الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
قال تعالى : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }[1]
عرفنا أن الآيات السابقة تؤكد على أهمية اختيار الكلام المناسب للحوار من ناحية المضمون والمادة، وكذلك من ناحية الأداء والأسلوب، وكما تبين أن الداعي إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يحب المدعو، ويحمل له المودة والرحمة واللينة، والحرص على أن لا ينحرف عن طريق الحق، أما إذا اعتقد المبلِغ أن المدعو رجل بلا عمل ومطرود من ساحة القدس، ومذنب .. الخ، لا يمكن أن يؤثر في قلوب السامعين، ولا يمكن أن يأخذهم إلى سبيل النجاة والفلاح، من هنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يحمل دائما مشاعر الحب والحنان والمودة والاحترام للكل من المسلمين والمشركين والأصدقاء والأعداء، قال الله سبحانه وتعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }[2] وكان حريصاً جداً على أن يختار مشركو مكة واليهود والنصارى الهداية بدخولهم في الإسلام، قال الله تعالى : {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }[3]
واتضح لنا مما سبق عند تفسير قوله تعالى : {وَ قُلْ لِعِبادي يَقُولُوا الَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبيناً} 53 {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً} 54 [ سورة الإسراء] أن الله سبحانه وتعالى أمر المسلمين في الآية الأولى بحسن القول وحذّرهم عن نزغ الشيطان معللاً بأنّه عدو للإنسان، وبالنسبة إلى قوله تعالى في مطلع الآية : "قل لعبادي"  فقيل : المقصود مشركو مكة، فرغماً لشركهم وعنادهم، وإصرارهم على الباطل يلاطفهم الله بالقول، لعلهم يرتدعوا وينصحهم بالأخذ بأحسن الأقوال وهو التوحيد ويحذِّرهم عن مغبّة الشيطان وجعلوا نزول الآية في مكة المكرمة قرينة على ترجيح هذا الاحتمال في المقصود من عبادي. وهناك رأي آخر وهو تخصيص العباد بالمؤمنين فأراد بذلك أن يدلّهم على أسلوب الدعوة الأنجح والأحسن وهو المرونة في الكلام مع المشركين والاجتناب من الخشونة واستعمال ألفاظ يبعدهم عن الهداية في دعوتهم الى الاسلام .
 وفي الآية التي تليها نبّه على أنّ الله هو أعلم بعباده وأمرُ الرّحمة والعذاب بيده فيجريهما حسب مشيته التي تتبع قابلية كل أحد من خلال عمله، ونفى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولية تعيين الاستحقاقات ليتنبّه أمتُه أيضاً أن لا ينبغي أن يحكموا بصلاح الأشخاص أو طلاحهم، أما قوله تعالى : {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } فتناول سبحانه وتعالى كبرى عامة، وهي بمنزلة التعليل لما سبق وهو علم الله الشامل لكل من في السماوات ومن في الأرض والتفاضل الموجود فيهم ثم التأكيد على أنّ التفاضل موجود في الأنبياء أيضاً، ثم خصص داوود عليه السلام بالذكر وأشار أنه تعالى أنزل عليه زبوراً. مع الانتباه أن المفسرين ذكروا احتمالات في تعيين المراد من قوله تعالى : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فقيل : إن المراد الملائكة التي تسكن فيهما أو المراد أعم من ذلك بحيث يشمل الناس، أو المراد القديسين في السماوات وهم الملائكة والقديسين في الأرض وهم الأنبياء والأوصياء.
لكن الأظهر في المقام أن " من " الموصولة يمكن أن ينطبق على الجن والإنس والملائكة وكل من يصح أن يندرج تحت هذه الكلمة التي هي متوغلة في الإبهام، ودلالتها عامة جداً، فلا وجه لتخصيص بعض دون الآخر.
ثانياً – المعنى الثاني الذي تحدثت عنه الآية المباركة، هو أن الله سبحانه وتعالى، فضل الله الأنبياء عليهم السلام بعضهم على بعض، ومن المعلوم أن هذه التفاضل لم يأت عبثا، بل إنما تم على أساس الجهود التي بذلها هؤلاء الأنبياء العظام عليهم السلام، لأن ملاك التفاضل أمر اختياري، فمن قدم التضحيات أكثر حصل على المراتب والمنازل،
ثالثاً – بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى بأن علمه قد أحاط بكل شيء بين السموات والأرض، وأن الله هو فضل الله بعض الأنبياء على بعضهم الآخرين، ختم الآية المباركة بقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}.
فإن قلت : ما المناسبة بين عجز الآية وصدرها؟ قلت : في المقام ثلاثة احتمالات، أولا – كتاب الزبور كان مشتملاً على المناجاة والدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بأسلوب جذاب وخلاب، فبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الحوار الناجح الذي يقوم على الأسلوب اللين والهادئ، فذكر كتاب الزبور، ليؤكد على أن التأثير في قلوب الآخرين لا يمكن إلا من خلال الكلام يتمتع بحسن الأداء والألقاء.
ثانياً – كان مشركو مكة وزعماء قريش ينكرون أن يعطي الله سبحانه وتعالى يتيماً منصباً مهماً كمنصب الرسالة، بل كانوا يقولون دائماً، أن الرسالة الإلهية التي كانت تتمثل في القرآن الكريم لِمَ لمْ تنزل على زعما ء مكة ومدينة، أو زعماء القبائل العربية من أوس وخزرج وقريش وما إلى ذلك؟ فكانوا يتعجبون من نزول القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله سبحانه وتعالى في حكاية حالهم : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[4] المهم هؤلاء كانوا يرفضون أن يكون منصب الرسالة أو الحكومة وتولي أمور الناس بيد الرجل اليتيم والفقير، لا يملك قوة ولا مال، فقال الله تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}، ليذكرهم أن الله سبحانه وتعالى أكد في الزبور على أن استلام منصب الرسالة أو تولي أمور الناس ليس متوقفاً على أن يكون رجال ذا مال أو قوة أو يكون زعيم القبيلة وإلى آخر ما هنالك، بل ينبغي أن يكون صالحاً ورعاً ملتزم بالدين بأوامر الله تعالى وبنواهيه وإلى غير ما هنالك قال الله سبحانه : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }[5] وقال تعالى في موضع آخر : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }[6]  فوعد الله الذين عملوا الصالحات وقد استضعفوا في الأرض، أن يهبهم إمامة هذه الأرض، ليكونوا حكامها بالعدل والقسط، وسيتحقق هذا الوعد الإلهي بظهور مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه شريف بإذن الله تعالى ومنه.
ثالثاً – أنكر اليهود نزول أي كتاب بعد موسى عليه السلام، فأنكروا نزول الإنجيل على النبي عيسى وأنكروا نزول الزبور على النبي داود الذي جاء بعد عيسى عليه السلام، فقوله تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}، تكذيب لمقالة اليهود، وتأكيد على إنزال الكتب بعد موسى عليه السلام.


نكات مهمة ينبغي الوقوف عندها.
أولا – يتمتع العلماء الكرام بمنزلة رفيعة بين سائر الناس في نظر الإسلام، فحينما نقرأ الروايات التي تتحدث عن مكانة العلماء ومنزلتهم نصل ونتأكد من أن لهم شأناً مهماً في ديننا الحنيف، وذلك يرجع إلى أسباب عدة، ومنها أنهم ورثة الأنبياء عليهم السلام، ووراثتهم في القيام بمهمة التبليغ، ونشر أحكام الله تعالى من الأوامر والنواهي، وهداية الناس، فكما أن الأنبياء يبلغون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه الله تعالى، فكذلك ينبغي أن تكون حياة العلماء موقوفة على دعوة الناس إلى سواء السبيل، ومن هنا ورد في الأثر: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)[7] [8] [9] وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة العلماء ومنزلتهم عند الله عز وجل.
مع الالتفات أنه ورد في بعض الكتب : (علماء أمتى أفضل من أنبياء بني إسرائيل )[10]، فإما المراد من العلماء أئمة الأطهار عليهم السلام، وهذا ما أشار إليه نعمة الله الجزائري رحمه الله تعالى حيث قال : " وأمّا ما جاء في الخبر من قوله صلّى اللّه عليه و اله: «علماء أمّتي‏ أفضل من أنبياء بني إسرائيل»، فالظاهر أنّ المراد من العلماء في الحديث الأئمّة المعصومين (صلوات اللّه عليهم)،[11]، وإما أن ما ورد من أن ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) أصح سندا ودراية، وذلك أنه لا يرد عليه أي إشكال، وهذا ما أيده بعض علمائنا الكرام كالإمام الخميني قدس سره وغيره، وهذا ما ورد في أكثر من كتاب من كتبنا المعتبرة.
ثانياً – فضل الله سبحانه وتعالى الأنبياء بعضهم على بعض، وهذا أشار إليه القرآن الكريم والروايات الصحيحة المعتبرة، فليس كل الأنبياء على مستوى واحد من حيث المنزلة، فبعضهم أفضل من بعض، فخمسة منهم اولوا العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ومحمد صلى الله عليه وعليهم وآله وسلم، ومن المعلوم أن معيار التفاضل أمر اختياري، فإنما يفضل شخص على شخص لجودة عمله، وكثرة تحمله من المصائب والآلام في سبيل الله تعالى، فكما أجاد الشخص في عمله، وأخلصه لله تعالى، وقدم التضحيات، وتحمل المصائب في سبيل الله تعالى، كلما حاز على المنازل الرفيعة، والدرجات السامية عند الله تعالى.
ثالثاً – تتعلق النكتة الثالثة بالشبهة والجواب عنها، وهي عبارة عن السؤال القائل، هل عصم الله الأنبياء من الذنوب والمعاصي أو لا؟ فإن قلنا بـ " لا "، فهذا خلاف ما ذهب إليه جميع علماء الطائفة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، حيث أكد الجميع أن عصمتهم هبة من الله تعالى، وليست عصمة كسبية. وإن قلنا بـ " نعم"، يأتي إشكال آخر، وهو أنه لا فضيلة حينئذ للأنبياء على غيرهم من عامة الناس، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي عصمهم من الذنوب، وصانهم عن ارتكاب المعاصي، ومن هنا فلو عصم الله فرعون مثلاً من ارتكاب المعاصي لكان مثل موسى عليه السلام.
إلا أن هذا ليس بتام، ولا أساس له من الصحة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم بعلمه الأزلى أنه إذا خلق الخلق ولم ينزل أي دستور يشتمل على الأوامر والنواهي، سيكون الأنبياء أكثر التزاما وطاعة وخضوعاً لله سبحانه، وأبعد مما يأمر به الشيطان، وسيكون أولو العزم أفضل منهم طاعة وتحملاً للمشقات والآلام، وسيكون نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضلهم من كل النواحي. بعبارة أخرى، أنه سبحانه وتعالى عرف أن النبي نوح مثلاً سيكون أفضل من حيث الطاعة والعبادة والتوجه إلى الله في زمانه، حتى ولو لم يكن أي دستور أو قانون منزل من الله عز وجل، وكذلك النبي موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء الكرام عليهم السلام، فحينما عرف الله سبحانه وتعالى هذا الأمر منهم، أعطهم منزلة ومكانة واختياراً، وأطلعهم على أسرار الكون والحياة مما كانوا يحتاجون إليه في إرشاد الناس وهدايتهم، كما عصمهم الله من الذنوب والمعاصي.
ومن الأحسن أن نضرب مثالاً لمزيد من التوضيح والفهم، وهو أنه إذا أرادت مدرسة من المدارس أن تنظم رحلة لطلابها، فتختار منهم بحسب خبرتها السابقة أفضلهم التزاماً ودراسة وأخلاقاً وفهماً، ثم تطلعه على طريقة الرحلة، ومنزلها النهائي، والوقت الذي ستستغرق، وكما تزوده بالإمكانيات المادية التي يحتاج إليه، وكما تمنحه بعض الاختيارات ليتمكن من قيادة الرحلة بشكل أحسن، وإيصالها إلى منزلها المنشود لها. فهنا لا يحق للطلاب الآخرين أن يشكلوا بأنه لو زودتنا المدرسة بهذه الملعومات والإمكانيات والاختيارات، لكنا مثله، لأن المدرسة إنما اختارته لأنه كان يستحق ذلك بسبب حسن سيرته التي قدمها من خلال الدراسة.
وثمة النصوص المباركة تؤيد ما ذكرناه، ومنها ما قال الله سبحانه وتعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }[12] تدل هذه الآية على أن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق من جميع بني آدم، على وحدانيته وربوبيته، بعبارة أخرى، خمر فطرة الإنسان بمعرفة التوحيد، ومن هنا كان الشرك أعظم الذنوب والمعاصي، ولا يغتفر كما نص عليه القرآن، وذلك أن الإنسان يعرف في قرارة نفسه أن الله واحد، ولا خالق معه، لكن رغم ذلك يجحد هذه الحقيقة الساطعة، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم حيث قال : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }[13] فأنكر هؤلاء الكفار والمشركون على مدى تاريخ الأنبياء من آدم إلى خاتم عليهم السلام وحدانية الله سبحانه وتعالى، وأشركوا معه شريكاً من الملائكة والجن وحتى النبات والجمادات التي كلها من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، رغم أنهم قد اعترفوا في قرارة أنفسهم أنه لا إله إلا الله، ولا خالق سواه.
المهم أن الآية تدل على أن معرفة التوحيد مودعة في فطرة الإنسان، روى جابر بن يزيد الجعفي عن مولانا الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : (.... فلمّا أراد اللّه إخراج ذريّة آدم عليه السلام لأخذ الميثاق، سلك النور فيه، ثم أخرج ذريّته من صلبه يلبّون، فسبّحنا فسبّحوا بتسبيحنا، و لو لا ذلك لما دروا كيف يسبّحون اللّه عزّ و جلّ، ثم تراءى لهم لأخذ الميثاق منهم بالربوبيّة، فكنّا أوّل من قال: بلى عند قوله: الست‏ بربّكم‏؟ثمّ أخذ الميثاق منهم بالنبوّة لمحمّد صلى اللّه عليه و آله و سلم، و لعليّ عليه السلام بالولاية، فأقرّ من أقرّ، و جحد من جحد).[14] تؤكد الرواية أن أول من اعترف بربوبية الله سبحانه وتعالى هو محمد وآل محمد عليهم السلام، ومما أشار إلى أن الله علم بعلمه الأزلي أولياءه وعباده الصالحين ما ورد في مستهل دعاء الندبة : (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ قَضَاؤُكَ فِي أَوْلِيَائِكَ، الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَ دِينِكَ، إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِيلَ مَا عِنْدَكَ مِنَ النَّعِيمِ‏[15] الْمُقِيمِ، الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ وَ لَا اضْمِحْلَالَ، بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي زَخَارِفِ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَ زِبْرِجِهَا[16]، فَشَرَطُوا لَكَ ذَلِكَ، وَ عَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ. فَقَبِلْتَهُمْ وَ قَرَّبْتَهُمْ، وَ قَدَّمْتَ‏[17] لَهُمُ الذِّكْرَ الْعَلِيَّ وَ الثَّنَاءَ الْجَلِيَّ، وَ أَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَكَ، وَ كَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ، وَ رَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَ جَعَلْتَهُمُ الذَّرَائِعَ‏[18] إِلَيْكَ، وَ الْوَسِيلَةَ إِلَى رِضْوَانِكَ).[19]
فقوله عليه السلام : ( علمت منهم الوفاء ..... الخ) أن الله كان عالماً بهم وبحسن سيرتهم والتزامهم وطاعتهم قبل الخلق، ولأجل ذلك خصصهم لنفسه وجعلهم معصومين، وزودهم بما لم يزوده غيرهم. وما ورد في زيارة السيدة فاطمة سلام الله عليها، نفس ما ذكر وهو ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ السِّيرَافِيِّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمَنْصُورِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْعُرَيْضِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ ع ذَاتَ يَوْمٍ قَالَ: (إِذَا صِرْتَ إِلَى قَبْرِ جَدَّتِكَ ع-[20] فَقُلْ يَا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ‏[21]الَّذِي‏ خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَة).[22]
المتحصل من جميع ما سبق أن الله حينما وهب العصمة لأنبياءه عليهم السلام، فهذا إنما علم تعالى بعلمه الأزلي بحسن سيرتهم وطاعتهم ونياتهم الصادقة.


[1]اسراء/سوره17، آیه55.
[2] توبه/سوره9، آیه128.
[3] فاطر/سوره35، آیه8.
[4] زخرف/سوره43، آیه31.
[5] الأنبياء/ السورة21، الآية105
[6] قصص/سوره28، آیه5.
[7] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2، ص22.
[8] مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي، ج17، ص320.
[9] كشف الأسرار في شرح الاستبصار، لنعمة الله الجزائري، ج1، ص136.
[10] رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار، نعمة الله الجزائري، ج2، ص465.
[11] رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار، نعمة الله الجزائري، ج2، ص465.
[12]الأعراف/ السورة7، الآية172
[13]نمل/سوره27، آیه14.
[14] حلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار، السيد هاشم بن سليمان البحراني، ج1، ص16.
[15] النّعم( خ ل).
[16] في مصباح الزّائر: درجات هذه الدّنيا الدّنيّة و زخرفها و زبرجها.
زخرف الدّنيا زينتها و أصله الذّهب ثمّ أطلق على كلّ مزيّن، الزّبرج- بالكسر- الزّينة من وشي أو جوهر و الذّهب.
[17] قدّرت( خ ل).
[18] الذّريعة: الوسيلة.
[19] المزار الكبير، محمد بن جعفر المشهدي، ص574.
[20] في المصدر- جدتك فاطمة( عليها السلام).
[21] في المصدر زيادة- اللّه.
[22] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج14، ص367، أبواب المزار وما يناسبه، رقم الباب18، ح2، ط آل البيت.