الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تتمة البحث عن الشبهات حول يوم القيامة.
أشرنا في البحث الماضي إلى شبهة استحالة إعادة المعدوم، حيث ذكرنا أولا أصل الشبهة، ثم تطرقنا إلى الجواب عنها، اليوم نود أن نسلط الضوء على شبهة أخرى، التي يعبر عنها في علم الكلام بـ " شبهة الآكل والمأكول"، فنذكرها ثم نجيب عنها بإذن الله تعالى، مع رجاء الانتباه والدقة؛ لأن المطلب دقيق جداً.
شبهة الآكل والمأكول: ظهر مما سبق أن الله سبحانه وتعالى يعيد الحياة إلى البدن بعد جمع أجزائه المتناثرة، يوم البعث والنشور، فالسؤال الذي يطرح نفسه في المقام عبارة عن : أن جسم الإنسان بعد أن يوضع في التراب، يتحول شيئا فشيئا إلى التراب، فيصبح المأكول في صورة فاكهة من فواكه، أو نبات من النبات، بعد أن امتصته جذور الأشجار والنبات. أو ما غرق في البحر تأكله الأسماك وقد يأكل لحومها شخص آخر فيصبح اللحم في جسمه وهكذا قد ينتشر أعضاءه في أشخاص كثيرة وكذلك هذه النباتات تأكلها الحيوانات فتصبح جزءا من جسمها، ثم يأكل الإنسان مثلاً لحم ذلك الحيوان، فيصبح جزءا من جسمه، فمن هنا تحدث مشكلة يوم المعاد إذا أراد الله تعالى أن يعيد الحياة إلى الأجزاء الميتة والعظام البالية، لأنه إذا أعاد أجزاء جسم المأكول يصير جسم الآكل ناقصاً، وإذا أعاد جسم المأكول أصبح جسم المأكول ناقصاً، ومن هنا فإلى أي الجسم يعود هذه الأجزاء المأكولة، إلى جسم الآكل أو المأكول؟
الجواب : قبل أن نتوقف عند الجواب نلفت انتباه الإخوة إلى بعض النكات التي تسهم في تقديم الجواب وفهمها واستيعابها بشكل جيد.
أولاً – إذا أردنا أن نجيب عن هذه الشبهة القديمة ينبغي أن نفهم علاقة الروح بالجسم، فهل هي علاقة الامتزاج، بعبارة أخرى، هل تمتزج الروح بالجسم بحيث يحصل من هذا الامتزاج شيء جديد، كامتزاج أوكسجين بالهيدروجين ليحصل منه الماء الذي هو ليس أوكسجين ولا الهيدروجين، بل هو شيء جديد حصل بعد امتزاج هذين الغازين. فهل علاقة الروح مع الجسم هكذا؟، يقال في مقام الجواب : لا، طبعا، أي : ليست علاقة الروح مع الجسم علاقة الامتزاج والاختلاط.
ثانياً – هل علاقة الروح مع الجسم كعلاقة المادة مع الصورة، أو بالعكس؟ فإن المادة لا يمكن أن تتحقق إلا في ضمن صورة كما أن الصورة لا تتحقق إلا على مادة فالمادة هي الجوهر والصورة هي العرض الذي يعرض على المادة. فهل تركيب الجسم والروح يكون من هذا القبيل؟ قطعا ليس كذلك. هذا التركيب أيضا غير صادق عليهما لأن الروح والجسم كلاهما من مقولة الجوهر، وهنا أود أن أشير إلى نقطة هامة قد تساعدنا في استيعاب هذه المعاني، وهي أنه قد يوضع العنوان والاسم على المادة لا بشرط صورة معينة، بل إنما يطلق عليها ذلك العنوان في أي صورة ظهرت، وهذا كعنوان الرخام، فإنه ينطبق على مادة الرخام، سواء كانت في الجدران، أو في السقف، و سواء كانت في صورة صلبة، أو في صورة المسحوق، ففي كل هذه الصور تسمى الرخام رخاماً، وهنا لا دخل للصور في التسمية، وتارة يكون للصورة دخل في تسمية المادة باسم معين كالمسجد، فإنما تسمى بعض المواد التي تستخدم في بناء المسجد كالحجر والطين والخشب وما شابه ذلك مسجداً أو جامعاً إذا وضعت تلك المواد بصورة معينة، لكن إذا انهدم المسجد لسبب من الأسباب، فبعد الانهدام لا تسمى ركام ذلك المسجد مسجداً، من هنا عرفنا أن الهيكل والصورة المعينة هي الاصل ولها الدخل التام في التسمية، و لا بأس بهذه المناسبة نشير إلى مسألة فقهية، وهي أن بعض الفقهاء أفتوا بأن أحكام المسجد لا تترتب على المسجد الذي انهدم ولم تبق له هيئة المسجد، لأنه لا يصدق عليه المسجد بعد الانهدام، فلا تترتب عليه أحكامه، ولكن احتاط بعض الفقهاء في رعاية أحكام المسجد على الذي انهدم ولم تبق له هيئة الجامع.
إضافة إلى ذلك نعرف أن كل من المادة والصورة يحتاج إلى الأخر، فلا يمكن أن تكون هناك صورة بدون مادة، وكذلك لا يمكن أن تكون هناك مادة بدون صورة، ومن هنا نقول بأن علاقة الروح مع الجسم ليست كعلاقة المادة مع الصورة، المادة هي من مقولة الجوهر و الصورة من مقولة العرض ولا يعقل حصول أحدهما بدون الآخر، ولكن الجسد والروح كلاهما من مقولة الجوهر ولكن أحدهما كثيف والآخر لطيف ويعقل انفصالهما بل يتحقق بالضرورة فكان الجسم ولم يكن له روح وسوف ينفصل الجسد من الروح.
ثالثاً– ليست العلاقة بين روح الإنسان وجسمه كعلاقة الأجزاء التحليلية العقلية للمركب، وهي كالحيوانية والناطقية بالنسبة إلى الإنسان، فالعقل حينما يحلل الإنسان يتصوره جزأين، جزء مشترك، كالحيوان في المثال، وهذا ما نسميه جنساً في علم المنطق، وهذا مشترك بين الإنسان وبين سائر الحيوانات التي تتحرك بالإرادة، وجزء مختص، كالناطق في المثال، وهذا ما نسميه فصلاً، وهذا الجزء تميز الإنسان عن سائر الحيوانات، هذا ما تسمى بالأجزاء التحليلية للمركب، لأنها تحصل عند تحليل عقلي للمركب، علاقة الروح مع الجسم ليست كهذه العلاقة؛ وذلك أن حصول هذه الأجزاء يكون في ظرف الذهن، دون الواقع الخارجي، ولكن الجسد والروح حقيقتان خارجيتان يمكن انفصالهما.
رابعاً– بعد أن ثبت لنا من خلال ما تقدم من أن علاقة الروح مع الجسم ليس كالعلاقات التي أشرنا اليها، نقول بأن الأصح في المقام هو أن علاقة الروح مع الجسم كعلاقة الفاعل مع آلة الفعل والانفعال، بعبارة أخرى، الفاعل الحقيقي لما يصدر عن الإنسان هو الروح، غير أن الروح تفعل هذه الأشياء بواسطة الجسم، فالجسم هو آلتها للقيام بالأفعال في هذه الدنيا، فالروح هي التي تتكلم لكن بواسطة الجسم، والروح هي التي تسمع لكن بواسطة الأذن، وإلى آخر ما هنالك وكذلك الألم والفرح والحزن واللذة والكراهة كلها من انفعالات النفس التي تحصل لها من خلال الجسد.
خامساً– إذا ثبت ذلك أن الفاعل الحقيقي لما يصدر عن الإنسان هو الروح، ثبت أن هوية الإنسان الحقيقية مرتبطة بالروح، بعبارة أخرى شخصية كل فرد قائمة بروحه لا بجسده وإذا كان كذلك فيمكن أن يعيد الله تعالى هذه الروح بجسم الذي يشابه جسم الإنسان في الدنيا، وهو هو، فلا يلزم منه المشاركة في الأجزاء حتى يستلزم منه شبهة الآكل والمأكول، لأن ما يعاد يوم القيامة هو روح الإنسان إلى الجسم، والروح لا تنعدم ولا تتناثر، هذا كله في مقام الثبوت.
أما في مقام الواقع والإثبات فمن يتأمل في الآيات المباركة التي تتحدث عن إعادة الحياة يوم القيامة، يصل إلى أن القرآن الكريم صرح بأن الإنسان سوف يحيي بالجسم نفسه الذي مات به في الدنيا. وبهذا الصدد نستعرض بعض القصص التي نصل من خلالها إلى أن الجسم الذي يموت به الإنسان في هذه الدنيا تعاد الحياة إليه يوم القيامة، لأن الله قادر على كل شيء، و لا يذوب عن علمه شيء، فمهما تلاشت أجزاءه، أو تناثرت، أو تحولت إلى أشياء أخرى، لا تغيب عن علم الله تعالى، و هو قادر على أن يخصص لكل فرد جسده ويمنع عن لحوق جسد إلى الآخر بل يحفظ لكل فرد جسده الذي مات فيه .
ومن هذه القصص ما حكى الله تعالى قصة النبي عزير عليه السلام، قال الله تعالى : {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[1]
هذه القصة دليل حي على إمكان البعث وإعادة الحياة يوم القيامة، ومن جهة أخرى دليل قوي على قدرة الله اللامحدودة. فقد مر النبي عزير عليه السلام راكبا على حماره على قرية من قرى بيت المقدس - بناء على ما ورد في بعض الروايات – وقد تهدمت وتحولت إلى الركام، وكان معه طعاما وشراباً كزاد السفر، فحينما رأى حالة القرية المنهدمة والخاوية على عروشها فقال: بما مضمونه، كيف يحيي الله هذه الأجساد البالية والمتجزئة المتكسرة؟ ومن المعلوم ما كان هذا السؤال عن إنكار المعاد أو ما شابه ذلك، لأنه كان نبياً من الأنبياء عليهم السلام، والأنبياء هم الذين أقوى إيمانا بيوم الآخرة من الآخرين، فكان السؤال استعظاما لقدرة الله تعالى، وتعجبا من عظمتها، فحينما سأل عن كيفية إحياء الموتى يوم القيامة سؤال التعجب والاستغراب فعند ذلك أماته الله تعالى ثم بعثه بعد مائة عام، وسأله عن المدة التي مرت عليه بعد الموت فكان جوابه يوما أو بعض يوم، فخاطبه الله بأنك بقيت لمدة مائة عام.
ومن عجيب قدرة الله تعالى أن طعامه وشرابه لم يتغيرا، وكانا على ما كان عليه قبل موته، رغم أنه مر بهما مائة عام، والدليل على أنه بقي لمدة مائة عام، أنه لم يبق من حماره إلا بعض العظام البالية والمتكسرة، ثم نظر إلى أنه كيف جمع الله تعالى لحمه وكساه على عظامه المتناثرة، وإذا به كان حمار حيا كأنه لم يصبه شيء، وهنا نرى أن الآية المباركة تصرّح بأن الله تعالى أعاد الحياة إلى نفس الجسم الذي مات به النبي عزير عليه السلام، وحماره، وحينما رأى كل هذه الأمور بأم عينه قال عند ذلك :{أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي : كنت أعلم علم اليقين أن الله قادر على إحياء الموتى يوم القيامة، والآن تحول هذا العلم إلى حق اليقين.
ومن القصص التي تدل على أن الله قادر على إعادة الحياة إلى نفس الأجسام التي مات بها أصحابها في هذه الدنيا قصة النبي إبراهيم عليه السلام، حيث حكاها القرآن الكريم،
ومن القصص التي تدل على أن الله قادر على إعادة الحياة إلى نفس الأجسام التي مات بها أصحابها في هذه الدنيا قصة النبي إبراهيم عليه السلام، حيث حكاها القرآن الكريم، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[2]
هذه الحكاية دليل آخر على إمكان إعادة الحياة إلى العظام التي أصبحت رميماً، كما تدل على أن الله قادر على إعادة الحياة إلى نفس الأجسام التي مات بها أصحابها، وذكر في التاريخ أن سبب سؤال ابراهيم عن ربه أن يراه كيفية إحياء الموتى أنه عليه السلام مر على شاطئ البحر، فرأى جيفة تتنازع على أكلها حيوانات من البر والبحر، كما كانت تأكل منها الطيور، فهنا انتبه إلى مسألة أخرى، وهي أنه لو حصل مثل هذا لجسم الإنسان، وأصبح طعاما للحيوانات البحرية والبرية، فيكون بعضه جزء من الحيوانات البحرية وبعضه من البرية، وبعضه يكون جزء من الطيور، فعند ذلك كيف تكون إعادته يوم القيامة، فقال : {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى}، وهنا سأله الله تبارك وتعالى : ألا تؤمن بيوم الآخرة، فأجابه: بلى ولكن ليطمئن قلبي أي : أنه كان يؤمن ويعلم ذلك علم اليقين لكنه يريد أن يتحول هذا اليقين إلى حق اليقين، بعد مشاهدته بأم عينه.
فأمر الله تعالى أن يأخذ أربعة طيور، ثم يذبحها ويخلط لحم بعضهن ببعض، بحيث لا يبين ولا يميز بعضها عن بعض، ثم يوزع هذا المخلوط على الجبال، ثم يدعو الطيور إليه، فقام إبراهيم بما طلب منه الله سبحانه وتعالى، وحينما دعا الطيور بعد أن جعل لحمهن على الجبال المتعددة، هنا تمثلت له إعادة الحياة يوم القيامة بصورة حية، قد شاهدها بأم عينه، فرأى أنه كيف تتجمع هذه الأجزاء المختلطة بعضها ببعض، وتستجيب من الأماكن المتعددة، ثم تعود الحياة إليها أمام عينيه. فهذه القصة كما تدل من جهة على كيفية إعادة الحياة يوم القيامة، من جهة أخرى تدل على أن الله قادر على أن يعيد نفس الأجسام التي فارقتها الأرواح الى صورها السابقة ثم يعيد الروح إليها في هذا العالم. ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة وسنكمل البحث في الموضوع في الدروس القادمة بإذن الله تعالى


[1] بقره/سوره2، آیه259.
[2] بقره/سوره2، آیه260.