الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تتمة البحث السابق.
اتضح لنا – مما سبق – تصور منكري المعاد من خلال الأسئلة الثلاثة التي تقول، هل يمكن إعادة الحياة إلى العظام البالية؟ ومن يقدر على إعادتها؟ ومتى تتحقق هذه الإعادة؟ من هنا نود أن نستعرض بعض الآيات الأخرى التي تتحدث عن تصور المعاد عند مشركي مكة وصناديد قريش، حيث أنكروا وجود المعاد، بل استهزأوا به استهزاء. فتقدم سورة يس صورة واضحة عن عقيدة وتصور منكري المعاد في المقطع الأخير من هذه السورة المباركة، حيث قال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ 78 قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ 79 الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ 80 أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ 81 إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 83 }[1]
هذا المقطع يتحدث عن أمور تقدم صورة واضحة عما كان يعتقده منكرو المعاد.
أولاً - إنما أنكر هؤلاء عقيدة المعاد لأنهم لم يتأملوا في النشأة الأولى، لأنهم لو تأملوا فيها لما استغربوا من إعادة الحياة إلى العظام البالية المتكسرة، لأن من أنشاها وفطرها أول مرة، قادر على أن يعيد الحياة إليها مرة ثانية، بل إن إعادة الخلق أهون من الخلق ابتداء.
ثانياً– أكد قوله تعالى : ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ على أن الله سوف يحييها ويعيد الحياة إليها، لأنه فطرها وبدعها، ومن المعلوم أن أدنى تأمل وتدبر في الخلق الأول يزيل الاستغراب من إعادة الحياة إلى من كان حياً. ثم ختم كلامه قائلاً : ﴿ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾، إشارة إلى أنه لا يذب عن علمه ذرة أينما كان فهو يستطيع أن يجمع الذرات المتبعثرة.
ثالثاً– ثم يضرب الله تعالى مثلاً نراه كل يوم أمام أعيننا فقال: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً ﴾، فالله تعالى جعل الخشب يتحول إلى النار بقدرته المطلقة، ومن المعلوم أن الخشب مادة صلبة خشنة باردة، في حين أن النار جوهر لطيف نوراني مضيء حار، فيخلق الله تعالى جوهراً لطيفاً نورانياً من مادة صلبة لا لينة فيها ولا نور. وهذا التحول عجيب إلى حد الإعجاز ولكن لما كان هذا التحول يوميا ومتكرراً أمامنا، فلا نرى فيه أي إعجاز وأي استغراب.
رابعاً– ثم تنتقل الآيات إلى منظر آخر يؤكد على أن الله قادر وخالق وعليم، وأنه لا شيء في هذا العالم يعجزه، وهذا المنظر يتحدث عن خلق هذا الكون الكبير الذي لم يكتشف حده حتى إلى الآن، والذي يحتوي على الآلاف من الأنظمة الدقيقة والغريبة التي أدهشت وحيرت عقولاً إنسانية، فيسأل القرآن هؤلاء المنكرين ﴿ أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾، فهذا الاستفهام الإنكاري تؤكد بكل وضوح على أن القادر على خلق السموات والأرض قادر على الخلق الذي هو أهون من ذلك، وهو إعادة الحياة إلى العظام التي أصبحت رفاتا ورميماً.
يحتمل في قوله تعالى : (مِثْلَهُم) أن يكون الضمير راجع إلى منكري المعاد، وهذا هو الأظهر عندنا، والمراد من ( أن يخلق مثلهم ) إعادة الحياة إلى أجزاءهم المتناثرة وعظامهم البالية المتكسرة، وهذا ما أكد عليه صاحب مجمع البيان قدس سره الشريف حيث قال:" هذا استفهام معناه التقرير يعني من قدر على خلق السماوات و الأرض و اختراعهما مع عظمهما و كثرة أجزائهما يقدر على إعادة خلق البشر."[2] وقيل بأن الضمير راجع إلى السماوات والأرض باعتبار تواجد العقلاء  بينهما. إلا أن فيه نظر وذلك أن محور النقاش بين رسول الله ومشركي مكة هو إعادة خلق الإنسان، وليس بعث السموات والأرض، وثانيا أن الكلام في إعادة الخلق، وخلق مثل الشيء لا يعتبر إعادة الخلق كما لا يخفى هذا ما أشار إليه العلامة الطباطبائي قدس سره الشريف حيث قال : " قيل: ضمير «مِثْلَهُمْ» للسماوات والأرض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله. و فيه أن المقام مقام إثبات بعث الإنسان لا بعث السماوات و الأرض. على أن الكلام في الإعادة و خلق مثل الشيء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة."[3]
خامساً – بعد أن ذكر لهم أن الله تعالى قادر بإعادة الخلق، لأنه ابتدأ الخلق من لا شيء، وأنه تعالى خلق ما هو أكبر وأشد خلقاً منهم، انتقل لبيان كيفية الخلق، فقال "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" حيث أكد على أن خلق الشيء أياً كان تابع لإرادته، فإذا أراده ظهر إلى الوجود بدون أي تأخير وتردد، فأن الله لا يحتاج إلى سبب في فعله، أو مُعين يُعينه، أو فكر وتدبر قبل الخلق، وكذلك لا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك المخلوق سماءً أو أرضاً أو بحراً أو جبلاً وبين أن يكون بعوضة أو نملة أو ذرة، فلا يوجد سهل أو صعب أمام قدرته وإرادته، بل كل شيء يكون ممكن ذاتاً ولو كان مستحيلاً تحققا، إذا أراده سبحانه وتعالى، أوجده بلا سبب و مُعين و رويّة فكر أجاله. فمن يملك مثل هذه القدرة اللامحدودة واللامتناهية، كيف لا يقدر على إعادة الحياة إلى العظام البالية التي خلقها أول مرة.
سادساً و أخيراً – أكد في نهاية المقطع و ختام السورة على أن له تعالى السيطرة القابضة على الكون كله، والقدرة الكاملة على المخلوقات كلها، ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، ومن يتمتع بمثل هذه السيطرة المطلقة والهيمنة التامة والقدرة الكاملة، لا يعجزه خلق شيء، ولا إعادته، إلا أن الذين على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقر، وعلى أعينهم غشاوة، لا يدركون هذه الحقيقة الواضحة والساطعة.
من جهة أخرى من يتأمل في هذا الكون يدرك أن الله تعالى قدّم لنا أمثلة كثيرة نستطيع أن نفهم ونستوعب من خلالها إعادة الحياة والبعث بعد الموت، ومن هذه الأمثلة إحياء الأرض بعد موتها، فنحن نرى كل سنة أن النبات والأشجار وما شابه ذلك تتناثر أوراقها في موسم الشتاء وتجف النباتات، ثم تتجدد الحياة فيها في موسم الربيع. فتنبت من جديد، وتعيد زينة الأرض إليها. يقول الله سبحانه وتعالى : { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }[4] أليس من عجيب صنع الخالق أن يعيد الحياة إلى الأرض الميتة بإنزال الماء؟ بلى، هو من عجيب صنعه، ويكفي في إثبات قدرته على إعادة الخلق والحياة، لكن للذين يملكون قلوباً صافية، وآذان واعية، وأبصار تعتبر وتتعظ بما تراه من عجائب مخلوقاته، ودقائق صنعه.
ومن العجب أن من أنكر وجود المعاد واستغرب من إعادة الحياة بعد ما أصبح رفاتاً، هم أنفسهم قد اعترفوا أن الله سبحانه وتعالى يحيي الأرض بعد موتها، حيث حكى الله تعالى ما كان يجول في قرارة أنفسهم قائلاً : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }[5] وثمة آيات أخرى تتحدث حول هذا الموضوع، وتوجه أنظار الناس إلى أن من تدبر في هذه الآيات الإلهية يصل بدون تردد وشك إلى بعثهم وإحياءهم ليس بأمر صعب على الله تعالى.
الشبهات حول يوم القيامة والرد عليها.
ثمة شبهات قد أثيرت حول المعاد، و نودّ أن نسلِّط الضوء على الأهم منها، ونناقشها.
شبهة إعادة المعدوم.
ثبت – بالأدلة القاطعة في علم الفلسفة - أن الشيء الذي ينعدم يستحيل أن يعود، لأن العدم ليس شيء، ليعود أو يشار إليه، و قد عد المستشكل إعادة خلق الأموات من نفس القبيل؛ وذلك أن الإنسان حسب معتقدهم هو هذا البدن المادي الذي يبلى ويتناثر ثم يتلاشى وينعدم، ومن هنا فإذا أعيدت له الحياة، لا يكون نفس الإنسان الأول بل يكون إنسانا أخرا، غير أن هذه الشبهة ليست في محلها؛ لأن إعادة الحياة إلى العظام البالية والأجزاء المتناثرة هنا وهناك، ليس من إعادة المعدوم، بل هو جمع هذه الأجزاء، ثم إعادة الحياة إليها، وبعبارة أخرى أن هوية الإنسان مرتبطة بالروح، ولا تنعدم الروح عند الموت، بل تفارق الجسم، ومن هنا فيكون المعاد ليس من قبيل إعادة المعدوم بل الروح الموجودة باقية والأجزاء المتناثرة كذلك موجودة فالمعاد ليس إلا جمع الأجزاء المتناثرة مرة أخرى وعود الروح إليها. وثمة شبهات أخرى نتوقف عند بعضها في المحاضرات القادمة بإذن الله تعالى.


[1]یس/سوره36، آیه78.
[2] مجمع البيان في تفسير القرآن، العلامة الطبرسي، ج8، ص292.
[3] الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي، ج17، ص113.
[4] نحل/سوره16، آیه65.
[5]عنکبوت/سوره29، آیه63.