الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

38/09/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الانسان ونشأته التكوينية

﴿ كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَ مُنْذِرينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فيهِ إِلاَّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدي مَنْ يَشاءُ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ[1]

درسنا في الليلة الماضية ستة امور تمهيداً لفهم الآية المبحوث عنها فقلنا:

اولاً: تكوّن البشر الموجود من اَبٍ واُمّ واحد، وهما الآدم والحواء،

ثانياً: انه مركب من الروح والجسم وروحه باقية بعد الموت،

ثالثاً: ان الانسان مزوّد بالعقل والادراك،

رابعاً: عنده: المفاهيم التصورية والتصديقية ، وعنده ما يعرفه بالعقل النظري من الحقائق الكلية وبعض الحقائق الموجودة مما يدركه العقل و نطق به الوحي، وعنده ما يدعوا اليه العقل العملى، الذي يتلخص في حسن العدل وقبح الظلم، يستنتج منهما: تحسين الخيرات و تقبيح الشرور.

خامساً: انه وضع مفاهيماً اعتبارية لتنظيم حياته مما لابد منه من الامور الحقوقية و موضوعاتها.

سادساً : انه مفطور على المدنية فهو بحاجة ماسة الى استخدام الجمادات والنباتات والحيوانات و كذالك استخدام بني نوعه من الانسان.

والليلة نتابع بحثنا من حيث ختمناه فنقول

سابعاً: بما ان الانسان مفطور على استخدام غيره فلما وجد سائر الأفراد من نوعه، و هم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم و رضي منهم أن ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، و هذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية، و الاجتماع التعاوني، و يلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، و يتعادل النسب و الروابط، و هو العدل الاجتماعي. ولكن كثيرا ما يتجاوز الانسان عن حد الاعتدال في اكتساب منافعه فيعتدي على حق الآخرين ويرتكب ما يقبحه العقل العملي والفطرة السليمة قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا:﴾[2] ، و قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً:﴾[3] ، و قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ:﴾[4] ، و قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‌ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‌:﴾[5] . وهذا من مواطن الصراع بين العقل والشهوة وهي مصدر الخلافات والظلم والاعتداء فيما بين بني آدم و لو كان العدل الاجتماعي الناشئ عن العقل العملي والوجدان الانساني هو الحاكم الفريد في قرارات الانسان لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، و حسن تشريك المساعي، و مراعاة التساوي، مع أن المشهود غالباً خلاف ذلك، هو إعمال القدرة و الغلبة و تحميل القوي مطالبه على الضعيف، و استئثار الغالب على المغلوب و استعباده في طريق مقاصده و مطامعه. وذلك ليس الا من جهة غلبة الشهوة على العقل و تقديم الانتفاع الشخصي او الفئوي على المصالح الاجتماعي، وعلى ما يحكم به العقل من حسن العدل والانصاف وقبح الظلم والاجحاف.

ثامناً: (حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان)

و من هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى التفاوت الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة و منطقة الحياة و العادات و الأخلاق المستندة إلى ذلك، و من حيث القوة و الضعف، يؤدي إلى الاختلاف و الانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، و ينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه و يقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة و المكيدة و الخدعة، فإذا قوي و غلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤدياً إلى الهرج و المرج، و داعيا إلى هلاك الإنسانية، و فناء الفطرة، و بطلان السعادة. و إلى ذلك يشير تعالى بقوله: ﴿ وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا:﴾[6] ، و قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ[7] .

و ظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، و هو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، و نيل كل ذي حق حقه، و تحميلها الناس.

و لكن الطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين:

الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة من خلال المجالس التقنينية التي ناشئة عن اختيار الشعوب، مع إلغاء المعارف الدينية: من التوحيد و الأخلاق الفاضلة، ما يسمى بسكولاريزم، و ذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه و لا مرعي، و جعل الأخلاق تابعة للاجتماع و تحوله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، و يوما الخلاعة، و يوما الصدق، و يوما الكذب، و يوما الأمانة، و يوما الخيانة، و هكذا.

و الثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق و احترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.

فالطريقة الاولى: يتبع القوانين شهوة المجتمع وتكون انعكاسا لما يعيشه الناس في اخلاقهم ورغباتهم.

والطريقة الثانية: مشابه للأولى في القاء الدين و مغاير لها في القول بلزوم تربية المجتمع لما فيه مصلحتهم.

و هذان طريقان بما انهما مبنيان على أساس الجهل، وعدم الاعتراف بالحقائق التي لها اهم الادوار في حياة البشر فغي صالحة لتأمين السعادة للانسان، قال تعالى ﴿ وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ:﴾[8] ففيه بوار هذا النوع و هلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده و سيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية فإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، و ستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، و أباد حقيقته. ولا يكفينا رفع الاختلاف في هذه الدنيا و تحصيل عيش رغيد بل لابد من تاسيس حياة تكون ممهدة لحياة الآخرة التي هي الاصل والمنتهى ولا يتهنئ الحياة في الدنيا الا لمن يراقب الآخرة ايضاً.

فالطريقة الصحيحة لحل مشكل الانسان في دنياه وآخرته هو سلوك وحي السماء، قال تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ:﴾[9] ، و قال: في الآية المبحوث عنها: ﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ[10] ، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير و الإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام و الشرائع الرافعة لاختلافهم.

و الاسلام يدعو الناس إلى ما يحييهم، قال تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ:﴾[11] ، و هذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: ﴿ أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها:﴾[12] ، و قال تعالى: ﴿ أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ:[13] ، و قال تعالى: ﴿ قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‌ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ:﴾[14] ، و قال تعالى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ:﴾[15] ، إلى غير ذلك.

فما أبعد من الإنصاف من يقول: إن الدين مبني على التقليد و الجهل، مضاد للعلم و مباهت له، و هؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية و الاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الإثبات إثباتا للعدم، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد و الطاعة فحسبوها تقليدا و قد أخطئوا في حسبانهم، و الدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل و التقليد، و أمنع جانبا من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى و لا كتاب منير، و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.

وآخر المطاف في هذا البحث، عند ما يكون الاختلاف في نفس الدين:

والله تعالى يخبرنا أن اختلاف نشأ بين النوع مما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغياً بينهم و ظلماً و عتواً، قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‌ وَ عِيسى‌ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، إلى أن قال، وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ:[16] فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري و ما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة و لا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ:﴾[17]

 


[1] البقرة/السورة2، الآية213.
[2] سورة الأحزاب.، آیة72
[3] سورة المعارج، .آية 19
[4] سورة إبراهيم، .آية 34
[5] سورة العلق، آیة.5
[6] يونس/السورة10، الآية19.
[7] البقرة/السورة2، الآية213.
[8] سورة الجاثية، آیة24.
[9] يوسف/السورة12، الآية40.
[10] البقرة/السورة2، الآية213.
[11] سورة الأنفال، آیة24.
[12] سورة الأنعام، آیة122.
[13] الرعد/السورة13، الآية19.
[14] يوسف/السورة12، الآية108.
[15] سورة الزمر، آیة9.
[16] سورة الشورى، آیة.14
[17] سورة الروم، آیة30.