الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
قال الله تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}54 [سورة الإسراء]
تناولت الآية السابقة طريق الحوار والخطاب مع الآخر، والتحذير من اتباع خطوات الشيطان، حيث اتضح لنا من خلال وقوفنا عند تفسيرها أن الكلام ينبغي أن يكون حسناً من ناحية المضمون والأداء، فمن ناحية المضمون لابد من أن يكون كلاماً منطقياً، ومن ناحية الأداء فينبغي أن يكون لينا ومحترماً وجذاباً، فإذا تم حسن الكلام من هذين الناحيتين أثر في القلوب، وانتقل من القلب إلى القلب. كما حذرت من الانصياع إلى وساوس الشيطان حيث يدخل على خط الحوار بين المتحابين، ويفسد بينهما من خلال إثارة الفتن والأحقاد والضغائن.
في حين أن هذه الآية المباركة تشير إلى نكتة أخلاقية مهمة جداً، وهي أن محاسبة الناس والحكم عليهم من حيث الإيمان أو الفسق، ومن حيث إنه في الجنة أو النار، هذا إنما يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي سوف يحاسب الناس يوم القيامة، ويُدخل بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي أن نحسن ظننا بالآخرين، وأن لا نحكم بفسق إنسان ما، بمجرد ما نرى منه ما لا يوافق ميولنا وطبعنا، إلا إذا كان الأمر يتعلق بإعطاء المسؤولية أو المنصب أو الأمانة، ففي مثل هذه الموارد لابد من الدقة والتريث والفحص، وذلك لحساسية المورد والمقام.
فإنزال الرحمة أو إنزال العذاب تابع لمشيئة الله تبارك وتعالى التي تجري في أمور الكون كلها، فما من شيء إلا ويتحرك في إطار مشيئة الله سبحانه، مع الالتفات أن هذه المشيئة لا تجري جزافاً وعبثاً، بل إنما تكون لأجل المصلحة وبحسب ما تؤول إليه أعمالنا، فإذا كانت حسنة، فمشيئة الله أن نهتدي، وإن كانت سيئة فمشيئة الله أن لا نصل إلى سواء السبيل.
ولما كانت محاسبة الناس منحصرة بيد الله سبحانه وتعالى، ولا دخل للآخرين في ذلك، خاطب الله حبيبه قائلاً {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}، فهذه الآية تؤكد على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس وكيلاً على الناس، فيعطي من يشأ ويحرم من يشأ، فإذا كان أشرف الناس وأفضلهم لا يملك مثل هذه الصلاحية، فما بال أمثالنا العباد الفقراء، ومن هنا فينبغي أن لا نسرع في الحكم بالآخرين بالفسق أو الإيمان، هذا أمر يختص بالله سبحانه وتعالى. وثمة آيات أخرى تؤكد هذا المطلب، ومنها قال الله تبارك وتعالى : {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ } {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ }[1]، فالآية الأولى تشير إلى مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والثانية تنفي سيطرته وهيمنته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، وقال تعالى : {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }[2] هذه الآية المباركة تطيّب قلب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لكي لا يحزن من عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والإلحاد، كما تؤكد على أنه ليس مسؤول عما يفعلونه من الاستمرار في المعاصي والذنوب، لأن ما يجب عليه هو البلاغ فقط، كما قال الله تبارك وتعالى : {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }[3]، وكذلك قال الله تعالى : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، وكذلك قال الله تعالى : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فكل هذه الآيات المباركة تؤكد على أن وظيفة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو إيصال رسالات الله إلى الناس، وإبلاغ أوامر الله تعالى ونواهيه إليهم، وأما أمر الحساب فهذا إنما يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ولا دخل لأحد منا في ذلك. فإذا كان الأمر كذلك فيجدر بنا أن نحسن ظنونا بالآخرين، ونحمل كلامهم وأفعالهم على محمل خير.
بما أن الآية المباركة التي نحن بصدد تفسيرها تمنع عن إصدار الأحكام بحق الآخرين، وتحسين الظن بهم، فيجدر بنا أن نرى هذا المطلب من خلال الآيات والروايات، يقول الله سبحانه وتعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }[4]، هذه الآية المباركة أكدت على منع ثلاثة رذائل خطيرة، أولها، سوء الظن بالآخرين، والثانية : البحث والتجسس في أمور الناس للكشف عيوبهم لتكون كورقة الضغط عليهم، والتجسس لا يكون إلا نتيجة سوء الظن بالآخرين، والثالثة، ذكر الآخرين بما يكرهه والذي عبارة عن الغيبة[5] في علم الأخلاق، ولا تأتي الغيبة إلا بعد سوء الظن والتجسس، فلولا سوء الظن لما حصل التجسس، ولولا التجسس لما حصلت الغيبة، وأما الغيبة فقد شبه الله تعالى بأكل لحم المغتاب الميت، ليؤكد على شناعة العمل، وأنه من الكبائر، وأن الله لا يحب من يغتاب، ويذكر أخاه بالسوء إلا في موارد[6] أجاز العلماء ذلك فيها.
وأما الروايات المباركة فهي كثيرة تؤكد على أنه لا يحق لأحد أن يسيئ الظن بالآخرين، وأن ينظر إليهم نظرة احتقار والهوان، وذلك أن الإنسان مخلوق الله تعالى، والله أعطاه الكرامة والعزة والشرف، فلا ينتزع ذلك الكرامة منه إلا إذا اعتدى على الحق والإنسانية. ومن هنا يجدر بنا أن نستعرض بعض الروايات التي تؤكد على أن الإنسان مخلوق محترم، وعلينا أن ننظر إليه بنظرة الإجلال والإكبار لا بنظرة الهوان والاحتقار.
روى الشيخ الكليني في الكافي : أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى جَمِيعاً عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا سَرَّاجٍ وَ كَانَ خَادِماً لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع‏ ( قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع فِي حَاجَةٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ أَنَا وَجَمَاعَةً مِنْ مَوَالِيهِ قَالَ فَانْطَلَقْنَا فِيهَا ثُمَّ رَجَعْنَا مُغْتَمِّينَ[7] قَالَ وَكَانَ فِرَاشِي فِي الْحَائِرِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ نُزُولًا فَجِئْتُ وَأَنَا بِحَالٍ‏[8] فَرَمَيْتُ بِنَفْسِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَدْ أَقْبَلَ قَالَ فَقَالَ قَدْ أَتَيْنَاكَ أَوْ قَالَ جِئْنَاكَ فَاسْتَوَيْتُ جَالِساً وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِي فَسَأَلَنِي عَمَّا بَعَثَنِي لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ قَوْمٍ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّا نَبْرَأُ[9] مِنْهُمْ‏ إِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ مَا نَقُولُ قَالَ فَقَالَ يَتَوَلَّوْنَا وَلَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ.......)[10]
فحينما ذكر له الراوي أنه تبرأ من الذين لا يعتقدون ما يعتقده هو، ولعل المراد منه أنهم ما كانوا يؤمنون بإمامة أئمة الأطهار عليهم السلام، فحينما قاله له ذلك تعجب الإمام عليه السلام حيث قال : (يَتَوَلَّوْنَا وَلَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ.......)، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن من واجب أتباع أهل البيت أن ينظروا إلى المذاهب الإسلامية الأخرى بنظرة الاحترام والإجلال، إلا إذا كان ثمة النواصب الذين ينصبون العداوة لأهل البيت عليهم السلام مع الأسف، فهم لا يستحقون أي نوع من الاحترام، ومن هنا فعلينا أن نحترم كل المذاهب الإسلامية الأخرى في زماننا هذا، لأن الكل منها تكن الاحترام والمحبة والمودة لأهل البيت عليهم السلام، وظاهرة النصب قليلة جدا، لا تشكل مذهباً، بل إنما تتواجد على الصعيد الفردي، فبعض الأفراد الذين عددهم قليل جداً ينصبون العداوة والبغضاء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأغراض شخصية وللحقد الدفين في قلوبهم.
 فبعد أن تعجب الإمام من كلامه وقال (يَتَوَلَّوْنَا وَلَا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ)قال الراوي : (قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ قَالَ قُلْتُ لَا جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ وَهُوَ ذَا عِنْدَ اللَّهِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا أَ فَتَرَاهُ اطَّرَحَنَا قَالَ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا نَفْعَلُ قَالَ فَتَوَلَّوْهُمْ وَلَا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ وَلَا صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ وَلَا صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْأَرْبَعَةِ وَلَا صَاحِبُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ وَلَا صَاحِبُ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السِّتَّةِ وَلَا صَاحِبُ السِّتَّةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّبْعَة....... الخ)[11] من يتأمل هذا الكلام المبارك يدرك أن للمعرفة والعلم والإيمان والحب درجات، وتتفاوت هذه الدرجات والمراتب من شخص إلى شخص، ومن مؤمن إلى مؤمن، لكن الوصول إلى الدرجات العلياء لا يبرر أن يتبرأ أصحابها عن الذين وصلوا إلى الدرجات الأدنى، لأنه لو كان الأمر كذلك لتبرأ أئمتنا عليهم السلام عنا، لأن ما يوجد عندهم من المعرفة والعلم والإيمان لا يوجد عند أحد، ولتبرأ الله سبحانه وتعالى عن جميع المخلوقين، لأن الله عليم بكل شيء وقدير على كل شيء وإلى آخر ما هنالك. فنتعلم من هذه الرواية المباركة أن لا نحمل فی قلوبنا غلاً أو حقداً للمسلمين، بل ينبغي علينا أن نتمنى الخير والعافية والبركة للآخرين.
وجاء في الكافي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى‏، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى‏، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَ الْفَضْلِ ابْنَيْ يَزِيدَ[12] الْأَشْعَرِيِ‏[13]، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَ[14] أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَا[15]: (أَقْرَبُ‏ مَا يَكُونُ‏ الْعَبْدُ إِلَى الْكُفْرِ أَنْ يُوَاخِيَ الرَّجُلَ عَلَى الدِّينِ، فَيُحْصِيَ‏ عَلَيْهِ عَثَرَاتِهِ‏ وَ زَلَّاتِهِ لِيُعَنِّفَهُ‏[16] بِهَا يَوْماً مَا).[17]
تحذر هذه الرواية المباركة عن تتابع وتجسس الآخرين للحصول على عيوبهم وعثراتهم، لتكون بمثابة ورقة الضغط عليهم ليستغلها یوما ما، حيث أشار الإمام عليه السلام أن من يقوم بمثل هذه الأمور يكون أقرب إلى الكفر، فعليه أن ينتبه ويترك هذا الفعل الشنيع، لأنه بدل أن يلحق الضرر بمن يتجسس عنه يمكن أن يخرج عن دائرة الإسلام بسبب فعله هذا. والخطير في الأمر أن من يتجسس على الآخرين ليحصل على عيوبه وزلاته ليفضحه أمام الآخرين، لا يستر الله سبحانه وتعالى عليه، والحال أنه ستار العيوب، لا يفضح عباده أمام الناس، لكن من يحاول أن يفضح أخاه المؤمن أمام الغير يفضحه الله تعالى أمام الآخرين، جاء في الأثر: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَقُولُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص‏ يَا مَعْشَرَ مَنْ‏ أَسْلَمَ‏ بِلِسَانِهِ‏ وَ لَمْ يَخْلُصِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ وَ لَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ‏[18] فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَ مَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَ لَوْ فِي بَيْتِهِ).[19] ومن هنا ينبغي علينا أن نحذر عن التجسس والتتبع للحصول على معايب الناس، لأن الله لا يحب أن يفضح عبده أمام غيره، فعلينا من باب الأولى أن لا نقترب إلى ذلك، وثمة رواية عن المعصوم عليه السلام تشير إلى أن من يفعل ذلك يخرجه الله تبارك وتعالى من ولايته ويفوضه إلى ولاية الشيطان، والعجيب في الأمر أن الشيطان كذلك لا يقبله في ولايته، فقد ورد في الكافي : مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ (قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع‏ مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا شَيْنَهُ وَ هَدْمَ مُرُوءَتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ‏ أَعْيُنِ‏ النَّاسِ‏ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وَلَايَتِهِ إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ فَلَا يَقْبَلُهُ الشَّيْطَانُ.)[20]
هذا يدل على شناعة تتبع عيوب المؤمنين، وتجسس عورات الناس، فإن ارتكاب مثله من المعاصي الكبيرة التي تحمل آثار سيئة وخطيرة على نفس المرتكب، من هنا ينبغي علينا أن نحمل كلام عامة المؤمنين وأفعالهم على محمل الخير، وأن نحسن الظن بالآخرين، وأن نصوب ما يقوم به الغير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ(قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع فِي كَلَامٍ لَهُ‏ ضَعْ‏ أَمْرَ أَخِيكَ‏ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ‏[21] وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا).[22]
فمهما أمكن لنا أن نحمل كلام الغير على الخير لابد أن نحمله كذلك، ومن المعلوم أن حسن الظن بالغير كما أن له آثار إيجابية تفيد صاحبه في الآخرة، كذلك له آثار إيجابية جدا على نفس الإنسان، وذلك أن من يحسن الظن بالآخرين يشعر براحة القلب التي هي أكبر نعمة الله سبحانه وتعالى، قال أمير المؤمنين عليه السلام :(مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِالنَّاسِ حَازَ مِنْهُمُ‏ الْمَحَبَّةَ).[23]
وهناك رواية رواها صاحب تحف العقول عن مولانا الإمام الرضا عليه السلام، والتي تتحدث عن خصائل المؤمن العشرة التي إذا اجتمعت فيه يدل على كمال عقله، فقد جاء فيه : قال الإمام الرضا : ( لَا يَتِمُّ عَقْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِهِ وَ يَسْتَقِلُّ كَثِيرَ الْخَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَسْأَمُ مِنْ طَلَبِ الْحَوَائِجِ إِلَيْهِ وَ لَا يَمَلُّ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ طُولَ دَهْرِهِ الْفَقْرُ فِي اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْغِنَى وَ الذُّلُّ فِي اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعِزِّ فِي عَدُوِّهِ وَ الْخُمُولُ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنَ الشُّهْرَةِ ثُمَّ قَالَ ع الْعَاشِرَةُ وَ مَا الْعَاشِرَةُ قِيلَ لَهُ مَا هِيَ قَالَ ع لَا يَرَى أَحَداً إِلَّا قَالَ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَ أَتْقَى إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ رَجُلٌ خَيْرٌ مِنْهُ وَ أَتْقَى وَ رَجُلٌ شَرٌّ مِنْهُ وَ أَدْنَى فَإِذَا لَقِيَ الَّذِي شَرٌّ مِنْهُ وَ أَدْنَى قَالَ لَعَلَّ خَيْرَ هَذَا بَاطِنٌ وَ هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ خَيْرِي ظَاهِرٌ وَ هُوَ شَرٌّ لِي وَ إِذَا رَأَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَ أَتْقَى تَوَاضَعَ لَهُ لِيَلْحَقَ بِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَلَا مَجْدُهُ وَ طَابَ خَيْرُهُ وَ حَسُنَ ذِكْرُهُ وَ سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ.)[24]فأشار الإمام عليه السلام إلى أن عقل المسلم لا يكتمل إلا إذا اجتمعت فيه الخصائل العشرة التي ذكرها في الرواية، وحينما وصل الإمام عليه السلام إلى العاشرة، قال : (الْعَاشِرَةُ وَ مَا الْعَاشِرَةُ)، وهذا يدل على أن لهذه الخصلة شأن عظيم ومنزلة رفيعة بين تلك الخصائل، وما هي إلا أن نحسن الظن بالآخرين حيث نرى أن الكل خير وأفضل، وذلك أن لها آثار إيجابية جدا أشار إليها الإمام في الرواية.
وفي ختام البحث نود أن نؤكد على أنه كما يحمل حسن الظن بالغير آثار إيجابية، فكذلك يكون لسوء الظن آثار سلبية بالغة الخطورة، فقد يرى الإنسان أنه خير من الآخرين لأنه يصلي ويصوم وإلى آخر ما هنالك من العبادات، فتحبط عمله بذلك، من جهة أخرى يحصل المذنب على النجاة بما يشعر بالندم والخجل أمام الله تعالى على ما ارتكبه، روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في علل الشرائع : أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ قَالَ (قَالَ الصَّادِقُ ع‏ يَدْخُلُ رَجُلَانِ الْمَسْجِدَ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَ الْآخَرُ فَاسِقٌ فَيَخْرُجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَ الْفَاسِقُ صِدِّيقٌ وَ الْعَابِدُ فَاسِقٌ وَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْعَابِدُ الْمَسْجِدَ وَ هُوَ مُدِلٌّ بِعِبَادَتِهِ وَ فِكْرَتُهُ فِي ذَلِكَ وَ يَكُونُ فِكْرَةُ الْفَاسِقِ فِي التَّنَدُّمِ عَلَى فِسْقِهِ فَيَسْتَغْفِرُ لِلَّهِ مِنْ ذُنُوبِهِ).[25]
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجنبنا من المعاصي، وأن ينصرنا على الأعداء، وأن يشفي مرضانا ويرحم موتانا ويفك الحصار عن قرانا المحاصرة، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ قَرَأْتُ مَا قَضَيْتَهُ مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ عَلَى نَبِيِّكَ الصَّادِقِ ع فَلَكَ الْحَمْدُ رَبَّنَا اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِلُ‏ حَلَالَهُ‏ وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ وَيُؤْمِنُ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَاجْعَلْهُ لِي أُنْساً فِي قَبْرِي وَأُنْساً فِي حَشْرِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تُرْقِيهِ بِكُلِّ آيَةٍ قَرَأَهَا دَرَجَةً فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِين‏.






[1]  - الغاشية/سورة88، الآية21-22
[2]  - انعام/سوره6، آیه107.
[3]  - مائده/سوره5، آیه92.
[4]  - حجرات/سوره49، آیه12.
[5]  - اغتاب فلان فلانا إذا ذكره بما يسوؤه ويكرهه من العيوب وكان فيه وان لم يكن فيه فهو بهت وتهمة وفى العرف ذكر الانسان المعين أو من بحكمه في غيبته بما يكره نسبته إليه. مما هو حاصل فيه ويعد نقصا في العرف بقصد الانتقاص والذم قولا أو إشارة أو كناية، تعريضا أو تصريحا، فلا غيبة في غير معين كواحد مبهم من غير محصور كأحد أهل البلد بخلاف مبهم من محصور كواحد من المعينين كأحد قاضى البلد فاسق مثلا فإنه في حكم المعين كما صرح به شيخنا البهائي قدس سره في شرح الأربعين.
[6]  - واعلم أن العلماء جوزوا الغيبة في عشرة مواضع: الشهادة. والنهى عن المنكر. وشكاية المتظلم. ونصح المستشير، وجرح الشاهد والراوي. وتفضيل بعض العلماء والصناع على بعض. وغيبة المتظاهر بالفسق الغير المستنكف على قول، وقيل: مطلقا وقيل بالمنع مطلقا، وذكر المشتهر بوصف مميز له كالأعور والأعرج مع عدم قصد الاحتقار والذم وذكره عند من يعرفه بذلك بشرط عدم سماع غيره على قول. والتنبيه على الخطاء في المسائل العلمية ونحوها بقصد أن لا يتبعه أحد فيها. ثم هذه الأمور. إن أغنى التعريض فيها فلا يبعد القول بتحريم التصريح لأنها إنما شرعت للضرورة والضرورة تقدر بقدر الحاجة، والله أعلم. قاله الشيخ البهائي.
 [7] - أي عند غروب الشمس. و في بعض النسخ‏[ معتمين‏] بالمهملة، قيل: أى وقت صلاة العتمة.
 [8] - أي بحال سوء من الغم( فى).
 [9] - في بعض النسخ‏[ أنا أبرأ].
[10]  - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص42.
[11]  - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص42.
[12]  - لم نجد إبراهيم بن يزيد الأشعري و الفضل بن يزيد الأشعري في ما تتبّعنا من الأسناد و كتب الرجال، بل إبراهيم و الفضل الأشعريّان هما ابنا محمّد، و لهما كتاب شركة بينهما كما في رجال النجاشي، ص 24، الرقم 42؛ و الفهرست للطوسي، ص 19، الرقم 14. فعليه لايبعد وقوع التحريف في ما نحن فيه، و أنّ الصواب هو «محمّد» بدل «يزيد». يؤيّد ذلك ما ورد في التوحيد للصدوق، ص 115، ح 15 من رواية محمّد بن سنان عن إبراهيم و الفضل ابني محمّد الأشعريّين.
[13] -  في« ب، ج، د، ز، بس» و الوسائل و البحار:« الأشعريّين». و في الأمالي:« و الفضل الأشعريّين» بدل« و الفضل ابني يزيد الأشعري».
[14] - في الأمالي:« أو».
[15] - في« ب، ج، ز» و حاشية« د، بف» و الأمالي:« قال» أي كلّ واحد.
[16] - التعنيف: التعيير واللوم والمراد بالعثرات: الزلات..
[17] - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج4،ص77.
[18] - التتبع: التطلب شيئا فشيئا في مهلة و العورة: كل أمر قبيح و المراد بتتبع اللّه سبحانه عورته منع لطفه و كشف ستره و منع الملائكة عن ستر ذنوبه و عيوبه فهو يفتضح في السماء و الأرض و لو أخفاها و فعلها في جوف بيته و اهتم باخفائها( آت).
[19] - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2،ص354.
[20] - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2،ص358.
[21]  -« ضع أمر أخيك» أي احمل ما صدر عن أخيك من قول أو فعل على أحسن محتملاته و إن كان مرجوحا من غير تجسس حتّى يأتيك منه أمر لا يمكنك تأويله، فان الظنّ قد يخطئ و التجسس منهى عنه و في بعض النسخ‏[ يقلبك‏] بالقاف.
[22] - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2،ص362.
[23] - عيون الحكم والمواعظ، على ين محمد الواسطي الليثي، ص435.
[24]  - تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الحسن بن علي ابن شعبة الحراني، ص443.
[25]  - علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج2، ص354.