الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تتمة البحث السابق.
تم الحديث في الدرس الماضي عن شبهة الآكل والمأكول والجواب عنها، لما كان المطلب دقيقا ويحتاج إلى مزيد من التأمل والتدبر فيه، نتوقف عنده مرة ثانية لمزيد من التوضيح والفهم، أشرنا البارحة إلى أن هذه الشبهة ليست جديدة، بل إنما طرحت منذ القديم، وقد دلت على ذلك الروايات التي تناولت الجواب عنها. ونقول في جوابها بأسلوب مختلف عما مربنا في الدرس الماضي : إن الأصل في الإنسان هي الروح، وعلاقة الروح بجسم الإنسان هي علاقة الفاعل بآلة الفعل والانفعال، فالروح هي التي تؤثر وتتأثر، وهي التي ترى وتسمع وتتكلم، وهي التي تفرح وتحزن وتتألم، وهي التي تدرك وتفهم وتستوعب، وهي التي تحلل وتسأل وتقارن وتقيس، لكن تتم كل هذه العمليات بواسطة الجسم الإنساني في هذا العالم، فالجسم آلة تقوم الروح من خلالها على كل ما تحتاج إليه من أفعال وانفعالات.
من جهة أخرى أن العلم ينقسم – حسب ما ذكره أهل المنطق والفلسفة – إلى قسمين : حصولي وحضوري، العلم الحصولي عبارة عن علم يحصل بها الإنسان بواسطة، ومن هنا يكون قابلاً للشك والترديد، وإما العلم الحضوري، فهو علم يحصل بها الإنسان بدون واسطة، و من هنا لا يكون قابلاً للشك والترديد، وعلم الإنسان بطوارئ النفس، كالحزن والفرح والألم والجوع والعطش وغير ذلك علم حضوري، حيث يعلم الإنسان هذه الأشياء بدون أي واسطة، فالإنسان حينما يشعر بالفرح أو الحزن أو الألم، يشعر به وجداناً، ومن هنا لا يمكن أن يقال، إنه يشك في أنه هل يشعر بالألم أو لا؟ نعم يمكن أن يشك الإنسان في سبب الألم أو سبب الفرح والحزن، لكن أصل الألم والفرح والحزن فهي من طوارئ النفس، وهذه غير قابلة للشك والترديد، ولذلك فعلم الإنسان بالألم علم وجداني وحضوري، وعلمه بسبب الألم الذي يمكن أن يكون جرحاً أو مما شابه ذلك، علم حصولي.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن جوهر الإنسان وحقيقته وأصله وهويته مرتبطة بالروح، والجسم آلة فعلها وانفعالها، أو بعبارة أخرى، الجسم مركب الروح في هذا العالم، ومحدودية الروح في هذا العالم من عدم الأدراك بعض الأشياء أو فهمهما بشكل سليم، أو عدم الوصول إلى بعض الحقائق والمعارف، بسبب ارتباطها بالجسم المادي المحدود، ولذا حينما تخرج من هذا الجسم عند الموت تصبح أكثر شعوراً، وأعمق علماً ومعرفة، وأدق فهما واستيعاباً.
مع الالتفات أن الحيوانات كذلك لها روح مثل الإنسان غير أن روحها تختلف عن روح البشر من حيث إدراكاتها المحدودة حسب حاجاتها من الأكل والشرب ومعرفة العدو والصديق وإلى آخر ما هنالك، في حين أن روح الإنسان أكثر شعوراً من روح الحيوانات حيث تقيس وتدرك وتنقد وتحلل وتستنتج.
ويتضح مما سبق – بوضوح – أن أصل الإنسان روح، وهويته مرتبطة بها، وبما أن الروح لا تنعدم ولا تتلاشى عند الموت، بل إنما تفارق الجسم، فمن هنا يمكن أن يعيدها الله تعالى إلى أي جسم في يوم القيامة، لأن هوية الإنسان ليست قائمة بجسمه، بل إنما ترتبط بروحه. وذكرنا البارحة أن هذا الجواب لا بأس به في عالم الثبوت، أي أن هذا أمر ممكن معقول ولكن من حيث الإثبات أي ما يستفاد مما جاء به القرآن الكريم يكون فوق ذلك فإنها تدل على أن الإنسان سوف تعود روحه إلى الجسم الذي مات به في هذا العالم.
المهم أن خلاصة الجواب عن شبهة الآكل والمأكول، هو –أولا– أن الله عليم بكل ما يحدث في هذا الكون، لا تخفى عليه خافية، ولا يذوب عن علمه ذرة، لا في ظلمات البر والبحر ولا في السماء وما فوقها أو تحتها، ومن هنا فهو يعلم أن جسم الإنسان بعد موته، أين صار، وإلى ماذا تحول، وإلى آخر ما هنالك،
ثانيا– أن الله تبارك وتعالى بكل شيء قدير، يفعل ما يشاء وكيف يشاء، لا يعجزه شيء في هذا العالم، وهو الذي فطر الإنسان وما فيه من عظم ولحم ودم، ومن يكون قادراً على الخلق ابتداء، لا شك أنه قادر على إعادة الخلق، لأن ابتداء الخلق أصعب من إعادته كما لا يخفى. ثالثاً - كما قلنا إن المستفاد من الأدلة ومنها الآيات الأخيرة من سورة يس المباركة، و ما ورد في قصة النبي عزير والنبي إبراهيم عليهما السلام. ففي سورة يس سئل السائل بقوله: من يحيي العظام وهو رميم" فالسؤال وقع عن أحياء نفس العظام والرفات البالية؟ فأجيب عن ذلك : "يحييها الذي أنشأها أول مرة" فالجواب وقع على مورد السؤال ولم يكن السؤال عن من يحيي الموتى حتى نقول يجوز إحيائهم في جسم بأجزاء جديدة فهذه الآية وغيرها مما بهذا المضمون تدل على إعادة الجسم السابق بأجزائها السابقة بأعيانها، كما أن هناك روايات تنص على هذا المعنى وإنّما أذكر لكم منها ما ورد في الاحتجاج وإليكم نصها: "عن الإمام الصادق عليه السلام، والتي رواها العلامة الطبرسي في كتابه " الاحتجاج" وهذا الكتاب – كما تعرفون – تتناول الشبهات والأجوبة عنها التي أجاب بها الله سبحانه وتعالى، أو النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أو الإمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام. أما الرواية فعن الإمام الصادق عليه السلام :
(....قَالَ أَ فَتَتَلَاشَى الرُّوحُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ قَالَبِهِ أَمْ هُوَ بَاقٍ؟ قَالَ بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى وَقْتٍ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبْطُلُ الْأَشْيَاءُ وَ تَفْنَى فَلَا حِسَ‏ وَ لَا مَحْسُوسَ‏ ثُمَّ أُعِيدَتِ الْأَشْيَاءُ كَمَا بَدَأَهَا مُدَبِّرُهَا وَ ذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ يَسْبُتُ فِيهَا الْخَلْقُ وَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ قَالَ وَأَنَّى لَهُ بِالْبَعْثِ وَالْبَدَنُ قَدْ بَلِيَ وَالْأَعْضَاءُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فَعُضْوٌ بِبَلْدَةٍ يَأْكُلُهَا سِبَاعُهَا وَ عُضْوٌ بِأُخْرَى تُمَزِّقُهُ هَوَامُّهَا وَ عُضْوٌ صَارَ تُرَاباً بُنِيَ بِهِ مَعَ الطِّينِ حَائِطٌ-؟ قَالَ ع إِنَّ الَّذِي أَنْشَأَهُ مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ وَ صَوَّرَهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَانَ سَبَقَ إِلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ قَالَ أَوْضِحْ لِي ذَلِكَ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ مُقِيمَةٌ فِي مَكَانِهَا رُوحُ الْمُحْسِنِ فِي ضِيَاءٍ وَ فُسْحَةٍ وَ رُوحُ الْمُسِي‏ءِ فِي ضِيقٍ وَ ظُلْمَةٍ وَ الْبَدَنُ يَصِيرُ تُرَاباً كَمَا مِنْهُ خُلِقَ وَ مَا تَقْذِفُ بِهِ السِّبَاعُ وَ الْهَوَامُّ مِنْ أَجْوَافِهَا مِمَّا أَكَلَتْهُ وَ مَزَّقَتْهُ كُلُّ ذَلِكَ فِي التُّرَابِ مَحْفُوظٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ عَدَدَ الْأَشْيَاءِ وَ وَزْنَهَا وَ إِنَّ تُرَابَ الرُّوحَانِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ فِي التُّرَابِ فَإِذَا كَانَ حِينُ الْبَعْثِ مُطِرَتِ الْأَرْضُ مَطَرَ النُّشُورِ فَتَرْبُو الْأَرْضُ ثُمَّ تمخضوا [تُمْخَضُ‏] مَخْضَ السِّقَاءِ فَيَصِيرُ تُرَابُ الْبَشَرِ كَمَصِيرِ الذَّهَبِ مِنَ التُّرَابِ إِذَا غُسِلَ بِالْمَاءِ- وَ الزُّبْدِ مِنَ اللَّبَنِ إِذَا مُخِضَ فَيَجْتَمِعُ تُرَابُ كُلِّ قَالَبٍ إِلَى قَالَبِهِ فَيَنْتَقِلُ بِإِذْنِ اللَّهِ الْقَادِرِ إِلَى حَيْثُ الرُّوحِ فَتَعُودُ الصُّوَرُ بِإِذْنِ الْمُصَوِّرِ كَهَيْئَتِهَا وَ تَلِجُ الرُّوحُ فِيهَا فَإِذَا قَدِ اسْتَوَى لَا يُنْكِرُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئا...)[1] فبد الملاحظة وإمعان النظر في هذه الرواية المباركة نصل إلى أنه لا يوجد بيان أوضح واستدلال أتم في جواب شبهة الآكل والمأكول من هذه الرواية، حيث استدل الإمام على إعادة الروح والحياة إلى الجسم الذي مات به الإنسان في هذا العالم استناداً إلى قدرة الله تعالى المطلقة واللامتناهية، وإحاطة علمه الأزلي بكل شيء.


[1] الاحتجاج على أهل اللجاج، أحمد بن علي الطبرسي، ج2، ص350.