الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

38/09/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الميزان في دخول الشهر

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[1] (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [2] (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‌ وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‌ ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[3]

وصل بحثنا في الآيات أعلاه الى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَريضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ قد يزعم البعض بأن هذا تكرارٌ في الكلام وجاء للتأكيد.

ولكنه ليس كذلك، بل هو تفريع على ما قال تعالى: ﴿كتب عليكم الصيام...اياماً معدودات وهي شهر رمضان... فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ يعني الميزان في دخول الشهر هو الرؤية كما ورد في اكثر من رواية ومن الطرق الخاصة والعامة: صم لرؤيته وافطر لرؤيته او صم للرؤية وافطر للرؤية.

ثم انه هناك خلاف بين الفقهاء بان الرؤية هل هي أعم من الرؤية بالعين المجردة؟ او هي خاصة بها؟ فمن يري انه لابد من حصول الرؤية بالعين المجردة، فيستدل على رأيه: بما انّ في عصر الشريعة لم تكن هناك نواظير قويّة فالنصوص منصرفة الى ما كان موجوداً فلا تشمل الرؤية بالنواظير الحديثة.

ومن يقول الرؤية هي اعم مما يحصل بالعين المجردة وما حصل من خلال النواظير فيستدل: على ان الرؤية هي الميزان فاذا تحققت فقد تحقق موضوع الحكم، ونحن ابناء الدليل فكلما حصل عنوان موضوع الحكم ينطبق عليه الحكم قطعاً، مثلا عند ما يقال لحم الغنم حلال فيشمل الغنم المرينوس ولو لم يكن في عصر الشريعة ولكن ما دام يصدق عليه عنوان الغنم يحل لحمه، كما اذا اتفق غنم له ثلاثة قرون فيشمله دليل الحل ولو لم يكن له نظير في السابق واللاحق.

مثال آخر: مثلاً جاء في الدليل لا يجوز النظر الى الاجنبية، والنظر في عصر الشريعة لم يكن الا بالعين المجردة ولم يكن لا منظار ولا نواظير، ولكن بما ان النظر الى الاجنبية صادق ولو كان بواسطة المنظار او من خلال الناظور فنقول بحرمة النظر. ولا نقول بانصراف الأدلة الى العين المجردة فيجوز النظر الى الاجنبية بواسطة عوينات او من بعيد. مثال آخر: لم يكن في القديم مكبرات الصوت فلا يمكن ان نقول بعدم وجوب السجدة عند سماع آية السجدة من المكبرات مستدلا بانصراف الادلة بما اذا سمعنا الصوت مباشرا من فم القاري.

والقاعدة في باب الانصراف أن سبب الإنصراف ليس ندرة وجود مصداق او عدم توفره في عصر الرسالة، وانما الانصراف يحصل لخفاء الدلالة الحاصل من ندرة استعمال اللفظ في بعض مصاديقه، مثلا الدليل الذي يقول "لا تصل فيما لا يؤكل لحمه" لا يدل على عدم صحة الصلاة في اجزاء الانسان كشعره او اضراسه بينما هو ايضاً مما لا يؤكل لحمه، بدليل الانصراف وهذا الانصراف سببه ندرة استعمال ما لا يؤكل لحمه في الانسان بحيث لا يتبادر الانسان الى الذهن عند سماع عنوان ما لا يؤكل لحمه.

ثم قال تعالى: ﴿ وَ مَنْ كانَ مَريضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ ولو ان هذا الكلام ورد في اول آية من هذه الثلاثة، ولكن هناك جاء لتلطيف النفوس و رفع الاستيحاش، وهنا ذكر لاكمال بيان الحكم اي بعد مشاهدة الشهر يجب الصوم الا لمن كان مريضاً او مسافراً.

ثم قال تعالى: ﴿ يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‌ ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ فأراد ان يبيّن لنا السرّ في هذا التخفيف من رفع التكليف في الزمان وحفظه في العدد. وهنا لم يقل: اراد الله بكم حتى يختص بمسألة الصوم بل قال: يريد الله حتى يفيد قاعدة كلية وسنّة جارية من الله في جميع احكامه، فهو يريد التخفيف واليسر بعباده ولا يريد الصعوبة والعسر بهم. ولذا نري جميع الأحكام انّها دون الطاقة، فما اوجب علينا الصلاة الا سبعة عشر ركعة في كل يوم ولم يوجب في كل ركعة من الاذكار والافعال الا ما يشغل دقيقة واحدة وهكذا الزكاة والخمس وغيرها من الأحكام فياخذ منا جزئاً قليلا جداً من وقتنا ومن طاقتنا ومن مالنا.

ينبغي هنا الاشارة الى موضوع هام، وهو ان بعض الشباب يحملون انفسهم العبادة فوق طاقتهم لفترة معينة ثم يتركونها بالمرة وهذا افراط يليه التفريط والله ما اراد بنا العسر وقال رسول الله لعلي عليهما السلام: "يا علي ان الذين متين فاوغل فيه برفق ولا تبغض الى نفسك عبادة ربك"

وفي نهج البلاغة (200) و من كلام له عليه السلام بالبصرة‌ و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي و هو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره، قال: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ.[4]

فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ، قَالَ: وَ مَا لَهُ؟ قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ‌ ‌وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ‌"[5] (في بعض النسخ209)

ثم قال: "ولتكملوا العدة" هنا بيّنالله تعالى السِرّ في ابقاء التكليف على حفظ العدد، من أنه لاكمال العدة، وقد ورد في العيون عن الرضا عليه السلام: "فان قال: فلِمَ أمروا بصوم شهر رمضان لا أقل من ذلك و لا أكثر؟ قيل: لأنه قوة العباد الذي يعمّ فيه القوى و الضعيف، و انما أوجب الله تعالى الفرايض على أغلب الأشياء و أعم القوى، ثم رخّص لأهل الضعف و رغّب أهل القوة في الفضل، و لو كانوا يصلحون على أقل من ذلك لنقصهم، و لو احتاجوا الى أكثر من ذلك لزادهم). (نقلناه عن نور الثقلين في ذيل الآية).

ثم يذكر أمرا آخر في تبرير ايجاب الصوم وهو قوله: "وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‌ ما هَداكُمْ" والتكبير على قسمين: فعلي و قولي، فان شعائر الله تعظيم وتكبير لله قال تعالى: ﴿ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[6] . والعبادات الجماعية هي من شعائر الله ومنها الصوم حيث ان الأجواء الرمضانية أجواء معنوية يعيشها العالم الاسلامي و إرتفاع المعنويات فيها امر مشهود و تكثير العبادة وشيوعها وتقليل المعاصي وقبحها امر واضح لا يستهان به. واما التكبير القولي ومضافا الى الادعية التي تقرء في هذا الشهر وكلها تكبير وتعظيم لله. قد ورد في بعض الروايات التكبيرات التي تؤتى بها في يوم العيد جاء في نور الثقلين عن سعيد النقاش قال، قال لي ابو عبد الله عليه السلام: "اما ان في الفطر تكبيرا و لكنه مسنون. قال: قلت: و أين هو؟ قال في ليلة الفطر في المغرب، و العشاء الاخرة، و في صلوة الفجر، و في صلوة العيد، ثم يقطع قال قلت: كيف أقول؟ قال: تقول «الله أكبر الله أكبر لا اله الا الله و الله أكبر الله أكبر و لله الحمد الله أكبر على ما هدانا» و هو قول الله تعالى: «وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ» يعنى الصيام و لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‌ ما هَداكُمْ".

ثم في الاخير ذكر امراً آخر فقال: "وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" لعل للترجّي بمعنى الاقتضاء يعني ان الصوم يبعث فيكم روح الشكر. والشكر ثلاثة اقسام: فعلي وهو: صرف العبد جميع ما انعم الله عليه فيما خلق لاجله، وقولي: وهو قول العبد: الحمد لله والشكر لله. وقلبي: وهو "الرضا بما قدر الله له"


[1] البقرة/السورة2، الآية183.
[2] البقرة/السورة2، الآية184.
[3] البقرة/السورة2، الآية185.
[4] نهج البلاغة، محمد الدشتی، ج1، ص218.
[5] نهج البلاغة، محمد الدشتی، ج1، ص218.
[6] الحج/السورة22، الآية32.