الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

42/08/17

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/تفسير الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير أيات 172من سورة البقرة

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[1]

بعد ما انتهينا من المقطع السابق اخترنا لكم هذا المقطع من الآيات المصدرة ب﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وهذا الخطاب الى المؤمنين جاء بعد ما سبق الخطاب منه تعالى قبل اربع آيات من هذه السورة خطابا الى الناس في نفس الموضوع حيث قال تعالى: ﴿"يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[2]

وهذا من سيرة القرآن والانبياء والاولياء حيث يوجهون نصائحهم ومواعظهم التي تدعوا الى الخيرات والاعمال الصالحة بما هو مقتضى العقل ومطلوب عند جميع الأديان السماوية الى جميع الناس. فينبغي لنا ان نتعلم منهم أن يكون دعوتنا الى الصالحات شاملا لغير الشيعة بل حتى لغير المسلمين. وهذا الأسلوب مضافا الى كونه دعوة الى الصالحات يكون جاذبا للآخرين الى الإسلام والى مذهب اهل البيت عليهم السلام، ولعله ابلغ مما إذا ندعوهم الى الإسلام او الى مذهب اهل البيت مباشرة، فالدعوة الى التوحيد والالتزام بالقيم والأخلاق الحسنة، كأداء الأمانة والصدق في الحديث وبذل الخير لكل انسان بل كل ذي روح ولزوم الوقوف مع المظلومين والدفاع عن حقوقهم امام الظالمين كل هذه المواقف منّا كمسلم، داعي الى الإسلام والى مذهب اهل البيت من دون ان يثير الآخر الى الموقف منا.

من باب المثال ان الامام الخميني رضوان الله عليه لم يدعو الشعوب المختلفة الى الإسلام او الى المذهب وكذلك الثورة الإسلامية ما دعت الى مذهب او دين، ولكن نفس مواقفها صارت سببا لضم ملايين من الناس الى الإسلام والى مذهب اهل البيت عليهم السلام لما شافوا من المواقف الجميلة منها. فكثير من البلاد لم يكن فيها مسلما وكثير منها لم يكن فيه شيعيا والآن ملايين من الناس التحقوا بالإسلام او الى مذهب اهل البيت عليهم السلام، هذه نيجيريا يقال أصبح عدد الشيعة فيها خمسة وعشرون مليوناً ومثلها في اندونيسيا وفي القارة الإفريقية.

أذكر لكم قصة حصل معي وهي: عند ما كنت في سوريا، كنا مستأنسين بجميع الشرائح ومنهم السنة ولا سيما علمائهم ومراكزهم العلمية، فاتفق مرة ذهبنا لزيارة (مُجَمّع فَتْحِ الإسلامي) وقد استقبلني مفاتي دمشق الثلاثة وامين المُجَمّعْ وجمع من اساتذتهم الكبار، وطبيعة السوريين الانفتاح وحسن الاستقبال من الضيف وقلة العصبيات الطائفية. فمن ضمن المحاورات خاطبني رئيس المجمع: قد بلغنا انكم توزعون أموالا في منطقة دير الزور والحسكة والرقة على الناس وتشيعونهم وهذا العمل لا يناسب مواقفكم الوحدوية، وبعد الإصغاء الى كلامه قلت له: على الخبير سقطت، هذا الكلام كذب محض لا واقعية له ابداً، بل هو إهانة الى الشعب السوري، فمعناه انهم يبيعون دينهم بدنانير. و بعد ما رفضت نسبة التشييع الينا بقاطعيّة كاملة، قلت: نعم هناك شيء لا يخلوا عن الواقع وهو ان كثير من الناس في العالم ومنهم في سوريا لما انتشرت فيهم سمعة الثورة الإسلامية و قضايا الامام الخميني و وقوفه في وجه المستكبرين و دعوة الشعوب الى عزة الإسلام ومنعته والدفاع عن الشعب الفلسطيني و رفض الاحتلال الصهيوني وامثال هذه الواقف الإسلامية والإنسانية تأثروا بها، و بما ان الامام رضوان الله عليه كان من علماء المذهب الامامي ومن المسلمين و بعده خلفه الامام الخامنئي بحكمته وحنكته و مواقفه البطولية، مالوا كثير من الشباب في شتى انحاء العالم الى الإسلام و بالأخص الى مذهب اهل البيت عليهم السلام، ومنها في سوريا، كما ان المقاومة الإسلامية في لبنان بأمينها العام السيد حسن حفظه الله وهو رجل دين شيعي، فاشتهر سمعتها الحسنة و صار سببا لميل كثير من الشباب المتحمسين الى مذهب الذي يعتنقه السيد حسن و أبناء الثورة الإسلامية في ايران. فما هو اقتراحكم هل ننسحب عن مواقفنا ولم ندافع عن فلسطين ونتفاوض مع أمريكا والصهاينة حتى لا يتشيع الناس؟ فلم يجدوا جواباً.

ثم قلت لهم: عندي حلٌّ لهذه المشكلة وهو ان المواقف الثورية والمقاومة والعزة والمنعة كلها من الإسلام فاقترح عليكم أنتم علماء الاسلام أيضا اتخذوا تلك المواقف وتجاهروا برفض الاستكبار والصهاينة والدفاع عن الشعوب المظلومة حتّى يميل الناس اليكم ولم تختص تلك المواقف بالشيعة.

نعود الى بحثنا حول الآية الكريمة: مما هو ملفت للنظر ان خطاب القران للناس يختلف عن خطابه للمؤمنين فعند خطابه للناس قال: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حلالا طيباً﴾ وعند خطابه للمؤمنين قال: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾

ان صاحب الميزان ذكر هنا نقطتين هامتين نأتي بنص كلامه قال اولاً: (والتفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فإن المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً من قوله: طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، وكان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، ولذلك بعينه قيل: "ما رَزَقْناكُمْ" ولم يقل: ما رزقتم أو ما في الأرض ونحوه، لما فيه من الإيماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رؤوفا بهم)،

كما ان في هذا التعبير من الله لطف لعبادة حيث ذكر الرازق والمرزوق بقوله "رزقناكم" مما يدعوا الى الاعتزاز والفخر و الالتفات بالمنعم وشكره.

ثم قال في الميزان: (والظاهر أن يكون قوله: مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فإن المعنى على الأول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، وهو المناسب لمعنى التقرب والتحنن الذي يلوح من المقام، والمعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، وهو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، والنهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه) [3]

نعم ان الخبائث ليست رزقاً حتى يقسّم الرزق الى الطيب والخبيث.

‌ وهناك نقطتان اشير اليهما في الأمثل الاولى بقوله: (لو قارنا هذه الآية بقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ لفهمنا نكتتين: تقول الآية هنا: ﴿مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾، بينما تقول تلك ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ ولعل هذا الاختلاف يشير إلى أن النعم الطيبة مخلوقة أصلا للمؤمنين، وغير المؤمنين يتناولون هذه الأطعمة ببركة المؤمنين، كالماء الذي يستعمله البستاني لسقي أشجاره وأغراسه، بينما تستفيد من هذا الماء أيضا الأعشاب والنباتات الطفيلية).

والثانية بقوله: (والاخرى، أن الآية تقول لعامة النّاس: كُلُوا ... وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهذه الآية تخاطب المؤمنين وتقول: كُلُوا ... وَاشْكُرُوا لِلَّهِ أي لا تكتفي هذه الآية بالطلب من المؤمنين أن لا يسيئوا الاستفادة من هذه النعم، بل تحثهم على حسن الاستفادة منها).[4]

 


[1] البقرة/السورة2، الآية172 و 173.
[2] البقرة/السورة2، الآية168.
[3] الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج1، ص425.
[4] الامثل في تفسير كتاب الله المنزل‌، مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر، ج1، ص485.