الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تتمة البحث السابق.
اتضح لنا أن هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، تحتوي على المطالب الأخلاقية الإسلامية السامية، حيث أكدت على أن مضمون الكلام لابد من أن يكون مضموناً منطقياً ذا هدف بعيداً عن اللغو، وينبغي أن يكون لطيفاً ليناً حسناً من ناحية الأسلوب، لأن الكلام إذا كان كذلك فلا محالة يؤثر في القلوب، ويدخل إلى قرارة الأنفس. كما أرشدت الآيات المباركة إلى طريقة التحاور والتحادث مع الآخرين، و كيفية الدعوة إلى الله تعالى، وإلى طريق الحق والحقيقة. وإنما جاء التأكيد على الملاطفة واللينة في الكلام لأن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، حيث يدخل بين المتحاورين ويفسد من خلال إثارة الفتن بينهم، ومن هنا فإذا كان الكلام لينا وحسناً، لا تبقى أي فرصة يدخل الشيطان من خلالها لإثارة الفتن.
ولما أشارت الآيات المباركة إلى أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين رأينا أن نشرح معنى هذه الكلمة، وأن نتوقف عند الآيات الأخرى التي أشارت إلى مفهوم النزغ، أما معنى الكلمة فقال صاحب المجمع : " النزغ: الإزعاج بالإغراء، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة، نزغه ينزغه نزغا. وقيل: النزغ الفساد، ومنه نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي: أفسد. قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن الشيطان أدنى وسوسة."[1] فمعنى الكلمة حسب ما ذكره صاحب المجمع الإزعاج بالإغراء حين الغضب، أو المراد من الفساد، وإثارة الفتن بين الناس. وقال في موضع آخر : " لنزغ. النخس بما يدعو إلى الفساد، يقال: نزغ ينزغ، وفلان ينزغ فلانا، كأنه ينخسه بما يدعوه إلى خلاف الصواب."[2] من هنا فمعنى قولهم : ينزغ الشيطان : يدخل بين تحاور الناس ليفسد بينهم من خلال إثارة الفتن، والكلام المغرض على الإيذاء والقتل والإهانة وما شابه ذلك.
وقد وردت هذه الكلمة أربعة مرة في القرآن الكريم، فمنها في سورة الإسراء والتي نحن بصدد تفسيرها في هذه الأيام المباركة. وكذلك وردت في سورة الأعراف، وسورة يوسف، وسورة فصلت بالترتيب. والملفت للنظر أن كل هذه المواضع تتحدث عن طريقة الحوار الناجح مع الاحترام، وكيفية الدعوة إلى الحق.
قال الله تعالى في سورة الأعراف {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[3]
تتحدث الآية الأولى عن عناد الكفار والمشركين حيث كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى ما فيه صلاح وسعادة ونجاة في الدنيا والآخرة، لكنهم كانوا لا يريدون أن يسمعوا كلامه، وما كانوا ليعتبروا ويتأثروا ويتركوا عنادهم وإصرارهم على الكفر والإلحاد، وذلك أن آذانهم كانت ثقيلة، لأنه كان فيها وقر، وكان على قلوبهم حجاب غليظ، و على أبصارهم غشاوة.
بينما تتناول الآية الثانية الأوصاف والخصائل التي لابد أن يتحلى بها الداعي إلى الله تعالى، حيث أشارت إلى ثلاث خصائل مهمة، فقال تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ}، أي : ينبغي أن يكون معيار الحياة، وأساس الدعوة على العفو والمسامحة والحلم والصبر، وذلك أن المبلّغ يلتقي في مسيرة الدعوة بكافة أنواع الناس وشرائح المجتمع، فإذا لم يتحل بهذه الصفة المهمة لا يمكن أن يصل إلى هدفه النبيل. ثم قال تعالى : {وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ}، وهنا احتمالان في المراد، الأول : أن يأمر الناس بالمعروف، والثاني : أن يكون أسلوبه أسلوباً معروفاً لينا لطيفاً محترماً عند تحاور الناس وتعاشرهم، وهذا هو الأظهر في المقام بقرينة السياق. ثم قال تعالى : {وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وهذا أمر بأن يكون التعامل مع الجاهل بالإغماض و المداراة والملاطفة واللينة، وذلك أن دفع الجاهل بالجهل لا يأتي إلا بعواقب وخيمة وآثار سيئة، لأن ذلك يثبّته على جهله.
وبعد أن تناولت الآية الأولى حالة الكفار والمشركين، والآية الثانية كيفية الدعوة إلى الحق، وطريقة التعامل مع الآخر، قال الله تعالى : {وَ إِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وهذا إشارة إلى أن الشيطان دائما يدخل على خط الدعوة والتعامل مع الآخرين، فيحاول أن يفسد بين الناس من خلال إثارة الفتن والأحقاد والعداوة، وهنا ينبغي على المؤمن أن ينتبه إلى مكائده الخطيرة، وأن يلجأ إلى كنف الله تعالى، لأنه ينصر عباده المؤمنين على أعداءه من الإنس والجن.
مع الالتفات أن هذه الآيات المباركة وغيرها تؤكد على أن يكون الحلم جُنّة المؤمن في طريق الدعوة إلى الله تعالى، وكم من روايات قارنت بين العلم والحلم، وأكدت على أن العلم بلا حلم لا فائدة فيه، كما أشارت إلى أن هذه الصفة من أوصاف الأنبياء عليهم السلام، جاء في كتاب الكافي " بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْكَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّ رُسُلَهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ وَإِنْ لَا تَكُنْ فِيكُمْ فَاسْأَلُوا اللَّهَ وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِيهَا قَالَ فَذَكَرَهَا عَشَرَةً الْيَقِينَ وَالْقَنَاعَةَ والصَّبْرَ وَالشُّكْرَ وَالْحِلْمَ‏ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءَ وَالْغَيْرَةَ وَالشَّجَاعَةَ والْمُرُوءَةَ قَالَ وَرَوَى بَعْضُهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْخِصَالِ الْعَشَرَةِ وَزَادَ فِيهَا الصِّدْقَ وَ َدَاءَ الْأَمَانَةِ).[4]
أشارت هذه الرواية المباركة إلى الخصائل التي كان يتحلى بها الرسل عليهم السلام، ومن بين هذه الأوصاف الحلم، حيث ذكرته الرواية في المرتبة الثانية بعد اليقين، كما أكد الإمام عليه السلام على أن يبحث المؤمن عن هذه الخصائل في نفسه، إذا وجدها شكر الله تعالى على فضله ومنه، وإذا لم يجدها يحاول أن يتحلى بها شيئا فشيئاً، ولا سيما من يدعو إلى سبيل الله تعالى، وذلك أن العلماء ورثة الأنبياء، فعليهم أن يتخذوا سيرة الأنبياء عليهم السلام قدوة عند القيام بالدعوة. وقال أبو عبد الله عليه السلام: (كَفَى بِالْحِلْمِ نَاصِراً وَقَالَ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ).[5] فمن يريد أن يكون ناجحا في حياته فعليه بالصبر والحلم لأن الحلم نعم العون والمساعد بعد الله تعالى على تجاوز المحن والمصائب والمشاكل، ثم أكد الإمام عليه السلام على أن من لا يتواجد فيه الحلم فعليه أن يتظاهر به، لأنه من يتظاهر به ويلقن به نفسه، عسى أن يتحلى به يوما ما.
إضافة إلى ذلك من يقرأ سیرة الأنبياء والأئمة الأطهار عليهم السلام، والعلماء الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، يصل إلى أن حياتهم كانت مشحونة بالصبر والحلم والعفو والمسامحة، ومن هنا قد نجحوا في اقتلاع جذور الكفر والإلحاد والشرك من المجتمعات التي كانت مستغرقة في الظلام والضلال، كما حرروا الإنسانية من أيدي الظلمة والطغاة والجبابرة، الذين كانوا يعذبون الأبرياء بشتى أنواع العذاب، وكما أخذوا بيد الناس البسطاء وأوصلوهم إلى قمة الكمال والتقوى. نذكر قصتين من حلم هؤلاء العظام الذين غيروا مسار التاريخ البشري.
ولما كانت هذه الأيام تصادف بمناسبة ذكرى الولادة العطرة للسبط الأكبر الإمام حسن بن علي عليهما السلام، فنذكر قصة حلمه مع الرجل الشامي الذي سب الإمام وشتمه وأهانه، لكن رغم ذلك تلطف الإمام معه في كلامه وتعامله وأكرمه، وقد روى المبرد وغيره أن شاميا رآه راكبا فجعل يلعنه والحسن عليه السلام لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلم عليه وضحك فقال أيها الشيخ أظنك غريبا ولعلك شبهت فلو أشبعتنا أعتبناك ولو سألتنا أعطيناك ولو استرشدتنا ارشدناك ولو استحملتنا أحملناك وان كنت جائعا اشبعناك وان كنت عريانا كسوناك وان كنت محتاجا اغنيناك وان كنت طريدا آويناك وان كان لك حاجة قضيناها لك فلو حركت رحلك الينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك كان اعود عليك لان لنا موضعا رحبا وجلها عريضا ومالا كثيرا فلما سمع الجل كلامه بكى ثم قال اشهد انك خليفة الله في ارضه الله اعلم حيث يجعل رسالته وكنت انت وابوك ابغض خلق الله الي وحول رحله اليه وكان ضيفه الى ان ارتحل وصار معتقدا لمحبتهم".[6]
فحينما نتأمل في هذه القصة نجد أن الشخص الذي كان من ألد أعداء الإمام عليه السلام بسبب ما تعرض للشائعات الكاذبة في شام، قد تحول إلى محبي الإمام عليه السلام لأن الإمام صبر وتحمل ولم يرد عليه بالمثل، بل دفع السيئة بالحسنة، وأثر هذا التحمل خروجه من ظلمات العصبية والجهل والعداوة إلى نور العلم والمعرفة والمودة.
وهذا نفس ما نجد في قصة الإمام موسى كاظم عليه السلام مع الرجل الذي كان يسبه ويشتمه متى ما يراه، فأراد أصحاب الإمام أن يمنعه عن ذلك بالإيذاء أو حتى القتل، لكن الإمام عليه السلام زجرهم أشد الزجر، وتعامل معه معاملة اللطف والحنان والحب، وأثر هذا التعامل والحلم أن الرجل أصبح من أصحاب الإمام ومحبيه، قال محمد بن الجرير الطبري :  وقيل إنه كان بالمدينة رجل من ولد عمر بن الخطاب يؤذيه ويشتم عليا ع وكان قد قال له بعض حاشيته دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة فركب إليه في مزرعته فوجدته فيها فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا توطأ زرعنا فتوطأه بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده وضاحكه وقال له كم غرمت في زرعك هذا قال له مائة دينار قال فكم ترجو أن تصيب فيه قال لا أعلم الغيب قال إنما قلت لك كم ترجو فيه قال أرجو أن يجيئني مائتا دينار قال فأعطاه ثلاثمائة دينار وقال هذا زرعك على حاله قال فقام العمري فقبل رأسه وانصرف قال فراح إلى المسجد فوجد العمري جالسا فلما نظر إليه قال الله أعلم حيث يجعل رسالته قال فوثب أصحابه فقالوا له ما قصتك قد كنت تقول خلاف هذا فخاصمهم وسأمهم وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلما دخل وخرج قال فقال أبو الحسن موسى لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري أيما كان أخير ما أردتم أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار."[7]
المهم أن من يدعو إلى سبيل الله تعالى، فينبغي أن يكون أساس دعوته على الحكمة والصبر والحلم واللينة، لأنه إذا نجح في ذلك، فسيتمكن بإذن الله تعالى أن يجذب القلوب، ويؤثر في النفوس.
أما الموضع الثالث الذي ورد فيه كلمة النزغ: قال الله تبارك وتعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[8]
نصل بأدنى تأمل إلى أن هذه الآيات المباركة تتحدث عن كيفية الدعوة الناجحة إلى الحق، كما تشير إلى آثار الحلم والصبر. فالآية الأولى تتحدث عن أن من اعتنق الإسلام وعمل صالحاً ودعا إلى الله تعالى فهو أحسن كلاماً، وأبلغ قولاً، وأشد تأثيرا، وبينما تتحدث الآية الثانية عن أن الحسنة والسيئة لا تستويان، لا حكما ولا آثارا، لكن رغم ذلك إذا أحسن الإنسان إلى من قام بالإساءة، فعسى أن يحول هذا التعامل عدوه صديقا حميماً، لكن لا يمكن أن يتمتع ويتحلى بهذه الخصلة الشريفة وهو دفع السيئة بالحسنة إلا من صبر وتحمل، و من له حظ عظيم، وهذا ما أكدت عليه الآية الثالثة، وأما الآية الأخيرة فقد أكدت على أن الشيطان يحاول أثناء هذه الدعوة، وأثناء التحاور مع الآخرين أن يدخل على الخط، ويفسد من خلال إثارة الأحقاد والأضغان، فانتبهوا من خطواته المقيتة بالإنابة والتوبة واللجوء إلى الله تعالى.
فالمؤكد مما سبق أن الحلم والصبر من أهم ركائز الدعوة الناجحة والمؤثرة إلى سبيل الله تعالى، ولها آثار طويلة الأمد، وبما أننا في شهر رمضان المبارك فعلينا أن نتحلى بأوصاف حميدة، لأن هذا الشهر الفضيل فرصة ثمينة للتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء استقبال شهر رمضان المبارك : ( وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِأَنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالْإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا حَاشَى مَنْ عُودِيَ فِيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لَا نُوَالِيهِ، وَالْحِزْبُ الَّذِي لَا نُصَافِيهِ.)[9]فبعد أن أشار عليه السلام إلى بعض الأمور المهمة مما ينبغي القيام به في شهر رمضان، أكد على نبذ الخلافات والسجال والتصادم، رعاية لحرمة هذا الشهر حيث قال : (وأن نراجع من هاجرنا )، أي : نتواصل مع من ترك العلاقات معنا، و (أن ننصف من ظلمنا)، أي : نتعامل مع من ظلمنا بالإنصاف، و ( أن نسالم من عادانا )، أي : نتسالم ونتأخى ونتصادق مع من نصب علم العداوة والحقد، واستثنى من ذلك التسالم مع أعداء الله تعالى، لأنهم أعداء ليس لهم حرمة، نعم لو كان العدو تجاوز في حقك وظلمك فالعفو عنه لطف وكرامة لكنه ان كان معاديا لله فنحن نعاديه لا لأمر يعود الينا بل لأمر يعود الى الله والى الدين فعند ذلك الترحم عليه ظلم بالعباد وفساد في الارض.
أما المورد الرابع الذي جاء في كلمة النزغ فقال تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }[10]، هذه الآية المباركة تحكى قصة تعامل النبي يوسف عليه السلام مع أبويه وأخوته بعد وصولهم إلى مصر، فتنقل لنا ما قاله النبي يوسف عليه السلام آنذاك، حيث عدّد ما أنعم الله عليه من نعمه الكثيرة، ثم أشار إلى ما حدث بينه وبين إخوته في الصغر فاعتبره من نزغ الشيطان، حيث زرع بذرة الحسد في قلوب إخوته، فآذوا أباه، وأبعدوه عنه.
فنستفيد من مجموع هذه الآيات المباركة أنه ثمة عوامل النجاح تعتمد عليه الدعوة إلى الله تعالى، ومنه التحلي بالحلم والصبر، وفي المقابل ينبغي أن يكون الإنسان يتخلى عن العجب بالنفس والتكبر والمراء، لأن كل هذه الرذائل تمنع الإنسان من الوصول إلى الله تعالى، وتسقطه في أعين الناس.
ولما كان كلامنا في حسن التعامل مع الآخر وآثاره الحميدة نشير إلى تعامل أمير المؤمنين مع المحاربين ضده في حرب صفين، فسمع أن أصحابه يسبون أصحاب معاوية فقال : (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ‏ وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَ قُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه‏).[11]
لو تأملنا في هذا الكلام المبارك لوجدنا أخلاق الإمام العظيمة حتى مع ألد أعداءه، وحرصه الشديد على حقن دماء المسلمين، والقيام بإصلاح ذات البين. ما أحسن هذا التعامل! وما أجمل هذا الرد! کما کان الامر هکذا فی الحرب المفروضة علی ایران حیث کان تعامل الشعب الإيراني والمجاهدين مع الجنود العراقيين الذين تم أسرهم كان تعاملا محترماً جداً، حتى حولهم من الأعداء إلى الأصدقاء والإخوة.
فالمتحصل من جميع ما سلف أن يكون التبليغ في سبيل الله تعالى دعوة إلى ذات المقدس جل جلاله، لا إلى نفسه، ثانيا – أن يكون الداعي حكيماً ومتمكنا من أسلوب الحوار على أساس الاحترام المتبادل، فمن جهة المادة ينبغي أن يكون الكلام منطقياً ذا مضمون نبيل، ومن جهة الأسلوب، ينبغي أن يكون لينا ومحترماً لأنه إذا كان كذلك فيكون من القلب إلى القلب.
اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ قَرَأْتُ مَا قَضَيْتَهُ مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ عَلَى نَبِيِّكَ الصَّادِقِ ع فَلَكَ الْحَمْدُ رَبَّنَا اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِلُ‏ حَلَالَهُ‏ وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ وَيُؤْمِنُ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَاجْعَلْهُ لِي أُنْساً فِي قَبْرِي وَأُنْساً فِي حَشْرِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تُرْقِيهِ بِكُلِّ آيَةٍ قَرَأَهَا دَرَجَةً فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِين‏.



 - مجمع البيان في تفسير القرآن، العلامة الطبرسي، ج4،ص414.[1]
[2]  - مجمع البيان في تفسير القرآن، العلامة الطبرسي، ج9، ص24.
[3]  - الأعراف/سورة7، الآيات198-199-200
[4]  - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص56.
[5]  - الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج2، ص112.
 - تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج13، ص247، وانظر أيضاً، شرح إحقاق الحق، المرعشي النجفي، ج26،ص449.[6]
[7]  - دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري، ص311، وانظر أيضاً : الارشاد: 297، تاريخ بغداد 13: 28، إعلام الورى: 306، سير أعلام النبلاء 6: 271.
[8]  - فصلت/سورة41، الآيات33-34-35-36
 [9] - الصحيفة السجادية، أدعية الإمام زين العابدين، دعاء استقبال شهر رمضان المبارك، رقم الدعاء 44 .
[10]  - يوسف/ سوؤة12، الآية100.
[11]  - نهج البلاغة، رقم الخطبة، 206، ص512.