الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

34/02/09

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضـوع:- مسألة ( 362 ) / إحرام حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
 إذا أمكن العود:-
 كل ما تقدم كان ناظراً إلى حالة التذكر في عرفات مع فرض أنه لا يتمكن من العود ، وأما إذا كان متمكناً فالمشهور لم يفصّل من هذه الناحية فإن صاحب المدارك الذي نقل قول العلامة وهكذا صاحب الجواهر والحدائق ومستند الشيعة لم يفرقوا بين حالة عدم إمكان العدو وبين حالة الإمكان ، بيد أن السيد الخوئي(قده) ذكر أنه في حالة إمكان العود يلزمه العود والوجه في ذلك هو أن السؤال الذي طرحه علي بن جعفر على الإمام عليه السلام ناظر إلى تلك الفترة الزمنية التي لا يمكن فيها العود غالباً باعتبار أن الفاصل بين عرفات ومكة هو أربعة فراسخ فإذا أراد أن يذهب ويعود فالمجموع يصير ثمانية فراسخ - يعني المسافة الشرعية - فإذا أراد المكلف أن يخرج من مكة ثم يحرم ويعود فقد فاته الموقف . إذن السؤال ناظر إلى تلك الفترة الزمنية وباعتبارها قال الإمام عليه السلام ( يقول في مكانه اللهم على كتابك ... ) ، وأما في مثل زماننا الذي يمكن فيه العود - بالسيارة مثلاً - فلا موجب لسقوط وجوب الإحرام عنه بل يجب عليه العود تمسكاً بالقاعدة فإن القاعدة الأولية - كما ذكرنا سابقاً - تقتضي البطلان إذا لم يعد ويحرم إذ المركّب ينعدم بانعدام بعض أجزاءه ، فالإجزاء إذن هو الذي يحتاج إلى دليل والقدر المتيقن من الدليل هو حالة ما إذا لم يمكن العود وأما حالة إمكان العود بعد عدم شمول صحيحة علي بن جعفر له فنبقى نحن والقاعدة فيلزمه العود ولو لم يعد حكم ببطلان حجّه.
 وهذا البيان بحاجة إلى بعض الاضافات لكي يصبح أكثر فنيّة وذلك بأن يقال:- إن المورد ليس من موارد الإطلاق حتى يقال إن مقتضى الإطلاق عدم الفرق من هذه الناحية وإنما مورد عدم استفصال الإمام الدال على العموم فإن الامام لم يقل ابتداءً ( كل من تذكّر في عرفات أنه لم يحرم فيقول في مكانه كذا وكذا ) حتى يتمسك بإطلاق كلامه ، كلا وإنما علي بن جعفر سأل من الإمام بأن شخصاً نسي الإحرام وتذكر وهو في عرفات والامام أجابه بأنه يقول في مكانه كذا وكذا . إذن الإطلاق لا معنى له هنا إذ يتمسك بماذا ؟ فلا توجد جملة يتمسك بإطلاقها بل غاية الأمر نقول إن الامام في مقام الجواب لم يستفصل وهو يدل على العموم فإن النكتة التي يمكن التمسك بها هي هذه ، ومن المعلوم أنه يمكن أن يقال:- إن الامام لم يستفصل باعتبار أنه ناظر إلى الحالة الزمنية في تلك الفترة والاستفصال يكون غريباً بعد فرض أنه لا يمكن العود عادةً ، وعليه فعدم استفادة العموم هو من هذه الناحية - أي لأجل كون المورد من قبيل عدم العموم المستفاد من عدم الاستفصال - وأما إذا كان المورد مورد الإطلاق كما إذا قلنا أن الامام قال ( كل ما .. ) فهنا على مبنى السيد الخوئي(قده) في باب الإطلاق الذي هو مبنى وسيع ودائرة الإطلاق عنده وسيعة فيمكن التمسك بالإطلاق فيقال:- إن الإمام قال ( كل من نسي وتذكر أنه لم يحرم وهو في عرفات كفاه أن يقول كذا ) ومجرد أنه في تلك الفترة لا يمكن العود لا يمنع من التمسك بالإطلاق كما هو الحال بالنسبة إلى إطلاق كلمة الماء في قول ( توضأ بالماء ) فإن الماء في تلك الفترة الزمنية كان هو مياه الآبار والأنهار وما شاكل ذلك أما الماء الموجود في القناني المتعارفة في زماننا هذا فلم يكن موجوداً فكيف نثبت جواز الوضوء به والحال أنه لم يكن موجودا في تلك الفترة الزمنية ؟ وهكذا بقية الأشياء التي لم تكن موجودة في تلك الفترة من الزمن فهل يتوقف أحد من التمسك بالإطلاق ؟ كلا إنهم يقولون إن الحكم وُجِّه إلى الطبيعة - أي طبيعة الماء فحينئذ كلما صدقت هذه الطبيعة صدق الحكم وسابقاً كانت تصدق على مياه الآبار والآن صار لها فردٌ ثانٍ فالحكم يشمل هذا الفرد الثاني هكذا علمونا وهكذا قالوا ، والمناسب في مقامنا أن يكون الأمر كذلك فإن الحكم صُبَّ على كل من تذكر وهذا مطلق فيشمل حالة عدم إمكان العود وحالة إمكان العود فلا فرق من هذه الناحية.
 إذن هناك مجال للتمسك بالإطلاق على مبناه(قده) ومجرد أنه في تلك الفترة لم يمكن العود عادة لا يصلح مانعاً عن التمسك بالإطلاق ، نعم على مسلكنا في باب الإطلاق الذي فيه تضييق - وحاصله أن التمسك بالإطلاق يجوز إذا فرض أنه يستهجن الإطلاق من المتكلم فيما إذا كان مراده المقيَّد والمعنى الضيِّق فإنه إذا استهجن الإطلاق عرفاً فآنذاك يصح التمسك به أما إذا لم يستهجن فلا يصح التمسك به - لا يصح التمسك بالإطلاق لأنه لا يستهجن من المتكلم الإطلاق في كلامه لو كان المراد واقعاً هو المقيَّد - يعني كان مقصوده واقعاً هو أنه يحرم من مكانه إذا لم يمكن العود فقط وفقط في هذه الحالة دون ما إذا أمكنه العود - فإنه إذا كان مراده هذا فقط لا يستهجن منه الإطلاق ولا يقال له لماذا لم تقيد وتقل بالتقييد ؟ إذ يجيب ويقول:- إنما لم أقيد لأجل أنه واضح أنه لا يمكن العود.
 والخلاصة:- إنه على مسلكنا في باب الإطلاق نسلّم أن التمسك بالإطلاق لحالة إمكان العود مشكل ، أما على مسلكه فلا بأس بالتمسك بالإطلاق ، فلذلك لابد وأن نقول تتميماً لمرامه(قده) - وإن لم يشر هو إلى كل هذا - إن المورد هو من باب عدم الاستفصال ولعل الامام لم يستفصل من باب أنه ناظر إلى تلك الحالة الزمنية التي لا يمكن فيها العود فلا يمكن أن نستفيد العموم ، هذا توجيه وإصلاح لبيانه(قده).
 ولكن رغم هذا الإصلاح يمكن أن يقال:- إن هذا البيان كأنه يفترض أن المكلف التفت إلى أنه لم يُحرم والوقت هو وقت الزوال - أي الوقت وقت بداية الموقف أو بعدُ له بضع دقائق - ولماذا نفترض هكذا ؟ إن العادة جرت في تلك الفترة وفي هذا الزمان أن يذهب الحجيج ويباتون ليلاً في منى ثم يتوجهون أول الصباح إلى عرفات ونفترض أن المكلف بمجرد أن وصل إلى عرفات التفت إلى أنه لم يحرم ونفترض أن الوقت وقت صيف الذي يكون فيه النهار طويلاً والموفق وسيأتي بيان النكت في ذلك ونفترض أن الشخص له دابّة سريعة ، إن هذه فرضيات ليست نادرة ، نعم افتراض أن الشخص يتمكن من الركض بسرعة ويطوي المسافة فهذه حالة نادرة أما ما أشرنا إليه فليس بحالة نادرة ، وعليه فما المانع حينئذ من التمسك بترك الاستفصال بعد هذا الذي أشرنا إليه ، وعليه فالنتيجة بناءً على هذا هي أنه لا مانع من استفادة العموم كما أشرنا إليه.
 النقطة الثانية:- إذا تذكّر وهو ما بعد عرفات - أي في المشعر الحرام مثلاً - فهنا هل يحكم عليه بلزوم العود أو لا ؟ وعلى تقدير عدم إمكان العود فهل يحكم في حقه بالبطلان أو لا ؟
 والجواب:- يمكن أن يحكم بالصحة وعدم الحاجة إلى العود ويكتفى بقوله ( اللهم على كتابك ... ) وهو في مكانه بالوجوه التالية:-
 الوجه الأول:- ما أشار إليه العلامة(قده) حسب نقل صاحب المدارك(قده) فإنه تمسك بفكرة الأولوية حيث قال:- إن من فرغ من أعماله ثم التف إلى أنه لم يحرم حكم عليه في الرواية بصحّة عمله فيلزم بالأولوية أن يحكم بالصحة فيما إذا التفت في الأثناء باعتبار أنه سوف يحرم لما بقي من الأعمال وعليه فسوف يأتي بنصف العمل مثلاً مع الإحرام فإذا حكم الإمام عليه السلام بالصحة في حالة عدم الإحرام في تمام العمل فبالأولى الحكم بالصحة فيما إذا أتى بنصف الأعمال مع الإحرام.
 وفيه:- ما أشرنا إليه سابقاً من أنه يوجد احتمال آخر وهو بطلان العمل رأساً فيما إذا التفت في الأثناء باعتبار أنه لم يتحمل جهداً كبيراً كالذي يتحمله من التف بعد الفراغ من العمل فإن من التفت بعد الفراغ يكون متحمِّلاً لجهدين جهد اتمام العمل وجهد لزوم الإعادة في العام المقبل وهذا بخلاف من التفت في الأثناء فإنه لا يلزم تحمّله لجهدين بل سوف يكون متحملاً لجهد ونصف - وهذا نذكره من باب التوضيح وأن الأولوية ليست بثابتة -.
 الوجه الثاني:- ما أفاده السيد الخوئي(قده) وحاصله:- إنه لو أمكنه العود وعاد إلى مكة وأحرم فماذا ينفعه هذا الإحرام ؟! إنه لا ينفعه شيئاً إذ بالتالي قد فاته موقف عرفات من دون إحرام فالعود إلى مكة إذن لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولذلك حكم(قده) في هذه النقطة من التن بأن من تذكر وهو في المشعر بأنه يحرم من مكانه ويكتفي بذلك سواء لم يمكنه العود أو أمكنه فإنه حتى لو أمكنه العود فلا حاجة إليه والنكتة هي أنه لا ينفعه العود بعد أن فاته موقف عرفات.
 وفيه:- إن العود إلى مكة سوف ينفعه بلحاظ بقية الأعمال فهو ليس عديم الفائدة رأساً ، فصحيح أن العود إلى مكة لا يفيده فائدة تامّة - أي بلحاظ تمام أعمال الحج - ولكن ينفعه بالنسبة إلى نصفها . إذن على هذا الأساس لماذا تقول لا ينفعه شيئاً . وهذا الكلام إنما ذكرناه من باب التعليق على ما ذكر وإلّا فنحن لا نريد أن نتشبث به.
 ومناقشتنا الأساسية له هي:- إنه(قده) لم يأخذ البطلان رأساً بعين الاعتبار والمهم هو هذا ، يعني نريد أن نقول:- إن صحيحة علي بن جعفر دلت على أنه يصح منه العمل لو التف وهو في عرفات فسوف يأتي بكل العمل مع الإحرام أما لو التفت ما بعد عرفات فالعمل يبطل رأساً حتى لو أراد أن يحرم من مكانه أو من مكة بعد العود إذ بالتالي لم يتحقق موقف عرفات مع الإحرام ، إن احتمال البطلان راساً موجود وكأنه قطعي العدم بنظره ولذلك لم يشر إليه وإلّا فإنه احتمال موجود . إذن على هذا الأساس كيف نحكم بالصحة حتى لو عاد فضلاً عمّا لو أحرم في مكانه ؟ إنه على كلا التقديرين يشكل الحكم بالصحة إذ دليل الصحة خاص بمن التفت وهو في عرفات وأما من التفت في المشعر فدليل الصحة لا يشمله.
 الوجه الثالث:- التمسك بعدم الخصوصية عرفاً فيقال:- إن العرف لا يفرِّق بين من تذكّر في عرفات وبين من تذكر بعد ذلك فإذا حكم الإمام بالصحّة في حق من تذكّر وهو في عرفات فالأمر كذلك في حق من تذكر بعد عرفات فإن العرف لا يفهم الخصوصية للتذكر في عرفات ولذا لم يسأل علي بن جعفر عن حكم من تذكر بعد عرفات فإن هذا الذهن الوقاد له الذي التفت إلى قضيّة ما هو حكم من تذكر وهو في عرفات من المناسب له أن يطرح السؤال الثاني وهو من تذكر وقد تجاوز عرفات ، إن سكوته وعدم سؤاله من الإمام عليه السلام يفهم منه عدم الخصوصية من هذه الناحية ، بل لو كان يحتمل الخصوصية فعلى الإمام أن ينبّه ويقول ( التفت فإن هذا الحكم خاص بمن التفت وهو في عرفات ولا ينبغي لك أن تسرِّي هذا إلى من تجاوز عرفات وتذكر ) . إذن عدم سؤال علي بن جعفر وعدم بيان الإمام يدل على أن الحكم من هذه الناحية واحد ، وعليه فلأجل هذا التقريب نبني على عدم الفرق من هذه الناحية.