الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

37/09/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الثمرة الثالث والعشرون

قال الله تعالى: "وَ قُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي‌ هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً . رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً . وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‌ بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً" [1]

هذه الآيات تحتوي على دروس اجتماعية عالية ترشدنا الى اسلوب التعاشر مع الآخرين، و ما نحمل عنهم في قلوبنا . أمرنا الله باختيار أحسن الأقوال معلّلاً بأنّ الشيطان ينزغ بين المؤمنين

قال في مجمع البيان: " النزغ: الإزعاج بالإغراء، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة، نزغه ينزغه نزغاً. وقيل: النزغ الفساد، ومنه نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي: أفسد. قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة."

وقد وردت هذه الكلمة في القرآن غير الآية المبحوث عنها في ثلاثة موارد:

المورد الاول : قال تعالى: "وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"[2] المورد الثاني : قال الله تعالى: "وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَ لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَ إِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[3] . هذه الآيات فيها ارجاع إلى حكم الفطرة والوجدان لذا في الآية الاولى طرح سؤالاً و تركنا ووجداننا لنحكم فيها وفي الثانية قارن بين الحسنة والسيئة و اشار إلى عدم استوائهما ثم أمر باختيار الاحسن ثمّ بيّن الثمرة الحلوة لهذا الخيار الجميل، وفي الثالثة بيّن أن تلقّي هذا المعنى من الصميم، لا يتيسر الا للخواص من الناس، ثم في الرابعة حذّرنا عن نزغ الشيطان الذي يدعونا إلى اختيار المساوي من القول والعمل و إلى اختيار المواجهة التي تزيد في التنافر والبغضاء، هذا درس لنا أن نكون في حذر الدائم من نزغ الشيطان وتسويلاته.

و قد يخطر بالبال سؤال في هاتين الآيتين: من أنه كيف يخاطب اللهُ رسولَه ويأمره بالاستعادة من نزغ الشيطان وهو معصوم و هو أشرف خلق الله فما معنى ذالك؟ هل هو في معرض خطر التأثير من نزق الشيطان؟

الجواب اولاً : أن عصمة النبي صلى الله عليه واله كانت بالله، و لشدة تقواه وتوسّله الدائم إلى ربّه واستعاذته بالله من جميع الشرور، كما أن رسول الله كان سيد التوابين والمستغفرين فالاستعاذة بالله كمال لكل مؤمن بلغ ما بلغ من مراحل التقوى، كما أن الاغترار بالنفس والعجب بها والاعتماد عليها من دون الله، عيب و خطر على كل مؤمن.

وثانياً : الخطابات المتوجهة إلى النبي أكثرها خطاب إلى أمّته أيضاً للمشاركة، الا ما خرج بالدليل كما هو معروف في علم الاصول. وقد ورد في الكافي " بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّ رُسُلَهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ وَإِنْ لَا تَكُنْ فِيكُمْ فَاسْأَلُوا اللَّهَ و َارْغَبُوا إِلَيْهِ فِيهَا، قَالَ فَذَكَرَهَا عَشَرَةً الْيَقِينَ وَالْقَنَاعَةَ والصَّبْرَ وَالشُّكْرَ وَالْحِلْمَ‌ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءَ وَالْغَيْرَةَ وَالشَّجَاعَةَ والْمُرُوءَةَ قَالَ وَرَوَى بَعْضُهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْخِصَالِ الْعَشَرَةِ وَزَادَ فِيهَا الصِّدْقَ وَ أداءَ الْأَمَانَةِ)[4]

المورد الثالث : في سورة يوسف عليه السلام حيث جاء فيها: "وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْويلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بي‌ إِذْ أَخْرَجَني‌ مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْني‌ وَ بَيْنَ إِخْوَتي‌ إِنَّ رَبِّي لَطيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَليمُ الْحَكيمُ" [5] . فنزغ الشيطان استطاع أن يفرق بين الإخوة وهم ابناء النبي يعقوب عليه السلام إلى درجة جعلوا أخيهم في بئر لا يدرون ماذا يجرى عليه!!!

و جاء في سير اعلام النبلاء ج6 في ترجمة موسى ابن جعفر عليه السلام وفي دلائل الامامة لمحمد ابن جرير الطبري وغيرهما في حياة موسى ابن جعفر عليه السلام: (أنّه كان بالمدينة رجل من ولد عمر بن الخطاب يؤذيه و يشتم عليا ع و كان قد قال له بعض حاشيته دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشد النهي و زجرهم أشد الزجر و سأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة فركب إليه في مزرعته فوجده فيها فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري لا توطأ زرعنا فوطأه بالحمار حتى وصل إليه فنزل و جلس عنده وضاحكه و قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟، قال له: مائة دينار قال: فكم ترجو أن تصيب فيه؟ قال لا أعلم الغيب، قال: إنما قلت لك كم ترجو فيه؟ قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار، قال: فأعطاه ثلاثمائة دينار، و قال" هذا زرعك على حاله قال: فقام العمري فقبّل رأسه و انصرف، قال: فراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، قال: فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتك؟ قد كنت تقول خلاف هذا، فخاصمهم و سأمهم و جعل يدعو لأبي الحسن موسى كلّما دخل وخرج، قال: فقال أبو الحسن موسى لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: أيما كان أخير؟ ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار؟." [6]

فنرى في هذه القصة كيف كان الامام عليه السلام ساعياً في نزع جذور الخلاف ونزغ الشياطين و للأسف نرى بعض معاصرينا باسم أهل البيت عليهم السلام يغتنمون الفرص لاستفزاز الآخرين ضد الشيعة حتى ترى مثل هذه الامور صار سبباً لنبت العداوة لأهل البيت في قلوب بعص السنة رغماً لمبانيهم العلمية واصولهم المذهبية.

المهم أن من يدعو إلى سبيل الله تعالى، فينبغي أن يكون أساس الدعوى على الحكمة والصبر والحلم واللينة، لأنه إذا نجح في ذلك، فسيتمكن بإذن الله تعالى أن يجذب القلوب، ويؤثر في النفوس.

قال الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء استقبال شهر رمضان المبارك : ( وَ وَفِّقْنَا فِيهِ لِأَنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالْإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَى مَنْ عُودِيَ فِيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لَا نُوَالِيهِ، وَالْحِزْبُ الَّذِي لَا نُصَافِيهِ.) كلها دعوة الى حسن التعاشر واختيار الأحسن.

، في حرب صفين، سمع أمير المؤمنين عليه السلام أن أصحابه يسبون اصحاب معاوية فقال : "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ‌ وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَ قُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه‌"


[1] الإسراء53-55.
[2] الأعراف 200.
[3] فصلت33-36.
[4] اصول الكافي ج2ص59.
[5] يوسف100.
[6] دلائل الامامة ص311.