الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

42/11/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: يايها الذين امنوا/ ال عمران / اية149-151

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى‌ أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ . بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ . سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾[1]

نقف هنا عند بعض مفردات الآية لغة:

قال المجمع: (الطاعة موافقة الإرادة المرغبة في الفعل و بالترغيب ينفصل عن الإجابة و إن‌كان موافقة الإرادة حاصلة، و في الناس من قال الطاعة هي موافقة الأمر و الأول أصح لأن من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه كان مطيعا لله و إن لم يكن هناك أمر.

السلطان هنا معناه الحجة و البرهان و أصله القوة، فسلطان الملك قوته‌ و السلطان البرهان لقوته على دفع الباطل).[2]

هذه الآيات اتت بعد آيات نزلت حول الجهاد و بعضها مشيرة الى غزوة احد، وتعرفون ان غزوة احد كان ثاني غزوة دامية في الاسلام و شارك فيها ما يقرب من ثلاثة آلاف من المشركين لأخذ ثأر قتلاهم في غزوة بدر الكبرى و جعل رسول الله صلى الله عليه واله منطقة احد معسكرا لمواجة الصفين و في جانب من الميدان كان تل مشرف على المعركة، ورائه معبر خافي ومنفذ خطير، فوكّل رسول الله صلى الله عليه واله عليه سعيد بن جبير مع خمسين مقاتل جاهز بسهام الرمي وأمرهم ان لايتركوا موقعهم سواء انتصر جيش المسلمين او انهزم، فلما انتصر المسلمون و هرب المشركون و لاحقهم المجاهدون، و خلى الميدان عن المشركين وهم تركوا اموالهم وهربوا، فوقع نظر هؤلاء الموكَّلون على التل الى الاموال المتروكة نزل اربعون منهم وبقي عشرة منهم مع قائدهم والنازلون تركوا سلاحهم و بدؤوا بجمع الغنائم حتى يكون الحظ الاوفر لهم، وقد كان اختبأ خلف الجبل كتيبة من المشركين بقيادة خالد بن الوليد فاستغلوا الفرصة و صعدوا الى تل الرماة من ورائه و قتلوا سعيدا ومن معه من المسلمين ثم نزلوا من علا التل على المسلمين المشتغلين بجمع الغنائم ووضعوا فيهم السيف فشاعت الهزيمة في المسلمين و عاد المشركون بمحاربة المسلمين فقتل من قتل و جرح من جرح حتى سقط في المسلمين ما يقرب من سبعين شهيدا وانجرح منهم جمع كبير وانما قاوم من المسلمين عشرة من ابطالهم كانوا يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه واله و في رأسهم علي بن ابيطالب يدافع عن رسول الله يمينا ويسارا حتى نادى جبرئيل بين السماء والارض "لا فتى الا على ولا سيف الا ذوالفقار" وانجرح رسول الله جراحة شديدة حتى ادخلوه اصحابه الى مغارة في صفح الجبل و عندئذ نادى الشيطان الا قد قتل محمدص، كذباً و امر ابوسفيان احد المشركين ان يرفع شعار الشرك بقوله"اعلى هبل اعلى هبل" فامر رسول الله عباساً ان يرفع شعار التوحيد بقوله: "الله اعلى واجل". ثم جاء الشعار الثاني لهم بقولهم: "انّ لنا العُزّى ولا عُزّى لكم" فامر رسول الله برفع صوتهم بقوله: "الله مولانا ولا مولى لكم" حفظا لمعنويات المسلمين. ثم انصرف المشركون بعد ايراد الهريمة على المسلمين و وقوف هذه الثلة القليلة في مواجهتم خوفا من اجتماع المسلمين و عود الكرة عليهم وهم ذاقوا في بدو المعركة حر سيف المسلمين فعزموا عائدين الى المكة المشرفة.

و المسلمون دفنوا اشلاء شهدائهم في ميدان المعركة و عادوا الى داخل المدينة حاملين جرحاهم على اكتافهم ورحالهم معزين عوائل الشهداء و مشتغلين بتضميد الجرحى، و بدء المنافقون من المشركين ومن اهل الكتاب يحذرون المؤمنين من مغبة الحرب و تشجيعم الى ان يفيؤا الى امر المشركين و يعودوا الى دينهم ،يبثون فيهم نغمة اليأس والهوان فبات المسلمون في تلك الليلة بألم وحزن وكئابة معزين شهدائهم و مضمدين جرحاهم.

ومن ناحية اخرى لما سار المشركون الى الليل ثم نزلوا للراحة ففي منزلهم تناقل الكلام فيما بينهم فقالوا: بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به.

وورد في قصة ما بعد غزوة احد: لما اصبح المسلمين جاء الخبر الى رسول الله بعزم المشركين للعودة الى المدينة المنورة ليقضوا على المتبقي من المسلمين فلما انصرف رسول الله من صلاة الصبح أمر بلالا أن ينادي إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.

فاجتمع المجاهدون حاملين للجرحى معهم واجتمع جمع غفير حينما خرجوا إلى الغزو في اليوم التالي لغزوة أُحُد، رغم ما حصل لإخوانهم من قتلٍ وتمثيلٍ وما حلّ بهم من مصائب مادّيةٍ كالجراح والتعب، وأخرى نفسيةٍ كشماتة المشركين واليهود بهم جرّاء الهزيمة في هذه المعركة.

ثم خرج معبد الخزاعي و هو لم يكن مسلما بل كان من بني خزاعة و هم كانوا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الى حمراء الأسد، حتى لَقِيَ أبا سفيان بن حرب ومَن معه بالرَّوحاء، وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله وأصحابه، وقالوا لأنفسهم: أصَبْنا حَدَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، لنَكُرَّنّ على بقيّتهم فلنفرُغنَّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدًا، قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمدٌ قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقًا، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنقِ عليكم شيء لم أر مثله قط، فقال أبو سفيان: ويلك ما تقول! قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمَعْنا الكَـرّة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فثنى ذلك أبا سفيان ومَن معه. و ملأ قلوبهم الخوف و هربوا الى مكة المكرمة وقد نزل في شأنهم قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَ قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.﴾[3]

هنا نعود الى الآية المبحوث عنها ونقول: ان الآية الكريمة ولو نزل في مناسبة معينة في عهد رسول الله ولكن شأن النزول لا يحصر الآية بقضية في واقعة بل هي كبى جارية في جميع الازمان والاجيال. فهذه الآية يحذرنا شديدا عن التنازل عن موقف الحق و التساوم على الدين كذالك يخبرنا بواقع الكفار بانهم لا يقتنعون بشيئ الا الخروج عن موقفنا بكامله والرضوخ الى طاعتهم والانسحاب عن هويتنا الايماني كاملاً قال تعالى في الآية الاولى:﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى‌ أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾.

ثم يطمننا بان مولانا وهو الاقدر فلا مجال لتركه والدخول تحت ولاء غيره فقال: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾. ثم يبشرنا بان عدونا بما انه لا يستند الى مستند قوي فهو ضعيف النفس و يفشل سريعا بفضل الله، وهم مثواهم النار فخروجنا عن مواقفنا الرصينة الى مواقفهم الوهينة خسارة عظيمة في الدنيا والآخرة فقال: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾

وفي هذا الزمان جربنا مصاديق لهذه الآيات الكريمة، فالحكومات الطائعة للمستكبرين والمعتمدة عليهم و المطبّعة لرمز الكفر والاستعمار الكيان الصهيوني، خسروا دنياهم وآخرتهم والمقاومين الثائرين العاصين على الاستكبار رغما لكل الويلات النازلة عليهم يزيدون عزة وكرامة وقوة فهذا الجمهورية الاسلامية قد ولّت دبرها على عالم الاستكبار والهيمنة الظالمة مضت عليها اثنان واربعون سنة فاصبحت يوما بعد يوم تزداد عظمة وقوة ومنعة امام التحديات و كذلك من سار على نهجها من الشعوب يزدادون عزة وكرامة، هذه المقاومة الاسلامية في لبنان و في فلسطين و فصائل المقامة في العراق والشعب المظلوم في اليمن وغيرهم مصاديق جلية لهذه الآيات المباركة و قس على هذا فعلل وتفعلل في جميع مقاطع تاريخنا الاسلامي ففي كل مورد كان فيه الضعف والاستسلام نزل بهم الوهن والهوان والذلة والخسران و في كل مرحلة لم ينازلوا ولم يساوموا الطغاة انتصروا وتقدموا و عزوا. نعم الحكمة تقتضي مواجهة التحديات بحكمة وامعان فالتكتيك قد يختلف والموقف هو الواحد وهو المقاومة والصمود ورفض اي تنازل عن القيم الحقة.


[1] السورة آل عمران، الأية 151-149.
[2] مجمع البيان في تفسير القرآن - ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الشيخ الطبرسي، ج2، ص856.
[3] السورة آل عمران، الأية 172-174.