الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/02/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- الواجب الثاني في حج التمتع ( الوقوف بعرفات ) / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 الثاني من واجبات حج التمتع:- الوقوف بعرفات بقصد القربة . والمراد بالوقوف هو الحضور بعرفات من دون فرق بين أن يكون راكباً أو راجلاً ساكناً أو متحركاً.
 يشتمل المتن المذكور على نقاط ثلاث:-
 النقطة الأولى:- إن الكون في عرفات واجب في الجملة ، أي بقطع النظر الخصوصيات ككون الوقوف من الزوال إلى الغروب أو أنه هل يلزم أن يكون واقفاً أو يكفي مطلق الكون ، فإنه بقطع النظر عن هذه التفاصيل والخصوصيات يقال إن الكون واجبٌ ، والظاهر أن ذلك أي أصل الوجوب في الجملة من ضروريات الفقه بل من ضروريات الاسلام فإن الواضح بين جميع المسلمين ومن الضروريات الثابتة عندهم هو الحج وأن الجزء الرئيسي فيه هو الوقوف في عرفات ، ومعه لا نحتاج إلى إقامة دليل على الوجوب فانه مادام ذلك ضرورياً فذلك يعني بعبارة أخرى الجزم واليقين بالوجوب فإن ذلك لازم الأمر الضروري وبالتالي تعود الحجّيّة للقطع واليقين.
 وإذا رجعنا إلى الروايات قد يمكن أن نستفيد الوجوب من الأمر الوارد في بعضها بالوقوف في عرفات ، بيد أن الأمر لا حاجة إلى أن نوصله إلى الروايات بعدما كانت القضية ضرورية . نعم إذا فرض أنه احتجنا في تشخيص حكم بعض الخصوصيات إلى ملاحظة بعض الروايات كان شيئاً وجيهاً ، ولكن سوف نلاحظ فيما بعد أن ملاحظة حكم الخصوصيات لا يتوقف على ذلك.
 إذن الدليل المهم هو كون القضية ضرورية.
 هذا وقد ذكر السيد الخوئي(قده):- إنه يمكن أن نتمسك لوجوب الوقوف بعرفات بالأخبار البيانية ، أعني مثل صحيحة معاوية بن عمار الطويلة التي ذكر فيها الامام عليه السلام صفة حج النبي صلى الله عليه وآله وأنه ذهب إلى عرفات فأخذ المسلمون يقفون بالقرب من ناقته فقال لهم إن جميع هذا موقف ولا خصوصية هذا المكان ... الخ.
 وهذا الذي ذكره(قده) يبتني على أصل كلّي ربما يظهر من بعض كلماته في غير هذا المورد وهو أن كل ما يذكر في الأخبار البيانيّة من خصوصيات تحمل على الوجوب إلّا إذا قامت قرينة على الخلاف ، ويمكن ملاحظة ذلك في التنقيح [1] فإنه في هذا الموضع ذكر هذا الأصل الكلّي ولكنه في نفس هذا الجزء [2] ذكر أن مجرد فعل الإمام لا يدل على الوجوب إذ لعل الفعل هو لأجل كون هذا هو الفرد الأفضل لا لأنه واجب ففي مقامنا قد يقال:- لعل النبي صلى الله عليه وآله وقف في عرفات من باب أن ذلك شيء مستحب وراجح لا لأنه واجب ، وفي نفس الجزء أيضا [3] ذكر أن فعل الإمام عليه السلام ونقلِهِ لا يدل على وجوب الخصوصيات المذكورة في الروايات البيانيّة وإنما نستفيد الوجوب بشرطٍ وهو أن تدلّ القرائن على ذلك وإلّا فبقطع النظر عن القرينة لا نستفيد الوجوب والقرينة مثلاً التي ذكرها هو(قده) هي تأكيد الراوي على الخصوصية من قبيل الروايات الواردة في كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وآله فإن الراوي ذكر أن الإمام عليه السلام حينما صبَّ الماء على يديه الكريمتين لم يردّ يده إلى الأعلى أي لم ينكس إن تأكيد الراوي على هذه الخصوصية وأنه لم يردّ الماء إلى الأعلى يمكن من خلاله استفادة الوجوب.
 وعلى أي حال إن الذي أريد أن أقوله هو أنه(قده) يرى أن الروايات البيانية يمكن أن يستفاد منها الوجوب إما بالنحو المطلق وبالعرض العريض أو في حدود ضيقة ، وبناءً على هذا الرأي يمكن أن نستفيد الوجوب من الروايات البيانية الحاكية أن النبي صلى الله عليه وآله وقف في عرفات.
 ولكن التأمل في ذلك واضح:- فإن مجرد نقل الإمام أن الرسول وقف في عرفات لا يدل على الوجوب ولا يمكن أن نبني على أصلٍ عامٍ كما ذكره(قده) فإنا لا نعرف مستنداً لهذا الأصل العام ، وعليه يشكل استفادة الوجوب من الروايات البيانيّة ، والمهم ما أشرنا إليه وهو أن المسألة من ضروريات الاسلام ، وعليه فلا حاجة إلى تطويل الكلام من هذه الناحية.
 النقطة الثانية:- يلزم قصد التقرب بالوقوف في عرفات ، يعني هو واجب عبادي وليس توصلياً وكان من المناسب له فنيّاً التعرض أوّلاً إلى أصل لزوم النيّة - يعني أن نيّة الكون في عرفات شيء لازم - فإذا فرض أنه لم ينوِ كما لو حُمِل وهو نائم إلى عرفات وبقى على نومه إلى الغروب فإن هذا كون بلا نيّة وهو لا يجزئ ، فكان من المناسب التعرض إلى هذا أوّلا أي أصل النية بقطع النظر عن القربة وأنها لازمة ثم يتعرض بعد ذلك إلى أن النيّة ليست وحدها لازمة بل مع قصد القربة ، ولكنّه أخر اعتبار أصل النيّة إلى المسألة ( 367 ) الآتية ، والامر سهل.
 وخالف في ذلك - أي اعتبار أصل النية - العامّة فقال ابن قدامة [4] ما نصه ( فصل:- ولا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال ولا نية ولا نعلم في ذلك خلافاً ).
 وعلى أي حال إن اعتبار النيّة سيأتي الحديث عنه في المسألة ( 367 ) انشاء الله تعالى أما هنا فنريد أن نشير إلى أن القربة معتبرة ولكن ، ما هو الوجه في اعتبارها ؟
 قد يستدل على اعتبار القربة بالوجوه التالية:-
 الوجه الأول:- ما ذكره الخراساني(قده) في الكفاية [5] وحاصله:- إن ما يشك في كونه عبادياً أو توصلياً هل يمكن التمسك بإطلاق الأمر لإثبات توصليته ؟ كما نتمسك بإطلاق أمر ( أعتق ) لا ثبات أنه يجوز أن تكون الرقبة كافرة وليست مؤمنة ، فهل يجوز التمسك بالأمر لإثبات التوصلية وعدم اعتبار قصد القربة ؟ ذكر(قده) إنه لا يمكن ذلك فإن قصد امتثال الأمر لا يمكن أخذه في متعلق الأمر لأنه يلزم الدور ، فإذا لم يمكن أخذه فلا يمكن أن نستفيد من إطلاق الأمر أنه توصلي ولا يعتبر هذا القيد فإن الإطلاق إنما يمكن التمسك به فيما إذا كان القيد يمكن أن يأخذه التكلم في متعلق أمره ولم يأخذه أما إذا لم يمكنه ذلك فالإطلاق لا يكشف عن عدم اعتبار ذلك القيد المشكوك . إذن ننتهي إلى هذه النتيجة وهي ان إطلاق الأمر لا يمكن التمسك به لإثبات التوصلية.
 وحينئذ نقول:- بعد أن عرفنا هذا يأتي دور العقل يقول مادام لا يمكن التمسك بطلاق الأمر فهذا يعني أن الأمر جزماً متعلق بالتسعة أجزاء - أي من دون قصد القربة - لا بالعشرة - أي ما يشمل قصد القربة - فالأمر متعلق حتماً بالتسعة ولكن نشك لو أتينا بالتسعة من دون قصد القربة هل يتحقق بذلك سقوط الأمر بالتسعة أو لا ؟ إنا نحتمل أن الأمر رغم تعلقه بالتسعة لا يسقط بالإتيان بالتسعة من دون قصد القربة وذلك باعتبار أن قصد القربة دخيل في غرض المولى ولكن لم يأخذه في متعلق الأمر لأنه لا يمكنه ذلك فالعقل حينئذ يحكم بأن مثل هذا القيد الذي لا يمكن للمولى أن يأخذه في متعلق أمره ويقول ( يلزمك أيها العبد أن تأتي به لأن الأمر المتعلق بالتسعة لا تجزم بسقوطه لو أتيت بالتسعة ) فيصير المورد من موار الشك في سقوط الأمر وهو مجرى للاشتغال عقلاً وليس من مواد الشك في أصل التكليف وأنه هل تعلق التكليف بالعشرة أو بالتسعة ، كلا بل هو متعلق بالتسعة ولا نحتمل تعلقه بالعشرة لكنا نشك في سقوط الأمر لاحتمال مدخليّة قصد القربة في الغرض فالأمر بالتسعة لا يسقط بالإتيان بها ، فبناء على هذا ذهب(قده) إلى أنه في مثل هذه الحالة يلزم الإتيان بقصد القربة في كل واجب شككنا في أنه قربي أو ليس بقربي لهذه النكتة التي أشرنا إليها والتي فذلكتها هي أن المورد من موارد الشك في سقوط التكليف وليس من موارد الشك في أصل التكليف والعقل في موارد الشك في السقوط يحكم بالاشتغال ، إنه بناء على هذا الذي ذكره(قده) في مقامنا وفي كل واجب شككنا في قربيته يلزم الإتيان بقصد القربة ومنه الوقوف بعرفات فإنه إذا شككنا في اعتبار القربة لزم الإتيان بها لما أشرنا إليه من أن المورد من موارد الشك في السقوط.
 نعم ذكر(قده) في آخر كلامه أنه ربما يمكن التمسك بالإطلاق المقامي في بعض الموارد كما إذا فرض أن المسألة كانت عامة البلوى وكان عامة الناس يغفلون عن هذا القيد لو لم ينبّه المولى عليه فيلزمه أن ينبّه عليه ويقول ( إن هذا القيد المشكوك هو دخيل في غرضي فيلزمكم أن تأتوا به ) بهذا اللسان أو بغيره فإذا سكت مع كون المسألة عامة البلوى مع غفلة الناس عنها فهنا يمكن أن نستنتج أنه لا يعتبر هذا القيد وإلّا لنبّه عليه ، وهذه قضية جانبية لا تهمنا الآن ، والذي يهمنا هو ذلك الكلام السابق وهو أن الأصل الأوّلي بناءً على رأيه هو اعتبار القيد المشكوك في كل مورد مادام لا يمكن للمولى أخذه في متعلق الأمر ومنه قصد القربة في مقامنا.
 ولكن يرد عليه:- لو سلمنا أصل المبنى - وهو أن قصد القربة لا يمكن أخذه في متعلق الأمر ، وهذا فيه قيل وقال نتركه إلى محلّه ولكن نقول:- إن من المناسب أن ينبّه المولى ويقول ( هذا دخيل في غرضي ) فإذا لم ينبّه على مدخليته في الغرض فيمكن حينئذ التمسك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية من قبيل ( رفع عن أمتي ملا يعلمون ) فإنا لا نعلم بمدخلية قصد القربة حتى يلزم الإتيان به ، نعم لو فرض أن المولى لا يتمكن من أن يبين المدخلية في الغرض ولو بنحو الجملة الخبريّة كما لو فرض أنه جاء شخص وقبض على فمه ومنعه من الكلام فهنا لا يمكن التمسك بأدلة البراءة الشرعية لأن العقل هنا يقول من المحتمل مدخليته في الغرض فيلزم الإتيان به تحقيقاً للغرض ، أما إذا فرض أن المولى يتمكن من الكلام كما هو الواقع ولم يتكلم ولم يقل هذا دخيل في غرضي فلا مانع آنذاك من التمسك بإطلاق البراءة الشرعية وحكم العقل الذي ذكره الشيخ الخراساني(قده) هو حكم تعليقي لا تنجيزي ، أي معلق على عدم ورود دليل من الشارع ينفي وجوب القيد المشكوك والمفروض أن أدلة البراءة صالحة لنفي ذلك ، وحينئذ يرفع العقل يده عن حكمه ، فما ذكره(قده) واضح التأمل.


[1] التنقيح 5 - 108 ط جديدة.
[2] المصدر السابق - 54.
[3] المصدر السابق - 185.
[4] المغني 3 435.
[5] الكفاية 75 طبعة مؤسسة آل البيت.