الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

37/09/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الثمرة الخامسة والعشرون

اخترنا لكم آيات من سورة الرعد التي تشتمل على تعاليم أخلاقية قيمة وهي قوله تعالى: "لِلَّذينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى‌ وَ الَّذينَ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ . أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ . الَّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْميثاقَ . وَ الَّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ . وَ الَّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ . سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ . وَ الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ميثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" [1]

الآية الأولى تبين أن السعادة هي رهينة لاستجابة الرب ولا جابر لذلك و لا بديل، والذي لم يستجب فهو شقيٌّ لا يستفيد أبداً، والاستجابة هي تلبية لدعوة الله لامتثال اوامره والانتهاء عن نواهيه. ثم ينبغي أن نلقي ضوءً على مفردة الحسنى وهي صيغة افعل التفضيل المؤنث من مادة الحسن، ما المراد منها؟ قال في مجمع البيان: (المراد به للذين استجابوا دعوة الله و آمنوا به و أطاعوه الحسنى و هي الجنة عن الحسن و الجبائي و قيل معناه الخصلة الحسنى و الحالة الحسنى و هي صفة الثواب و الجنة أيضا عن أبي مسلم‌). قال في الأمثل: («الحسنى» في معناها الواسع تشمل كلّ خير و سعادة، بِدءاً من الخصال الحسنة و الفضائل الاخلاقية الى الحياة الاجتماعية الطاهرة و النصر على الأعداء و جنّة الخلد). وقد اختار في الميزان العاقبة الحسنى مراداً في هذه الآية، وهو الأصح لأن سياق الكلام يناسبها ويظهر ذالك من الآيات التي سبقتها و ذيل نفس الآية حيث ذكر عاقبة من لم يستجيب لربه، والعاقبة الحسنى متوقفة على الامور التي ذكروها.

ثم تطرقت الآية إلى حال من لا يستجيب لربه فقال: "لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ" قال في الميزان: (موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشر و الشقوة بما لا يذكر). والظاهر أن مراده رضوان الله عليه أن القياس كان يقتضي أن يقول: لهم السوؤا او عذاب شديد وما شابه ذالك، فترك هذا الاسلوب وعدل إلى ذكر ما يتمناه هؤلاء ليعالجوا مشكلتهم، وهذا الاسلوب من البيان ترسم بصورة ابلغ، شدة الهول والعذاب، ونعم التفاتة منه رضوان الله عليه.

وقوله ما في الارض ومثله معه بيان لأقصى ما يتمناه أهل الدنيا بل ضِعفُه. وهذا يرسم لنا مدى حقارة الدنيا في جنب الآخرة. قال امير المؤمنين عليه السلام: " وَ قَالَ ع مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ وَ كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ فَهُوَ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ"[2]

قيل أحد الواعظين أراد أن يوعظ هارون الرشيد فسئل عنه لو أنك وقعت في مكان لم تجد ماءً وانت من شدة العطش في معرض الهلاك، كم تفتدي للحصول على شربة ماء؟ قال نصف مُلكي، ثم سأله لو انك حبس بولك ووقعت في ضيق شديد وفي معرض الهلاك كم تفتدي لتعالج خروج بولك؟ قال نصف ملكي، فقال له الواعظ فكيف انت متمسك بملك يساوي عندك شربة ماء و بول.

ثم في آخر الآية قال: "أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ".

في المقصود من سوء الحساب للمفسّرين آراء مختلفة، حيث يعتقد البعض انّه الحساب الدقيق بدون اي عفو او مسامحة، و يؤيّد هذا المعنى الحديث الوارد عن الامام الصادق عليه السّلام انّه قال لرجل: «يا فلان مالك و لأخيك؟» قال: جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي الى آخره، و عنده سماع الامام لهذا الجواب غضب و جلس ثمّ قال: «كأنّك إذا استقصيت حقّك لم تسيء اليه! أ رأيت ما حكى اللّه عزّ و جلّ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ أ تراهم يخافون اللّه ان يجور عليهم؟! لا و اللّه ما خافوا الّا الاستقصاء فسمّاه اللّه عزّ و جلّ سوء الحساب، فمن استقصى فقد أساءه» .

و قال البعض: المقصود من سوء الحساب، انّه يلازم حسابهم التوبيخ و الملامة و غيرها، فبالإضافة الى خوفهم من العذاب يؤلمهم التوبيخ. فمن باب المثال لو وقع شخص في سجن او بيد عدو وهو لم يرتكب خلافاً فهو يتأذى في جسمه ولكن يري نفسه مظلوماً ويشعر براحة معنويةٍ، ولكنه لو قتل مؤمن صالح من دون مبرر، فكان في حالة العصبية فارتكب هذه الجريمة فسجنوه وعذبوه مكافئة لظلمه في قتل هذه المؤمن المظلوم فهو يشعر بالألمين ألم في جسمه من السجن والتعذيب وألم في نفسه وروحه مما ارتكب من تلك الجريمة النكراء في قتل المؤمن. فكذلك أهل النار معذبون بعذاب الوجدان والشعور بطردهم عن محضر الرحمن. وعكس القضية صادق لأهل الجنة ولعل لذتهم بقربهم من المولى اعظم من لذتهم بنعيم الجنة. قال تعالى: "ورضوان من الله اكبر" و يقول البعض الآخر: المقصود هو الجزاء الذي يسوؤهم، كما نقول: انّ فلان حسابه نقي، او لآخر: حسابه مظلم، و هذا يعني نتيجة حسابهم جيدة او سيّئة، او تقول: (ضع حسابه في يده) يعني حاسبه طبقا لعمله.

وصاحب الميزان يرى انه بمنزلة التعليل لتمنى افتدائهم، وسوء الحساب من إضافة الصفة إلى الموصوف‌ كقولنا حسن الختام وملخص الكلام ، فالحساب عادل حسن، ولكنه حساب يسوء صاحبه و لا يسره.

وقوله مأواهم ولم يقل منزلهم ولعل السر في ذالك أن المأوى هو الملجأ فاراد الله ان يبين انه لا منجى ولا ملجئ لهم الا جهنم يعني الفرار إلى ما منه الفرار، نستجير بالله منه. والمِهاد هو المكان الذي مُهِّد له قبل ذالك، ولعل فيه إشارة إلى أن الذي لم يستجب لربّه قد مَهّد لنفسه بأعماله السيئة ذالك.

ثم في الآية التي تليها قال: "أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‌ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْباب‌" ، هنا مقارنة بين من يعترف بالقرآن ومن ل ايعترف ولكن الله جعل الأعمى قسيماً للفرقة الاولى وهذا التعبير يدل على أنّ الفرقة الاولى هم اهل البصيرة بخلاف هؤلاء الذين لا يعترفون بالقرآن فانهم لا بصيرة لهم وهذه الآية بمنزلة العلة للآية السابقة يعني الاستجابة لله معلول للاعتراف بحقانية القرآن و ما يوحى إلى الرسول و من لا يستجيب لانه لم يعلم ولم يعترف بالوحي. ثم حصر التذكر بأولي الالباب فيستفاد من ذالك هؤلاء الذين يعترفون بحقانية القرآن وما نزل من الله على رسوله و استجابوا لربهم هم اولي الالباب. وان شاء الله نتابع بحثنا في الليالي القادمة في بقية هذه الآيات المختارة.


[1] الرعد 18-25.
[2] نهج البلاغةحكمة377.