الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/02/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مسألة ( 365 ) / الواجب الثاني من واجبات حج التمتع ( الوقوف بعرفات ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 مسالة ( 366 ):- الظاهر أن الجبل موقف ولكن يكره الوقوف عليه ويستحب الوقوف على السفح من ميسرة الجبل.
 تشتمل المسالة المذكورة على نقاط ثلاث:-
 النقطة الأولى:- إن الجبل الموجود في عرفات هو جزء من الموقف وعرفات ويجوز الوقوف عليه ، نعم سياتي في النقطة الثانية أن ذلك مكروه - يعني في غير السفح من الجانب الأيسر - ولكنه أمر جائز وهذا هو المعروف بين أصحابنا ولم ينسب الخلاف في ذلك إلّا إلى ابن البراج وابن إدريس فانهما ذهبا إلى الحرمة وعدم جواز الوقوف عليه والظاهر أن مستندهم في ذلك موثقة سماعة على ما سوف يأتي انشاء الله تعالى ، وقال في المدارك ( إنهما حرّما الوقوف على الجبل إلّا لضرورة ) [1] والمقصود من الضرورة ما إذا ضاقت عرفات بالناس كما دلت عليه موثقة سماعة الآتية.
 هذا ولكن المناسب هو رأي المشهور - أعني أنها جزء من الموقف - وذلك لوجهين:-
 الوجه الأول:- إنه تقدم في المسألة السابقة أن لعرفات حدوداً أربعة وإن كانت الروايات والمحقق الحلي ذكر أنها خمسة ولكن قلنا إن المناسب كونها أربعة لما أشرنا إليه ، ومن الواضح أن جبل عرفات واقع في دائرة المحدود وليس خارجاً عنها ، فمقتضى التحديد بهذه الحدود الأربعة أو الخمسة يكون الجبل جزءاً من الموقف ومن منع من ذلك فعليه إقامة الدليل ، أي أن المقتضي لكون الجبل من عرفات تام وثابت وهو التحديد بالحدود المذكورة ، نعم هذا بمثابة المطلق فلو كان هناك مقيِّد يمنع من الأخذ بهذا الإطلاق فنأخذ به وسوف نلاحظ أن موثقة سماعة هل هي صالحة للتقييد أو لا ؟
 الوجه الثاني:- بعض الروايات من قبيل صحيحة معاوية المتقدمة حيث جاء فيها ( وحدّ عرفة من بطن عرنة وثوية ونمرة إلى ذي المجاز وخلف الجبل موقف ) والشاهد هو فقرة ( وخلف الجبل موقف ) بتقريب أن خلف الجبل إذا كان موقفاً فهذا يفهم منه أن نفس الجبل موقف إذ من البعيد أن يكون الخلف موقف إلّا أن نفس الجبل ليس موقفاً ، ومن هذا القبيل موثقة اسحاق بن عمار ( سألت أبا إبراهيم عليه السلام من الوقوف بعرفات فوق الجبل أحبّ إليك أم على الأرض ؟ فقال:- على الأرض ) [2] فان الوقوف على الجبل إذا لم يكن جائزا فمن المناسب للإمام أن يقول ( إن الوقوف على الجبل ليس بجائز ) لا ( أن الوقوف على الأرض أحب إلي من الوقوف على الجبل ) إن الجواب بالصيغة المذكورة يمكن أن يفهم منه أن كلّاً منهما جائز إلّا أن هذا أحب من هذا . إذن مقتضي كون الجبل جزء من الموقف ثابت فمن ادعى المنع فلابد له من إقامة الدليل والمقيد والمانع.
 وفي هذا المجال قد تبرز موثقة سماعة لإثبات عدم الجواز ونصّها:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- إذا كثر الناس بمنى وضاقت عليهم كيف يصنعون ؟ فقال:- يرتفعون إلى وادي مُحَسِّر ، قلت:- فإن كثروا بجمع [3] وضاقت عليهم كيف يصنعون ؟ فقال:- يرتفعون إلى المأزمين ، قلت:- فإن كانوا بالموقف وضاق عليهم كيف يصنعون ؟ فقال:- يرتفعون إلى الجبل وقف في ميسرة الجبل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف بعرفات فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها فنحّاها رسول الله صلى الله عليه وآله ففعلوا مثل ذلك فقال:- أيها الناس إنه ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ولكن هذا كله موقف وأشار بيده إلى الموقف وقال هذا كله موقف فتفرق الناس وفعل مثل ذلك بالمزدلفة ) [4] بتقريب:- أن الامام جوّز الوقوف على الجبل عند الضيق حيث سأله سماعة عمّا إذا ضاق الموقف فقال يرتفعون إلى الجبل . إذن هو موقف اضطراري لا حالة الاختيار كما هو الحال بالنسبة إلى وادي مُحَسِّر والمأزمين فإنه يجوز فيهما الوقوف عندما تضيق منى أو يضيق جمع ، وعلى منوالها روايته الأخرى:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- إذا ضاقت عرفة كيف يصنعون ؟ قال:- يرتفعون إلى الجبل ) [5] .
 وسند الرواية الأولى هكذا ( محمد بن الحسن بإسناده عن سعد عن محمد بن الحسين عن ابن أبي نصر عن محمد بن سماعة عن سماعة ) ومن المعلوم أن سند الشيخ إلى سعد بن عبد الله الأشعري القمي صحيح كما مرَّ مراراً وسعد ومحمد بن الحسين وابن أبي نصر هم من أجلة وأعاظم أصحابنا وسماعة مورد للتوثيق وإنما الكلام في محمد بن سماعة فقد يتوقف فيه بيد أن النجاشي ذكر اسم محمد بن سماعة بن موسى الصيرفي وقال إن له كتاباً ووثّقه فإن استظهرنا أن محمد بن سماعة المذكور ينصرف إلى ابن موسى الصيرفي الذي له كتاب ولا يوجد محمد بن سماعة آخر له كتاب فبها ونعمت وإلّا فيمكن توثيقه من خلال ابن أبي نصر فإنه من أحد الثلاثة الذين لا يروون إلّا عن ثقة - بناءً على تمامية هذه الكبرى - أما من رفض كِلا المطلبين فالرواية تكون عنده ضعيفة السند ، والأمر الأول شيء قريب فلا موجب للتوقف والأمر الثاني تامٌ عندنا .
 وأما الرواية الثانية فسندها ( عدة من أصحابنا عن سهل عن احمد بن محمد عن سماعة ) ، إن هذه الرواية يرويها الشيخ الكليني بقرينة ( عدة من أصحابنا ) والعدة كما قلنا مراراً لا موجب للتوقف من ناحيتها لأن أقلها ثلاثة فما فوق ومن البعيد أن يكون هؤلاء الثلاثة من الضعاف من مشايخ الشيخ الكليني فإن الطابع العام على مشايخه هو أنهم ثقاة فاحتمال أن الجميع من القسم الضعيف بعيد ، هذا لو لم نقل بأن اجتماع ثلاثة فما فوق حتى إذا كانوا من المجاهيل يولّد اطمئناناً والّا فالأمر أوضح آنذاك ، فالمشكلة هي في سهل فإن تساهلنا من ناحيته ولو من جهة رواية أجلة الأصحاب عنه فالأمر حينئذ ليس فيه من حيث مشكلة السند وإلّا فأحمد بن محمد فهو ابن عيسى أو ابن أبي نصر وكلاهما ثقة.
 والكلام يقع في أننا كيف نناقش دلالة هذه الرواية ؟
 يمكن أن يقال:- إن السؤال عن حالة ما إذا ضاقت عرفات بالناس فالإمام قال ( يرتفعون إلى الجبل ) وهذا كما يلتئم مع كون الجبل خارجاً عن الموقف ويصير جزءاً منه حالة الضرورة يلتئم أيضاً مع كونه جزءاً منه من البداية إلا أن سماعة كان غافلاً عن هذه القضية ولو لأجل أن الصعود على الجبل شيء قد لا يكون ميسوراً للجميع فالإمام عليه السلام نبهه على أن الجبل يجوز الوقوف عليه أيضاً ، فالرواية المذكورة حيادية من هذه الناحية
 ومما يؤكد ذلك يعني أن الجبل جزء من الوقف وجزئيته لا تختص بحالة الضرورة أنه عليه السلام قال ( وقف في ميسرة الجبل ) ومن المعلوم أن الوقوف في الميسرة هو من المستحبات حتى في حالة الاختيار فإن من المستحب الوقوف على الميسرة باعتبار أن الرواية قالت إن النبي وقف على الميسرة فلو كان التعليق دالاً على أن الجبل ليس موقفاً إلا في حالة الضرورة للزم أن يكون الوقوف في الميسرة كذلك لأن الامام عليه السلام علق الوقوف في المسرة على حالة ضيق عرفات بالناس حيث قال ( فقال:- يرتفعون إلى الجبل وقف في ميسرة الجبل فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف بعرفات ... ) ، إذن هذه قرينة صالحة بكون المقصود هو أن الوقوف على الجبل جائز من دون تقيّد بحالة الضرورة.
 إن قلت:- إن مقتضى قرينة وحدة السابق هو اختصاص كون الجبل موقفاً بحالة الضرورة ، وبيان ذلك:- هو أنه في السؤال الأول - يعني إذا ضاقت منى بالناس - وفي السؤال الثاني - يعني إذا ضاقت جمع بالناس - ذكر عليه السلام أنه يتسع الموقف إلى وادي مُحَسِّر - يعني بلحاظ منى - والى المأزمين - يعني بلحاظ المشعر - ومن الواضح أن وادي مُحَسِّر ليس جزءاً من منى وهكذا المأزمين ليساً جزءاً من جمع وإنما جزئيتهما تثبت في حالة الضرورة والاضطرار فكما في الموردين الأولين يقال ذلك فمن المناسب بقرينة وحدة السياق أن نقول ذلك بالنسبة إلى الجبل فيقال إن جزئيته للموقف معلّقة على الضرورة والاضطرار.
 قلت:- إن سعت دائرة قرينة وحدة السياق بهذا الشكل الوسيع أمر ليس بثابت وإنما القدر المتيقن منها هو أنه لو جاءت الفاظ في عبارة واحدة فإذا أريد من اللفظ الأول والثاني الاستحباب فيصير قرينة على أن اللفظ الثالث يراد منه الاستحباب أيضاً ، أما إذا كانت هناك اسئلة متعددة من السائل وفي السؤال الأول والثاني كان الاتساع معلقاً على حالة الضرورة فلا يلزم من ذلك أن يكون الأمر كذلك في المورد الثالث ما دام هي أسئلة جاءت من قبل الراوي . نعم لو طرح الإمام ذلك ابتداءً وقال ( تتسع منى إذا ضاقت إلى وادي محسر ويتسع جمع إذا ضاق إلى المأزمين وتتسع عرفات إذا ضاقت إلى الجبل ) فربما تكون قرينة وحدة السياق تامّة ، أما إذا جاءت أسئلة من الراوي فذلك أمر ليس بواضح خصوصاً ونحن أبرزنا قرينةً قد تنافي التمسك بوحدة السياق وهي الوقوف على ميسرة الجبل فإن جزئيته ليست متوقفة على الضيق كما أشرنا إلى ذلك.
 إن قلت:- إن التمسك بالقرينة التي أبرزناها - وهي ( وقف في ميسرة الجبل ) - هي وردت في موثقة سماعة الأولى ولم ترد في موثقته الثانية فإنه في الثانية قيل هكذا ( إذا ضاقت عرفة كيف يصنعون ؟ قال:- يرتفعون إلى الجبل ) ولم يقل عليه السلام ( يرتفعون إلى الجبل وقف في ميسرته ) حتى تتم القرينة المذكورة ، إذن فهذه القرينة إن تمت فهي تتم في الرواية الأولى دون الثانية.
 قلت:- من قال إن هاتين روايتان فإن من البعيد أن يسأل سماعة عن قضية واحدة مرتين ، فاحتمال تعدد الروايتين بعيد ، مضافاً إلى أنه يكفينا ثبوت التعليق في الرواية الأولى لإبراز القرينية وإن كانت الرواية الثانية ليس فيها هذه القرينة ، يعني أن المورد ليس من موارد كون إحدى الروايتين ظاهرة والثانية مجملة حتى يقال إذا كانت هذه مجملة فلا يسري إجمالها إلى ظهور تلك بل هذا من مورد أنه توجد قرينة في تلك الرواية وعدم وجود القرينة في الرواية الثانية لا يؤثر على القرينية الثابتة في الرواية الأولى.
 وعليه تكون النتيجة من كل هذا هو أن الوقوف على الجبل لا محذور فيه حتى في حالة الاختيار كما ذهب إليه المشهور.


[1] المدارك 7 -415.
[2] الوسائل 13 533 10 من احرام الحج والوقوف بعرفة ح5.
[3] وهو اسم للمشعر الحرام.
[4] الوسائل 13 535 11 من أبواب احرام الحج والوقوف بعرفة ح4.
[5] المصدر السابق ح3.