقال ونشك بإجراء هذه المعاملة التي نشك في صحتها نشك في ترتيب الأثر فنستصحب عدم ترتب الأثر.

وقد يقال:- إنَّ الأصل صحة المعاملة تمسكاً بـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنه يثبت صحة المعاملة.

والجواب:- إنه مرةً ننظر إلى الأصل اللفظي، ومرة ننظر إلى الأصل العملي ، فعلى الأوّل يكون مقتضى الأصل اللفظي من ﴿ أحل الله البيع ﴾ أو ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ أو ﴿ تجارة عن تراض ﴾ أنَّ هذه المعاملة صحيحة ويترتب عليها الآثار.

فإذن مع وجود الأصل اللفظي لا تصل النوبة إلى الدليل الفقاهتي.

وأما إذا قلنا بأنه لا يوجد فيها إطلاق - لأنه قد يناقش في إطلاقها لسبب وآخر - فتصل النوبة إلى الأصل العملي وهو يقتضى عدم ترتيب الأثر.

إذن هذه المعاملة المشكوكة الصحة والفساد إما أن نفترضها مشكوكة الصحة بنحو الشبهة الموضوعية - يعني أنَّ مصداقها مشكوك أي هل هي مصداق للبيع حتى تقع صحيحة أو هي مصداق للربا حتى تقع فاسدة فهذا من التمسّك بالإطلاق أو العام في الشبهة المصداقية - وهذا غير جائز فنصير إلى الأصل العملي وهو يقتضي عدم ترتيب الأثر.

أو نفترض أنَّ الشبهة حكمية وقلنا إنَّ هذه ليس فيها إطلاق فنصير حينئذٍ إلى استصحاب عدم ترتيب الأثر.

إذن إذا كنّا نشك في صحة المعاملة وكان المقصود ترتيب الأثر فالمناسب جريان أصالة عدم ترتيب الأثر ، فلا يجوز التصرّف في مال الغير من دون إذنه، وبناءً على هذا سوف يصير تعلّم أحكام التجارة في هذه الحالة واجباً خوف الوقوع في المحرّم.

وأما على الثالث:- ففي مثل هذه الحالة تارة نفترض أنَّ المعاملة التي نريد أن نجريها ونشك في حرمتها واحدة أو أكثر ولكن من دون علم إجمالي بوجود واحدة محرّمة، وأخرى يفترض أنها معاملات متعدّدة ويحصل علم إجمالي بوجود واحدة محرّمة فيها.

فعلى الأوّل:- فعند الشك في حرمتها يكون الشك شكاً في أصل التكليف فيكون مجرى للبراءة؛ لأنه شك في الحرمة تكليفية لا شكٌّ في الصحة والفساد ، ولا موجب للتعلم؛ لأنها ما دامت جائزة بمقتضى الأصل فلا يستحبّ التعلّم.

وعلى الثاني:- فهذا علم إجمالي في الأمور التدريجية وهو منجّز كالعلم الإجمالي في الأمور الدفعية - يعني العرضية - وحينئذٍ يحصل علم إجمالي بأن واحدة من هذه المعاملات حتماً تكون ربوية إذا لم تتعلم أحكام التجارة، فإذا حصل علم فيصير العلم منجّزاً ، فلا يجوز الارتكاب آنذاك ويجب تعلم أحكام التجارة حتى تخرج هذه المعاملة التي أريد إجرائها من الطرفية للعلم الإجمالي.

إذن اتضح أنَّ هذا التعليل لا يمكن الاستناد إليه، بل المناسب ملاحظة الأخبار، فإن استفدنا منها الاستحباب كانت هي المدرك.

نعم الأخبار ربما هي تعلل بخوف الوقوع في الربا ولكن بالتالي سوف يصير المستند هو الأخبار، وسوف نلاحظ أنه ربما يظهر منها رجحان التعلّم خوف الوقوع في الرب.

ولعلك تقول:- إذا كان هذا يظهر منها فعلاً فسوف يكون مقصود السيّد الماتن(قده) هو هذا - يعني يستحب تعلّم أحكام التجارة لأجل خوف الوقوع في الربا حسب ما دلت عليه الأخبار - فبالتالي يصير المستند هو الأخبار، لكن ذكر النكتة المذكورة في الأخبار إذا كان هذا مقصوده فهذا شيء جيد، ولكن إضافة تعبير(حتى يعرف صحيح المعاملة ويميزه من فاسده) فإن هذا ليس مذكوراً في الأخبار ، اللهم إلا أن نحاول من هنا وهناك إيجاد بعض الأخبار حتى من هذا الجانب.

والأخبار هي:-

الرواية الأولى:- محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسى، عن أبي الجارود، وعن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول على المنبر:- ( يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأُمّة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا أيمانكم بالصدق، التاجر فاجر، والفاجر في النار إلّا من أخذ الحق وأعطى الحق ) ، ورواه الشيخ الصدوق بإسناده عن الأصبغ بن نباته.

وإذا نظرنا إلى هذه الرواية نراها قد ذكرت الفقه ثم المتجر ، وبعد ذلك قال: ( والله للربا ... ) ، فإذن الحذر هو خوف الوقوع في الربا ، فهي واضحة في ذلك.

الرواية الثانية:- عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قال أمير المؤمنين عليه السلام:- من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثمّ ارتطم).

وهذه الرواية أيضا كما ترى عللت الأمر بالتفقه والتعلم بخوف الوقوع في الربا.

يبقى شيء:- وهو أنه هل يستفاد من هاتين الروايتين استحباب التعلم قبل إيقاع التجارة ، أو يستفاد كراهة التجارة قبل التعلم؟

نقول:- إنَّ هذه دقة ليست مهمة ، فإن النتيجة واحدة تقريباً ، والمهم أنها إما أن تدل على أنَّ التفقه راجح أو إنَّ إيقاع التجارة قبل التعلّم مرجوح.

فإذن غاية ما يستفاد منهما أنَّ التعلم مستحب خوف الوقوع في الربا، أما التعلّم لأجل معرفة صحيح المعاملة من فاسدها فهو لم يذكر.

اللهم إلا أن تقول إنَّ الرواية الأولى التي قالت ( الفقه ثم المتجر ) ثلاث مرات هي مطلقة ، يعني مطلوب منك دائماً قبل التجارة التفقه من دون تقييد بخوف الوقوع في الربا، وما ذكر بعد ذلك بقوله:- ( والله للربا في هذه الأمة ... ) ليس مقيداً لذلك الإطلاق وإنما هو بيان مطلب آخر يصير سبباً للحث أكثر، فهنا تصلح الرواية حينئذٍ للنكتة الثانية.