الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

42/09/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: تفسير الموضوعي / تفسير آيات المصدرة ب"يا ايا الذين آمنوا /تفسير آية 267 الي 270 سورة البقرة

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ﴾[1]

قد انتهينا من البحث في الآيتين من هذا المقطع و وصل بحثنا الى الآية الثالثة حيث قال تعالى:

﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾[2]

ذكر في المجمع للحكمة معاني منقول عن المفسرين فقال: (في معنى الحكمة وجوه: قيل أنه علم القرآن ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و مقدمه و مؤخره و حلاله و حرامه و أمثاله عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هو الإصابة في القول و الفعل عن مجاهد و قيل أنه علم الدين عن ابن زيد و قيل هو النبوة عن السدي و قيل هو المعرفة بالله تعالى عن عطاء و قيل هو الفهم عن إبراهيم و قيل هو خشية الله عن الربيع و قيل هو القرآن و الفقه عن أبي عبد الله (ع) و روي أيضا عن مجاهد و قيل هو العلم الذي تعظم منفعته و تجل فائدته و هذا جامع للأقوال و قيل هو ما آتاه الله أنبياءه و أممهم من كتابه و آياته و دلالاته التي يدلهم بها على معرفتهم به و بدينه و ذلك تفضّل منه يؤتيه من يشاء عن أبي علي الجبائي و إنما قيل للعلم حكمة لأنه يمتنع به عن القبيح لما فيه من الدعاء إلى الحسن و الزجر عن القبيح و يروى عن النبي ص أنه قال: إن الله آتاني القرآن و آتاني من الحكمة مثل القرآن و ما من بيت ليس فيه شي‌ء من الحكمة إلا كان خرابا ألا فتفقهوا و تعلموا فلا تموتوا جهالاً) [3]

و عرّف الحكمة في الميزان بقوله: (و الحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام و الإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة و لا فتور، و غلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان و الكذب البتة).

ثم هو رضوان الله عليه يرد الى بيان المراد من الآية فقال: (و الجملة تدل على أن البيان الذي بين الله به حال الإنفاق بجمع علله و أسبابه و ما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقة الإلهية في المبدإ و المعاد، و المعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية)[4] .

أقول الظاهر كل ما ذكر فوقها مما يزيد في الحكمة، وهي مضامين حكيمة و الحكمة القائمة بنفس الانسان قسيم لعلمه فالحكمة بهذا المعنى هي ما يوجب استحكام الفكر والعمل وقريب المعنى من البصيرة والتفقه ولذا في الحديث المذكور آنفا قال: "ما من بيت ليس فيه شي‌ء من الحكمة إلا كان خرابا ألا فتفقهوا" وقد ورد في القرآن عنوان الحكمة ثمانية عشرة مرة تسعة منها كان معطوفا على الكتاب وتسعة من دون ذكر الكتاب وفي مواطن مختلفة.

ثم قوله من يشاء: لابد من التنبيه على أنّ مشية الله تعالى ليست جزافاً بل تكون دائما تابع لأسباب وحِكَمٍ، فالانسان عندما يربّي نفسه على ذكر الله وطاعته ويسعى في تعلّم ما يجب عليه او ينبغي له ليعمل بها و تعلّم ما يحرم عليه او ينبغي تركه لينتهي عنها، يؤته الله الحكمة بمقدار ما يصلح له ففي الحديث "من اخلص لله اربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"

ثم قوله تعالى: ﴿"وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾" [5] ورد مفردة يؤتَ بصيغة المجهول اشارة الى ان الحكمة هي بنفسها خير كثير. ثم قال: ﴿وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ ان اللُب في مقابل القشر فهو اصل الشيئ و المقصود منه، و يطلق على العقل السليم وغير المقهور للهوى والخيال لان اصل الانسان بعقله وبه يتمايز عن البهائم والتذكر هو الالتفات والتوجه بالشيء، "فربّ عالم قد قتله جهله" فهو يدري هذه المعاني في عقله ولكنه جاهل في قلبه. ونعوذ بالله من عمى القلب.

والظاهر ان الداعي لذكر هذه الآية التي هي كبرى، التنبيه على ان العقل السليم يعرف دور الانفاق في اصلاح حال الدنيا والآخرة، فان نظام الانفاق في الاسلام اعم من نفقات الواجبة والمستحبة هي توجه الاقتصاد الى تعميم الخيرات والحد دون التمايزات الفاحشة في مستوى المعيشة في المجتمع الانساني و تميل الى التعديل في الاقتصاد مما هو سبب للتزايد في الانتاج و سهولة تسويق المنتجات، وهذه المسألة تتطلب منا بحثا فنيا اقتصايا تحليلياً واسعاً وهو خارج عن مقتضى مباحثنا في هذه الاُمسيات.

ثم تطرق الآيات الى مواضع جديدة في مبحث الانفاق فقال تعالى:

﴿وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾

قد أراد الله تعالى ان يفهمنا اننا تحت مجهر دائم يرانا ربُّنا بظاهرنا وقلوبنا، فلا يخفى عنه شيء، فما تنفقونه في سبيل اللّه قليلاً كان أو كثيراً، جيّداً كان او رديئاً، كان من مكسب الحلال او من الحرام، سواء كنّا مخلصا في نيّتنا أم مرائيا، اتّبعناه بالمنّ‌ و الأذى أم لم نتّبعه، و سواء في النفقات الواجبة او المستحبة فكل ذلك بعلمه الله "والحاكم هو الشاهد" فيتعامل مع كلٍ بما يستحقه مضافا الى فضله ورحمته.

ثم جاء بكبرى آخر وهي قوله: ﴿وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ﴾ اشارة الى ان كل تخلف عن مسار الذي رسمه الاسلام لكم ظلم اوّلاً بالنفس وثانياً اجحاف في حق المجتمع ولا سيما الفقراء والمعوزين ولا ناصر للظالم امام حكم الله لا في الدنيا ولا في الاخرة لان من يدافع عن الظالم في ظلمة قد دفعه الى ظلم اكثر وهذا يزيده شقاوة ففي الواقع بدلا عن دفاعه ورطه في ضلاله وظلمه فاضر به اكثر ولذا ورد الحديث في قول الله عزوجل: ﴿الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين﴾ مضمونها: انه اذا كان يوم القيامة يجلس الاخلاء من المؤمنين على سرر متقابلين فينظر كل واحد منهم الى الآخر يرى انه نال هذا المقام في الجنة لدلالات صديقه له فيدعوا الله على ان يرفع شانه فيستجيب الله له وكذلك يتقابل الاخلاء من اهل جهنم فيرى كل واحد منهم ان ما اصابه من العذاب والخزي كان بسبب اغرائات وضلالات صديقه فيدعوعليه بزيادة العذاب فيستجيب الله له.

والآيات التي تليها في هذا المقطع سوف نتصدى لتناولها بالبحث في الليالي المقبلة ان شاء الله.

 


[1] سورة بقره، آیة 267 و 268 و 269 و 270.
[2] سورة بقره، آیة 269.
[3] مجمع البيان في تفسير القرآن - ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الشيخ الطبرسي، ج2، ص194.
[4] الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج2، ص395.
[5] سورة بقره، آیة 269.