الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/06/16

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مسألة ( 378 ) / الواجب الرابع من واجبات حج التمتع ( أفعال منى في اليوم العاشر ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 ولنا كلامان في هذا المجال أحدهما يرتبط بالدليل الأول والآخر يرتبط بالدليل الثاني:-
 أما ما يرتبط بالدليل الأول فقد يقال:- إن كلمة ( كان ) في خصوص المقام لا يمكن حملها على إرادة العادة وأن عادته صلى الله عليه وآله كانت هي الرمي ماشياً فإنه لم يحج إلّا مرّةً واحدةً وهي الحجة المعروفة بحجّة الوداع وهي الأولى والأخيرة [1] وإذا كان الأمر كذلك فكلمة ( كان ) لا معنى لحملها على إرادة العادة.
 والجواب:- إنه توجد روايتان دلتا على أنه صلى الله عليه وآله حج عشرين حجّة مستتراً كما هو الحال في مولانا قلب عالم الإمكان عليه السلام فإنه يحج في كل عام الحال أنه لا يراه أحد . إذن أمر النبي صلى الله عليه وآله ليس بأقل من هذا فهو كان يحج من دون أن يراه الناس ولعل تلك الحجّات كانت قبل البعثة النبويّة أو بعدها ولا حاجة إلى التدقيق من هذه الناحية والمهم هو أنه حجّ عشرين حجّة متستراً فلاحظ رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام:- ( حج رسول الله صلى الله عليه وآله عشرين حجّة مستسرّة كلها ) ، نعم كتب في المصدر - التهذيب أو الكافي - ( عشر حجّات متستراً كلها يمرّ بالمأزمين فينزل فيبول ) [2] .
 وعلى منوالها رواية سليمان بن مهران:- ( قلت لجعفر بن محمد عليه السلام:- كم حجّ رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال:- عشرين حجّة متستراً ، في كل حجّة يمرّ بالمأزمين فينزل فيبول ، فقلت له:- يا ابن رسول الله ولِمَ كان ينزل هناك فيبول ؟ قال:- لأنه موضعٌ عُبِدَ فيه الأصنام ومنه أخِذ الحجر الذي نُحِت منه هُبل .... ) [3] .
 ومن باب القضية الجانبية ذكرتها سابقاً:- وهي أن من جملة مستحبات الحج يمكن أن يقال - وإن لم يذكر ذلك في الكتب الفقهية في باب الحج - أن ينزل الحاج في المأزمين ويبول تأسّياً به صلى الله عليه وآله .
 إذن هو صلى الله عليه وآله قد حجّ عشرين حجّة ، ومعه فدلالة ( كان على العادة ) أمرٌ لا محذور فيه بعد هذا.
 إن قلت:- هل سند الحديثين المذكورين صحيح حتى يمكن الاعتماد عليهما ؟
 قلت:- كلا ليس بصحيح فإن الرواية الأولى تشتمل على عيسى الفرّاء حيث روى عن ابن أبي يعفور ولهذه الرواية طرق متعددة لعلها أربع أو خمس بيد أن كلها يمرّ بعيسى الفرّاء عن ابن أبي يعفور وعيسى الفراء لم يوثق بل هو مجهول الحال ، ومعه فالرواية المذكورة ضعيفة السند ، وهكذا الرواية الثانية فإنها تشتمل على بعض المجاهيل.
 ولكن رغم ذلك يمكن أن يتمّم الاستدلال ببيانين:-
 البيان الأول:- إن اجتماع هاتين لروايتين على بيان مطلب واحد والمفروض أنه لا يوجد هدف للوضع والكذب فإنه بضم هذا إلى ذاك ربما يحصل للفقيه الاطمئنان بصدور المضمون المذكور والقضية تتبع نفسية الفقيه من هذه الناحية.
 ولكن المهم عندي هو أن ألفت النظر إلى هذه الكبرى - وهي أنه أحياناً قد تكون لدينا روايتان أو أكثر هي من حيث السند ضعيفة ولكن لبعض الخصوصيات يحصل للفقيه الاطمئنان بحقانيتها - فإذا فرض تحقق ذلك فحينئذ تثبت الحجيّة من جهة الاطمئنان ، فإن قَبِلته فبها وإلا فنأتي إلى البيان الثاني.
 البيان الثاني:- إنه حتى على تقدير ضعف السند فبالتالي نحن نحتمل صدور هاتين الروايتين وبالتالي نحتمل حقاً أنه صلى الله عليه وآله قد حج عشرين حجّة وما دمنا نحتمل ذلك فصحيحة علي بن جعفر التي كانت تقول ( كان صلى الله عليه وآله يرمي ماشياً ) من حيث ظهورها لا معارض لها ولا يوجد ما يوجب إسقاطها لأن الموجب للإسقاط هو الجزم بكونه لم يحجّ أكثر من واحدة أما بعد أن احتملنا أنه حجّ أكثر من مرّة ولو بسبب هاتين الروايتين الضعيفتين فحينئذ لا موجب لإسقاط صحيحة علي بن جعفر من حيث ظهورها عن الحجيّة وهذه طريقة ظريفة نستفيد من خلالها من بعض الروايات الضعاف السند في بعض المجالات فكما كنا نستفيد أحياناً من الإجماع الذي هو محتمل المدرك لبياناتٍ تقدمت سابقاً كذلك يمكن أن نستفيد من الروايات الضعيفة السند في هذا المجال الذي أشرنا إليه وهو أنه لو كانت لدينا رواية تامّة السند والظهور ولكن كان هناك مانعٌ يمنع من الأخذ بظهورها وهو مثل ما أشرنا إليه - وهو أنه صلى الله عليه وآله لم يحج أكثر من مرَّة - فإذا كانت لدينا بعض الروايات الضعاف ولو واحدة فسوف يتولد احتمال أنه حجّ كثيراً وما دمنا نحتمل ذلك فيعود ظهور تلك الرواية لا موجب لرفع اليد عن حجيّته.
 وأما بالنسبة إلى الكلام الثاني:- وهو أنه قد يقول قائل:- كيف ثبت أن الأفضل زيارة الحسين عليه السلام ماشياً والحال أن بالإمكان الركوب ؟ ونحن قد قلنا إن سلوك الشيء الأصعب مع إمكان الأيسر لعلّه قضية لا يساعد عليها الاعتبار العقلائي فالشخص الذي يمكنه أن يصلي في الغرفة مع الراحة أحسن مما يذهب إلى السطح ويُتعِب نفسه مع الريح ... وهكذا في أمثلة أخرى ، إنه بناءً على هذا كيف نوجّه قضيّة المشي إلى الإمام الحسين ؟
 والجواب:- إن المشي للإمام الحسين عليه السلام ثبتت أفضليته لا من باب أن أفضل الأعمال أحمزها بل هو بعنوانه وبنفسه - أي بعنوان المشي وأن لم يكن فيه حمازة ومشقّة كما لو فرضنا أن الإنسان يرتاح إلى المشي - يشتمل على نحوٍ من التعظيم للإمام الحسين عليه السلام ولا ربط لذلك بكون أفضل الأعمال أحمزها بل هو بعنوانه نحوٌ من التعظيم له عليه السلام وقد دلّ عليه الدليل ولولا دلالة الدليل لربما كنّا نتوقف ولكن بعد وجود الدليل وفرض هذا العنوان الثانوي - وهو التعظيم - يكون للمشي خصوصية ، فنحن نسلم أن بعض الأعمال الشاقة التي يؤتى بها هي أفضل من غيرها إذا انطبق عنوانٌ ثانويٌّ غير عنوان الحمازة فعنوان الحمازة بنفسه لا يؤثر على أفضيّلة الفعل وإنما المهم هو العناوين الأخرى . هذا كله بالنسبة إلى مسألة المشي.
 وأما بالنسبة إلى رجحان الطهارة حالة الرمي:-
 فأما من حيث الفتوى:- فقد ذكر صاحب المدارك(قده) أن ذلك هو المشهور والمقصود الطهارة من الحدث ثم قال:- ( وقال المفيد والمرتضى وابن الجنيد لا يجوز إلا على طهرٍ ) [4] .
 وأما من حيث المستند:- فتوجد ستّ رواياتٍ تقريباً يمكن أن يستفاد منها أفضلية الطهارة منها صحيحة محمد بن مسلم:- ( سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجمار ، فقال:- لا ترمِ الجمار إلا وأنت على طهرٍ ) [5] ، وعلى منوالها روايات أخرى مذكورة في نفس الباب.
 والسؤال هو:- إن ظاهر مثل هذه الرواية هو اللزوم دون الرجحان - أي يلزم أن يكون الرامي على طهارة لا أنه يرجح ذلك - حيث قال عليه السلام:- ( لا ترم الجمار إلا وأنت على طهرٍ ) ومعه فكيف تحمل الطهارة على الاستحباب ؟


[1] وإنما سمّيت بالوداع لا لأنها آخر حجّاته كما قد يوحي التعبير بذلك بل لأنه التحق بعدها بالرفيق الأعلى.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص9 ب3 من أبواب الوقوف بالمشعر، ح2.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص9 ب3 من أبواب الوقوف بالمشعر، ح1.
[4] مدارك الأحكام، الموسوي العاملي، ج8، ص10.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص56، ب2 من أبواب رمي جمرة العقبة، ح1.