الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

36/12/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- مسألة ( 17 ) -  المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وفيه:- إنّه حتى لو كان المورد من إضافة الصفة إلى الموصوف - أي ومن الناس من يشتري الحديث اللهوي - لكن تقدّم في الجواب عن هذا الاشكال في الآية الأولى أنّ الحديث يتصف بكونه زوراً في الآية الأولى أو لهوياً في الاية الثانية كما يكون باعتبار مضمونه يمكن أن يصير لهوياً باعتبار كيفيته، فالحديث الذي تكون كفيته باطلة وغنائية ولهوية يصحّ أن يوصف بأنه لهويّ، وقلنا إنَّ المصحّح لذلك هو اتحاد الكيف مع المكيّف فإنهما في عالم الخارج واحدٌ فيصحّ أو يوصف الكلام بأنّه لهوي أو زور أو ما شاكل ذلك.
إذن بناءً على هذا لا تضرّ إضافة الصفة إلى الموصوف في كون الحرام هو الغناء بمعنى الكلام، بل يبقى الغناء بمعنى الكيفية  الباطلة كما هو المعهود من معناه عرفاً ولغةً، وعلى هذا الأساس لا يكون هذا التفسير الروائي أو الآية الكريمة بهذا الشكل منافياً لتفسير الغناء بمعنى الكيفية، فما أفاده الشيخ(قده) من الإشكال قابل للمناقشة بنفس المناقشة التي أشرنا ليها في الآية الأولى.
والأنسب أن يشكل على الاستدلال بهذه الاية الكريمة بإشكال اخر:- وهو أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على التحريم لأنها لو اقتصرت على الجملة الأولى فقط أمكن أن نستفيد منها التحريم، يعني لو كانت الآية تقول ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث  أولئك لهم عذاب مهين ﴾ أما جملتي ( ليضلّ ) و ( ويتخذها هزوا ) ليست موجودتان بل الموجود هو صدر الآية وذيلها فقط وجاءت الرواية وفسّرت لهو الحديث بالغناء فسوف يصير المعنى هو ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) أي يتعامل مع الغناء والشراء هنا كناية عن لتعامل فهو يتعامل ويتفاعل مع لهو الحديث فتدلّ على التحريم، ولكن الآية الكريمة يوجد فيها قيد وهو ( ليضلّ عن سبيل الله ) يعني أنَّ الحديث الذي يوجب الإظلال عن سبيل الله هو الذي يترتّب عليه العذاب المهين، ومن المعلوم أنّ بعض أقسام الغناء يمكن أن يقال هي لا تضلّ عن سبيل الله كما قد يقال بالنسبة إلى الرواديد فقد يتفاعل الكثير من الناس مع القضية الحسينية والمصيبة من خلال هذا اللحن المؤثر في حقّه ولكن هو في سبيل الحقّ،  أو في قراءة القرآن فهي تؤثر فيه أيضاً إذا كانت بهذه الكيفية، فصدق عنوان ( ليضل ) عليه هو  أوّل الكلام، ولا أقل يشك أنّه يصدق أنّ فيه إضلال عن سبيل الله أو لا مادام يؤثر في سبيل الحقّ، وحينئذٍ يكفينا هذا لعدم جواز التمسّك بالآية الكريمة إذ يصير المورد من التمسّك في العام في الشبهة المصداقية.
نعم لو جزمت أنت بأنّه حتى هذا فيه إضلالٌ عن سبيل الله فلك الحقّ في ذلك وليس لي تعليق، ولكني أشك في ذلك فيكفيني الشك ويصير تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية. ويوجد جواب آخر:- وهو أنّ الآية الكريمة قالت ﴿ ويتخذها هزواً ﴾ وهذا قيدٌ ثانٍ والضمير في ( ويتخذها ) يرجع إلى ماذا ؟ يحتمل أنه يرجع إلى سبيل الله - أي يتخذ سبيل الله هزوا كالقرآن أو كلّ ما يؤدي إلى الله عزّ وجلّ - والسبيل يؤنّث فيرجع الضمير له مؤنثاً ولا مشكلة فيها، أو يرجع الضمير إلى الآيات القرآنية الواردة في صدر السورة لأنّه ذكرت في صدرها آيات الله فيرجع الضمير إلى آيات الله فيصر المعنى ( ويتخذ آيات الله هزواً ) ثم بعد ذلك قالت الآية في الجزاء ﴿ أولئك لهم عذاب مهين ﴾ فالعذاب المهين على ماذا ؟ إنّه يكون بقيودٍ، القيد الأوّل ( يشتري لهو الحديث )، والثاني ( يضل عن سبيل الله )، والثالث ( يتخذها هزوا )، فهذا المجموع إذا اجتمع فأولئك لهم عذاب مهين.
إذن هذا لا ينفعنا في إثبات حرمة شراء الحديث اللهوي إذ المحرّم هو المجموع، وهذه نكتة ظريفة ينبغي الالتفات إليها.
إن قلت:- إنَّ اسم الاشارة الذي هو ( أولئك لهم ) يرجع إلى كلّ واحدٍ واحد من هذه الأمور - يعني من يشتري لهو الحديث له عذاب مهين ومن يضلّ عن سبيل الله له هذا الجزاء ومن يتخذ آيات الله هزواً له هذا العذاب المهين -.
قلت:- إنّه احتمالٌ وجيه ولكنّه احتمالٌ وذاك احتمالٌ آخر فعادت الآية الكريمة مجملة من هذه الناحية لا يصحّ التمسّك بها، وهذا من موارد قاعدة ( إذا جاء الاستدلال بطل الاستدلال ) الصحيحة.
الآية الثالثة:- وأما بالنسبة إلى الآية الثالثة أعني قوله تعالى ﴿ الذين لا يشهدون الزور ﴾ فأيضاً وردت رواية في تفسيرها بأنّه عبارة عن الغناء، فالآية مدحت عباد الله المؤمنين الذين يمشون على الأرض هوناً بأنهم لا يشهدون الزور والرواية فسّرت الزور بالغناء فتدلّ على التحريم.
والشيخ أشكل بنفس الإشكال السابق مع تغييرٍ في مفرداته حيث قال:- إنّ الآية تدلّ على أنّ المؤمن لا يحضر ولا يشهد مجالس التغنّي بالأباطيل من حيث الكلام، فإذا كان الزور هو هذا فتفسير الغناء بذلك يدلّ على أنّ الغناء من مقولة الكلام، ونصّ عبارته:- ( ومنه تظهر الخدشة في الطائفة الثالثة حيث إن مشاهد الزور التي مدح الله تعالى من لا يشهدها هي مجالس التغني بالأباطيل من الكلام، فإذا الآية فسّرت مشاهد الزور بالغناء فهذا يدلّ على أنّ الكلام من مقولة الألفاظ والكلام وهذا خارجٌ عن محلّ كلامنا ).
ويرد عليه:-
أوّلاً:- من أين لك قيد ( الكلام ) فأنت تبرّعت به ؟! وهذا إشكالٌ ومناقشة نذكرها، أمّا في الآية الأولى والثانية فلم نذكره لأنّه في الآية الأولى قالت ﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ فحينما فسّرت الرواية قول الزور بالغناء يأتي احتمال ما ذكره الشيخ من أنّ الغناء من مقولة الألفاظ والقول، وفي الآية الثانية يوجد لفظ ( لهو الحديث ) والحديث يعني الألفاظ والكلام فحينما فسّرت الرواية لهو الحديث بالغناء يأتي الإشكال الذي أثاره الشيخ من أنّ الغناء سوف يصير من مقولة الكلام، أمّا هنا فلفظ ( كلام ) أو ( حديث ) لا يوجد في هذه الآية الكريمة ولا توجد إشارة إلى اللفظ والكلام فيها من قربٍ ولا من بُعدٍ وما صدر منه(قده) غريب.
فنحن نتمسّك ونقول إنَّ الآية قالت ﴿ لا يشهدون الزور ﴾ والزور عبارة عن الباطل يعني أنَّ المؤمن لا يحضر الباطل ومن جملته الغناء، أمّا أنّه باطل من حيث الألفاظ والكلام فلم تقله، فالاستدلال بها ا من هذه الزاوية لا إشكال فيه.
ثانياً:- حتى لو فرض أنّ كلمة ( قول ) موجودة فإنّه يأتي ما أشرنا إليه عند مناقشتنا بلحاظ الآية الأولى وبلحاظ الآية الثانية من أن قول الزور يمكن أن يتّصف القول بالباطل من حيث مضمونه ويمكن أن يتّصف بالباطل من حيث كيفيته، فإذا طبّق قول الزور على الغناء فيمكن أن يكون هذا التطبيق من حيث الكيفيّة لا من حيث المضمون والألفاظ والمادة، فنفس ما ذكرناه هناك يأتي هنا.
ثالثاً:- وهو أهمها، وهو أنّ الآية الكريمة ليس فيها دلالة على الحرمة والإلزام، بل هي تمدح المؤمنين وأنّ من صفاتهم أنّهم لا يشهدون الزور، أمّا أنّ حضور الزور سوف يصير من المحرّمات فلا، يعني أنَّ تلك صفةُ مدحٍ، كما لو قيل ( المؤمن ينبغي له أن يواظب على صلاة الليل وينبغي له أن لا يترك قراءة القرآن ) وغير ذلك، وهل نستفيد من هذا التحريم ؟!! كلّا لا نستفيد منه ذلك، وصدور هذا من الشيخ(قده) غريبٌ.
ولعلّه يوجد عند الشيخ جوابٌ على هذا، ولكن كان من المناسب أن يذكره بلسان ( إن قلت، قلت ) لأنّ هذا شيء واردٌ وهو يأتي بشكلٍ واضح، ولكن يظهر أن الشيخ بعيدٌ عن هذا ويرى أنّ هذه من صفات المؤمن فإذا لم يتحلَّ بها فهو ليس بمؤمنٍ يعني قد فعل الحرام، وهذا الكلام واضح الوهن.
إذن اتضح أنّ هذه الآية الكريمة أيضاً لا يمكن التمسّك بها لما أشرنا إليه من أنها لا تدلّ على الإلزام.
ومنه يتضح الحال في الآية الرابعة لمن أراد أن يستدل بها والتي تقول ﴿ والذين هم عن اللغو معرضون ﴾ في صفات المؤمنين:- فاللغو في رواية القمّي - مع قطع النظر عن السند - فُسّر بالغناء فإذا أراد شخص الاستدلال بالآية بضمّ الرواية فنفس هذا الجواب الأخير يأتي هنا حيث يقال إنّ الآية الكريمة بصدد المدح والثناء وبيان صفات المؤمنين وهذا لا يدلّ على الإلزام.
والملخّص من كلّ ما ذكرناه:- أنّه استدل على تحريم الغناء بآيات ثلاث أو أربع لكن بعد ضمّ تفسير الروايات إليها،  والشيخ ناقشها بمناقشةٍ واحدةٍ جميعاً، ونحن لم نرتضِ مناقشته لما أشرنا إليه، ونحن ناقشنا التمسّك بهذه الآيات بمناقشةٍ أخرى.
فالآية الأولى التي قال ﴿ واجتنبوا قول الزور ﴾ قلنا يحصل تعارض بين ظهور كلمة ( اجتنبوا ) في الإلزام وظهور كلمة ( الزور ) في العموم والسعة فإمّا أن نرفع اليد عن ذلك الظهور في الإلزام ونبقي ظهور الموضوع والمتعلّق على سعته أو نضيّق ظهور الموضوع ونخصّصه بالحصّة المحرّمة ونحافظ على ظهور ( اجتنبوا ) في الالزام ولا مرجّح لأحدهما فتعود الآية الكريمة مجملة.
وأمّا الآية الكريمة الثانية التي تقول ﴿ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ﴾ قد أجبنا بأنّ فيها قيدان إضافيان وهما قيد ( ليضل ) وقيد ( يتخذها هزوا ) والعذاب المهين هو على هذا المجموع الثلاثي لا على الأوّل بخصوصه حتى نتمسّك بالآية بعد ضمّ الرواية إليها.
وأجبنا عن الآية الثالثة التي تقول ﴿ والذين لا يشهدون الزور ﴾ بأنها واردة في صدد مدح المؤمنين والمدح أعمّ من الإلزام.