الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/02/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 39 ) حكم جوائز الظالم – المكاسب المحرّمة.

وقد يشكل عليها بإشكالين:-

الاشكال الأول:- إنَّ هذه الآية الكريمة تنقل قضية وقعت في زمن غابر ووقوعها لا يدل على أنها جائزة ومشروعة ، فمجرد النقل ليست له دلالة على الجواز ، خصوصاً أنَّ هذا قد وقع في الزمن السالف ، فإذن مجرّد النقل في زماننا لا يدل المشروعية فضلاً عن الزمن السالف وهذا لا يمكن من خلاله أن القرعة مشروعة.

وفيه:-

أوّلاً:- إنَّ هذا وجيه لو لم يكن أحد المشتركين في القرعة نبيّ ويونس عليه السلام نبيّ فاشتراكه في القرعة يدل على شرعيتها ، نعم لو نقل القرآن عن جماعة عاديين ساهموا وكان بعضهم من المدخضين فصحيح هذا لا يدل على الجواز والشرعية ، أما مادام يوجد معهم نبيّ وساهم فهذا يدل على الجواز والشرعية.

ثانياً:- إنَّ نفس سكوت القرآن الكريم عن التعليق أنَّ هذا عمل مرفوض وغير شرعي فيه دلالة على الامضاء والشرعية وإلا لنبّه على ذلك ، وهذه القضية لو تمت فهي نافعة في كثير من المجالات ، ولذلك نجد لقرآن الكريم في بعض المجالات حينما ينقل بعض القضايا يعلق عليها بأنَّ هذا باطل أو هو من عمل الكاذبين أو الفاسقين أو الكافرين أما هنا فهو لم يعلّق بشيء فهذا ليس من البعيد أنه نستفيد منه الجواز ، وهذا شيء وجيه ، فإذن هذا الاشكال ليس بتام.

نعم هناك اشكال آخر سوف نذكره فيما بعد ولكنه اشكال آخر أما هذا الاشكال - وهو أنه لا تثبت الشرعية بمجرد النقل - مدفوع بهذين الجوابين.

الاشكال الثاني:- حتى لو سلّمنا على أنها تدل على الشرعية إلا أنَّ غاية ما يثبت بذلك هو الشرعية في الزمن السالف ونحن نريد اثبات الشرعية في الاسلام لا في تلك الديانة ، فأقصى ما يثبت أنه كان شرعياً في تلك الديانة أما كيف تثبت أنه شرعي الاسلام والمفروض أننا نريد اثبات شرعيته في الاسلام ؟

وفيه:-

أوّلاً:- يمكن أن يقال: إنَّ نفس سكوت القرآن الكريم عن التعليق يمكن أن يستفاد منه أنَّ هذا ممضي حتى في الشريعة الاسلامية ، وإلا كان من المناسب للقرآن الكريم أن يقول ( أنتم لا تقترعوا ) فسكوته لا يبعد أن يفهم منه أنَّ هذا ممضي عند الله عزّ وجلّ في جميع الديانات بما في ذلك الاسلام وإلا لعلّق وقال على الأقل ( لا يجوز لكم في أن تصنعوا ذلك ) ، وهذه دلالة عرفيه قريبة لا بأس بها.

ثانياً:- بناءً على قبول استصحاب عدم النسخ يلزم جريانه هنا أيضاً ، فإنًّ هذا الحكم كان ثابتاً فيما سبق ونشك في ارتفاعه فيجري استصحاب بقائه ، نعم هناك اشكالات على نفس استصحاب أحكام الشرائع السابقة واستصحاب عدم النسخ مذكورة في علم الأصول لا داعي إلى ذكرها ، ولكن قلنا بناء على التغلّب على تلك الاشكالات وقبول هذا الاستصحاب يمكن أن نستعين به في مقامنا ونستصحب حكم الشريعة السابقة ويثبت بذلك المطلوب.

إذن اتضح من خلال ما ذكرناه أنَّ هذين الاشكالين قابلان للدفع.

نعم هناك اشكالان آخران:-

الاشكال الأوّل:- إنَّ القرآن الكريم ينقل قضية في واقعة ، يعني وقعت قضية فساهموا ويثبت بذلك شرعية المساهمة والقرعة ولكن في تلك القضية ، وأجواء تلك القضية لم تنقل إلينا وهي مجملة ولعلّه كان هناك توافق بين القوم فهذه قرعة توافقية ، يعني أنا وأنت يوجد بيننا نزاع فاتفقنا على القرعة فيما بيننا وهذا كما قلنا نحو من الصلح والاتفاق وهذا لا شيء فيه ، ومادام يوجد هذا الاحتمال فحينئذٍ لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية الكريمة فإنه سوف يثبت الشرعية في الجملة لا بالجملة ، والشرعية في الجملة عند التوافق لا إشكال فيها.

الاشكال الثاني:- هي تدل على الشرعية في موردها لا في غيره فلا يمكن أن نستفيد منها حكماً كلياً وأنَّ القرعة في كلّ أمر مجهول وكلّ أمر مشكل ، بل أقصى ما تدل عليه هو الشرعية في الجملة أما أنه في جميع الموارد فهذا لا يمكن أن نستفيده ، وإلغاء خصوصية المورد لا مجال لها هنا لأنَّ هذه القضية يحتمل أنها مصيرية حيث يدور الأمر بين غرق المجموع وبين غرق واحد ولعلّ القرعة شرّعت في خصوص هذا المورد ، فاحتمال الخصوصية موجود ولا يمكن استفادة الشرعية في جميع القضايا حتى إذا لم تكن من هذه القبيل ، فلعل القرعة ثابتة في الموارد المصيرية المهمة ، ومادام هذا الاحتمال موجود فلا يمكن استفادة التعميم منها.

إذن الآية الكريمة ليست تامة لهذين الاشكالين لا لذينك الاشكالين.

الآية الثانية:- قوله تعالى ﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾[1] ، وتنقل في أسباب النزول أن حنّا والدة مريم عليها السلام حينما ولدتها ذهبت بها إلى بيت المقدس فتنافس علماء بني اسرائيل على كفالتها وتربيتها لأنها من أسرة آل عمران التي هي أسرة شريفة وكان يُتنافس في خدمتها والتقرّب إليها وكان من ضمنهم زكريا عليه السلام فساهموا وكانت طريقة القرعة أن يلقون أقلامهم التي يكتبون بها الكتاب المقدّس عندهم فغرقت جميع الأقلام إلا قلم زكريا فقد طفا على الماء وهذا كان مؤشراً عندهم على أنه هو الفائز فتكفّلها ، ونحن كما قلنا إنَّ سبب الزول ليس بحجة ، ولكن من يقرأ الآية الكريمة يفهم منها أنه كانت هناك عملية مساهمة واقتراع حيث قالت الآية الكريمة ﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ يعني يختصمون على كفالة وتربية مريم وهذا يدل على شرعية المساهمة والاقتراع بنفس التقريب السابق.

والاشكالان السابقان يأتيان أيضاً حيث يقال إنَّ هذا نقل لقضية وقعت في زمن سالف ، والجواب نفس الجواب فنقول أوّلاً: إنَّ أحد المشتركين كان زكريا وهو نبي ، وثانياً: إنَّ القرآن الكريم لم يعلّق وهذا يدل على الامضاء ، ويأتي الاشكال الثاني أيضاً فيقال صحيح إنَّ هذا حكم جائز ولكن يحتمل أنه مختص بالشرعية السابقة ، والجوابان السابقان على هذا الاشكال يأتيان هنا أيضاً ، والجواب الأول يقال: إنَّ القرآن لكريم لم يعلّق فعدم تعليقه يدل على قبوله حتى في شريعتنا ، والجواب الثاني: استصحاب عدم النسخ بناءً على جريانه في علم الأصول فهو يجري هنا أيضاً ، والمهم ما أثرناه من الاشكالان فإنهما يأتيان هنا أيضاً الأوّل أن نقول إنَّ هذه قضية في واقعة ولعله حصل اتفاق فيما بينهم أن الذي يكفل مريم هو من يطفو قلمه فلا يمكن أن سنتكشف منها حجية القرعة في كلّ أمر مجهول بل لعلّها خاصة في مورد الاتفاق ، والاشكال الثاني هو أنَّ هذه قضية مصيرية مهمة لأنه توحد فيها كفالة فلعله لأهمية القضية كانت القرعة فيها حجة فلا يمكن إلغاء لخصوصية والتعدي إلى سائر الموارد بالجزم بعدم الخصوصية.

إذن اتضح من خلال ما ذكرنا أنَّ الكتاب الكريم لا يمكن التمسّك به لإثبات حجية القرعة.

وأما الاستدلال بالسنَّة الشريفة:- فهناك جملة الروايات:-

الأولى:- ما رواه محمد بن حكيم قال:- ( سألت أبا الحسن عليه السلام عن شيء فقال لي:- كل مجهول ففيه القرعة . قلت له:- إنَّ القرعة تخطئ وتصيب ، قال:- كل ما حكم الله به فليس بمخطئ )[2] ، وتقريب الدلالة هو أنَّ الامام عليه السلام بعد أن سأله محمد بن حكيم وقال له إن القرعة تخطئ وتصيب اجاب عليه السلام ( كل ما حكم الله به فليس بمخطئ ) وهذا يدل على أن القرعة تعيّن حكم الله أو أنَّ حكم الله عز وجل هو القرعة فلا تخطئ - يعني أن القرعة هي تصيب حكم الله أو أن حكم الله هو شرعية القرعة - وحينئذٍ نستفيد منها قضية كلّية لا تختص بخصوص المورد ، وبالتالي لا مجال لأنَّ يقال إن محمد بن حكيم قال ( سألت أبا الحسن عليه السلام عن شيء ) والشيء مجهول فلعل لتلك القضية المسؤول عنها خصوصية فلا نستفيد التعميم ، فإنَّ هذا الكلام لا يأتي فإنَّ الامام عليه السلام قال ( كل ما حكم الله به فليس بمخطئ ) نستفيد منه العموم والشمول ، فإذن الاجمال الموجود في كلمة ( شيء ) لا يضرنا بعد جواب الامام الذي فيه دلالة على العموم بقرينة التعليل حيث تمسّك بالتعليل وهو أنَّ القرعة حكم الله وهو ليس بمخطئ فيدلّ على عمومية شرعية القرعة ، فإذن دلالة الرواية تامة ولا إشكال فيها.

إنما الكلام من حيث السند:- فقد رواها الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحي - صاحب نوادر الحكمة وهو رجل ثقة وطريق الشيخ إليه لا مشكلة فيه - عن موسى بن عمرو عن علي بن عثمان عن محمد بن حكيم ، والمشكلة الأساسية هي في علي بن عثمان فإنه مجهول الحال ، وهل هناك من علاج أو من طريق آخر يمكن الاستعانة به للتغلّب على هذه المشكلة ؟


[1] آل عمران/السورة3، الآية44.
[2] وسائل الشيعة، العاملي، ج27، ص260، ابواب كيفية الحكم، ب13، ح11، ط آل البيت.