الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

37/09/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الثمرة الرابعة والعشرون

وَ قُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي‌ هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً . رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً . وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‌ بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً )[1]

قد فرغنا عن الكلام في الآية الاولى فهي تناولت التحذير من الوقوع في نزغ الشيطان، حيث اتضح لنا من خلال وقوفنا عند تفسيرها أن الكلام ينبغي أن يكون حسناً من ناحية المضمون والأداء، فمن ناحية المضمون لابد من أن يكون كلاماً منطقياً، ومن ناحية الأداء فينبغي أن يكون ليّنا ومحترماً وجذاباً، فإذا تم حسن الكلام من هذين الناحيتين أثّر في القلوب، و لا يستوجب الحسّاسيّة ولا يثير الآخر بل يقع من قلب الآخر موقعه. وفي قسم الأخير من الآية أشارت إلى انّ الشيطان كان عدواً مبيناً، فيأتي سؤال أنه مادام الشيطان هو عدو مبين فكيف يمكن له أن ينزغ بين المؤمنين لأن الانسان يحذر عن العدو الذي بيّنَةٌ عداوته؟

والجواب عن ذالك كون الشيطان عدوٌ للإنسان لا ينكره أحد ولكن استعمال عداوته أمرٌ خفيٌ لابد من الحذر منه ومراقبة النفس كي لا تقع فيه، و النزغ هو حركة خفية بنية الشر والاضرار، فهو يدخل على خط الحوار بين المتحابين، ويفسد بينهما من خلال إثارة الفتن والأحقاد والضغائن بلسان النصح و الخير مستغلاً حالة التعصبات القومية والطائفية و الحزبية والفئوية و حالة الحسد وسوء الظن والاستئثار وغيرها من الأخلاق الذميمة.

والليلة نريد أن نقف معكم على مائدة الآية الثانية وهي قوله تعالى: "رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً" (54 سورة الإسراء) تطرّقت هذه الآية إلى نقطة أخرى أخلاقية مهمةٍ جداً، وهي تقييم الآخرين بالظنون والتخرسات والحكم عليهم من حيث الإيمان و الفسق، ومن حيث إنه في الجنة أو النار، بينما هذا إنما يعود أمره إلى الله سبحانه وتعالى،

فهو الذي سوف يحاسب الناس يوم القيامة، ويُدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار، فينبغي أن نحسن الظن بالآخرين، وأن لا نحكم بفسق إنسان ما، بمجرد ما نرى منه ما لا يوافق ميولنا وطبعنا،

ولما كانت محاسبة الناس منحصرة بالله، ولا دخل للآخرين في ذلك، خاطب الله حبيبه قائلاً: "وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً"، فإذا كان أشرف الناس وأفضلهم لا يملك مثل هذه الصلاحية، فما بال سائر الناس، و هناك آيات أخرى تؤكد على هذا المطلب، ومنها قول الله تعالى : "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" ، وقوله: "وَ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَ مَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ مَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ" وقوله تعالى : "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"، فهذه الآيات تفيد ايضاً أن أمر الهداية والضلال خارج عن إرادة النبي صلى الله عليه وآله وإنّما عليه إبلاغ أوامر الله تعالى ونواهيه إليهم، وأما أمر الحساب فهذا إنما يرجع إلى الله سبحانه.

أهم موضوع نستفيد من الآية المبحوث عنها الاجتناب عن سوء الظن بالآخرين والحكم عليهم بما لا اساس له وهي من أهم جذور نزغ الشيطان ومدخله ومنطلقة وقد ذكر الله تعالى أهم ما ينتهي إلى الفتنة والفساد في آية واحدة من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُوا وَ لَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ " ، هذه الآية المباركة أكدت على منع ثلاثة رذائل خطيرة، أولها، سوء الظن بالآخرين، والثانية : البحث والتجسس في أمور الناس للكشف عيوبهم لتكون كورقة الضغط عليهم، والتجسس لا يكون إلا نتيجة سوء الظن بالآخرين، والثالثة، ذكر الآخرين بما يكرهه وهو الغيبة في مفاد بعض الروايات، و قد شبه الله الغيبة بأكل لحم المغتاب الميت، ليؤكد على شناعة العمل، وأنه من الكبائر.

وأما الروايات المباركة فهي كثيرة تؤكد على أنه لا يحق لأحد أن يسيئ الظن بالآخرين، وأن ينظر إليهم نظرة احتقار والهوان، وذلك أن الإنسان مخلوق الله تعالى، والله أعطى الكرامة والعزة والشرف للإنسان، فلا ينتزع ذلك الكرامة منه إلا إذا اعتدى على الحق والإنسانية. ومن هنا يجدر بنا أن نستعرض بعض الروايات التي تؤكد على أن الإنسان مخلوق محترم، وعلينا أن ننظر إليه بنظرة الإجلال والإكبار لا بنظرة الهوان والاحتقار.

روى الكليني: عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا سَرَّاجٍ وَ كَانَ خَادِماً لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع‌ ( قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع فِي حَاجَةٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ أَنَا وَجَمَاعَةً مِنْ مَوَالِيهِ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فِيهَا ثُمَّ رَجَعْنَا مُغْتَمِّينَ‌ قَالَ وَكَانَ فِرَاشِي فِي الْحَائِرِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ نُزُولًا فَجِئْتُ وَأَنَا بِحَالٍ‌ فَرَمَيْتُ بِنَفْسِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَدْ أَقْبَلَ قَالَ فَقَالَ قَدْ أَتَيْنَاكَ أَوْ قَالَ جِئْنَاكَ فَاسْتَوَيْتُ جَالِساً وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِي فَسَأَلَنِي عَمَّا بَعَثَنِي لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ قَوْمٍ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّا نَبْرَأُ مِنْهُمْ‌ إِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَا نَقُولُ قَالَ فَقَالَ يَتَوَلَّوْنَا وَلَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ لَا جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ: وَهُوَ ذَا عِنْدَ اللَّهِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا أَ فَتَرَاهُ اطَّرَحَنَا؟ قَالَ: قُلْتُ لَا، وَاللَّهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا نَفْعَلُ؟ قَالَ فَتَوَلَّوْهُمْ وَلَا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ، إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ وَلَا صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ وَلَا صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْأَرْبَعَةِ وَلَا صَاحِبُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ وَلَا صَاحِبُ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السِّتَّةِ وَلَا صَاحِبُ السِّتَّةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّبْعَة....... الخ) وجاء في الكافي : عَنْ زُرَارَةَ :عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَا : "أَقْرَبُ‌ مَا يَكُونُ‌ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ أَنْ يُوَاخِيَ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ، فَيُحْصِيَ‌ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ‌ وَ زَلَّاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ‌ بِهَا يَوْماً مَا "جاء في الأثر :مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَقُولُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص‌ يَا مَعْشَرَ مَنْ‌ أَسْلَمَ‌ بِلِسَانِهِ‌ وَ لَمْ يَخْلُصِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ وَ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ‌ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَ مَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَ لَوْ فِي بَيْتِهِ). ومن هنا ينبغي علينا أن نحذر عن التجسس والتتبع للحصول على معايب الناس. وفي رواية أخرى رواه الكليني بسنده : عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع‌ مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَ هَدْمَ مُرُوءَتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ‌ أَعْيُنِ‌ النَّاسِ‌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَقْبَلُهُ الشَّيْطَانُ".

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ (قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع فِي كَلَامٍ لَهُ‌ ضَعْ‌ أَمْرَ أَخِيكَ‌ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ‌ وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا" وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "حسن الظّنّ راحة القلب‌ و سلامة الدّين". وعنه عليه السلام: "مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِالنَّاسِ حَازَ مِنْهُمُ‌ الْمَحَبَّةَ"

وعن مولانا الإمام الرضا عليه السلام كلام عد فيها عشرة من خصال تتوقف علي الايمان والعقل وبعد ذكر تسعة من تلك الخصال ونحن نتركها رعاية للاختصار "قَالَ عليه السلام: الْعَاشِرَةُ وَ مَا الْعَاشِرَةُ قِيلَ لَهُ مَا هِيَ قَالَ ع لَا يَرَى أَحَداً إِلَّا قَالَ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَ أَتْقَى، إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْهُ وَ أَتْقَى وَ رَجُلٌ شَرٌّ مِنْهُ وَ أَدْنَى فَإِذَا لَقِيَ الَّذِي شَرٌّ مِنْهُ وَ أَدْنَى قَالَ لَعَلَّ خَيْرَ هَذَا بَاطِنٌ وَ هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ خَيْرِي ظَاهِرٌ وَ هُوَ شَرٌّ لِي وَ إِذَا رَأَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَ أَتْقَى، تَوَاضَعَ لَهُ لِيَلْحَقَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَلَا مَجْدُهُ وَ طَابَ خَيْرُهُ وَ حَسُنَ ذِكْرُهُ وَ سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ.)

وعن الصَّادِقُ عليه السلام: "‌ يَدْخُلُ رَجُلَانِ الْمَسْجِدَ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَ الْآخَرُ فَاسِقٌ فَيَخْرُجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَ الْفَاسِقُ صِدِّيقٌ وَ الْعَابِدُ فَاسِقٌ وَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْعَابِدُ الْمَسْجِدَ وَ هُوَ مُدِلٌّ بِعِبَادَتِهِ وَ فِكْرَتُهُ فِي ذَلِكَ وَ يَكُونُ فِكْرَةُ الْفَاسِقِ فِي التَّنَدُّمِ عَلَى فِسْقِهِ فَيَسْتَغْفِرُ لِلَّهِ مِنْ ذُنُوبِهِ". وفي الآية الاخيرة قال: "وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‌ بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً" لعل في هذه الاية اراد الله أن يذكرنا بأن الله هو عالم بالجميع فلا داعي لتصنيفكم للناس والتفاضل أمر دارج حتي يشمل الانبياء .


[1] الإسراء53-55.