الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

36/09/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : تفسير سورة الإسراء
تبين لنا من خلال المباحث الماضية أن من لا يؤمن بيوم القيامة لا يصل إلى حقائق القرآن الكريم ومعارفه السامية، بقي أن نتحدث عما قال الله تعالى : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } حيث ينقل الله تعالى لنا حالة هؤلاء الكفار حينما كانوا يسمعون اسم الله تعالى، من دون الأصنام، و رد في أكثر من رواية أيضاً انهم كانوا لا يحبون سماع التوحيد ويفرون منه وقد طبق ذلك بالبسملة منها ما جاء في تفسير القمي : وَعَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع («بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏» أَحَقُّ مَا أُجْهِرَ بِهِ- وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَ‏ وَ إِذا ذَكَرْتَ‏ رَبَّكَ‏ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُورا.)[1] فهذا الحديث المبارك تفيد أن قريش كانت لا تحب سماع ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وكانت تفر حين تسمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أكد على أنه من حقها أن يجهر بها عند القراءة.
ومثله ما رواه في الكافي عن : " أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُ‏[2] عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ عَنْ هَارُونَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع ( قَالَ قَالَ لِي‏ كَتَمُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏* فَنِعْمَ وَ اللَّهِ الْأَسْمَاءُ كَتَمُوهَا- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ يَجْهَرُ بِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ فَتُوَلِّي قُرَيْشٌ فِرَاراً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فِي ذَلِكَ- وَ إِذا ذَكَرْتَ‏ رَبَّكَ‏ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً )[3]-[4]
ففی هذه الروایة یظهر الامام استیاءه من کتمان البسملة و یذکر سیرة رسول الله بالجهر ببسم الله فالامام علیه السلام یوبخ ویعاتب هؤلاء الذين تركوا البسملة في قرائة الصلاة، فاخواننا السنة على ثلاثة أقسام فمنهم من لا يأتي بالبسملة في القرائة ومنهم من يأتي بها خافتا ولو في الجهرية ومنهم يأتي بها جهرا واما فقهاء الشيعة فكلهم أفتوا على وجوب الاتيان ببسملة عند القرائة في الصلاة فمنهم من يرى ان البسملة هي الآية الاولى من كل سورة الا التوبة ومنهم من يقول انما هی جزء من سورة الحمد ولکن یجب الاتیان بها فی الصلاة عند البدء بقراءة اي سورة الا البراءة. فذهب البعض إلى جزئيتها، واختار البعض الآخر عدم جزئيتها إلا في سورة الحمد، مع أنه اتفق الكل أنه يجب الإتيان بها في بداية كل سورة إلا سورة البراءة(التوبة)، وثمرة النزاع يظهر في صلاة الآيات، فمن رأى أنها جزء من كل سورة، يرى جواز الركوع بعد ذكرها، قبل البدء بالآية الأخرى، ومن رأى عدم جزئيتها فيرى عدم جواز الركوع الا بعد ذكر الآية الأولى التي تلى بسملة الافتتاح. كذلك يستحب الجهر بها حتى في الصلوات الإخفاتية، بل يستحب الجهر بها في بدء كل أمر، كما ورد في الرواية المشهورة قوله عليه السلام: "كل أمر ذي بال لم يبدأ بـبسملة فهو أبتر. والذي أود أن أؤكد عليه أنه ينبغي علينا أن نساهم في إحياء ونشر ثقافة الجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم )، بأن نجهر بها قبل البدء في كل أمر من أمورنا، لا يقال إنه يمكن أن يكون الجهر بها رياء، لأن ذلك يرجع إلى نية العامل، فمن يجهر بها ليظهر نفسه عابدا وزاهدا ومتقيا أمام الآخرين فهو المرائي، ولكن من يجهر بها لكي يسهم في إحياء هذه الثقافة، ويذكر الآخرين بهذه السنة الشريفة فهو حينئذ مأجور مرتين، مرة على القراءة بها قبل البدء بالأمر، وأخرى على إحياء ونشر هذه الثقافة.
قال تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً 47 انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}48 [5]
اختلف المفسرون في المراد من " ما " في قوله تعالى ( نحن أعلم بما يستمعون )، فقد اختار الطبرسي في مجمع البيان والرازي في تفسير الكبير ما ملخصه أن المراد منه نحن نعرف دواعي استماعهم إلى القرآن الكريم، حيث لم يكن استماعهم استماع التفقه والتفهم بل كانوا يستمعون للتآمر على رسول الله، وللرد عليه، أو للتحريف في كلام الله تعالى.
ولكن صاحب الميزان قدس سره اختار يرجع الموصول الى العلم بالوسيلة التي يستمعون بها في قوله تعالى : ﴿ أعلم بما يستمعون ﴾ أي : أنهم يستمعون إليه بآذانهم الثقيلة، وبقلوبهم المحجوبة حيث قال : " يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التي يستمعون بها إليك و بقلوبهم التي ينظرون بها في أمرك- و كيف لا؟ و هو تعالى خالقها و مدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم أكنة و في آذانهم وقرا أصدق و أحق بالقبول- فنحن أعلم بما يستمعون به و هو آذانهم في وقت يستمعون إليك، و نحن أعلم أي بقلوبهم." [6]
ولكن يبدو لي أنه لا فرق بين هذين القولين حيث كلاهما يؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي أن كفار قريش لم يكونوا يسمعون كلام الله تعالى بنية الاهتداء، بل إنما كان سماعهم للقرآن الكريم قائماً على التآمر والتخريب والتحريف والضلالة. في حين أن الإنسان العاقل الذي ينصف نفسه والآخرين دائما يسمع ليهتدي ويستفيد ويتعلم. يقول الله عز وجل : { فبشر عباد * {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }[7] [8] فثمة بشارة للذين يستمعون لأجل الاستفادة والاهتداء والتعلم، حيث يستمعون القول ثم يختارون منه الأحسن، وهؤلاء مدحهم الله حيث وصفهم بالمهتدين، وبأنهم أصحاب العقل والفكر والتدبر. وهذا تأكيد على أن الآذان يجب أن تكون واعية، ومستمعة إلى الخير، معرضة عن اللغو وزخرف القول، ومن هنا ينبغي لنا أن نستمع الى كلام الآخرين، ثم نتأمل فيه، فإذا وجدناه يأخذنا إلى طريق الهداية والصلاح والسعادة، علينا أن نستمع إليه، ونعمل به، و أما إذا وجدناه باطلا ولغواً ولهواً فينبغي أن نجتنب عن الانصياع اليه و العمل به.
و أما قوله تعالى : (وَ إِذْ هُمْ نَجْوَ) حيث ورد فيه الإخبار بصيغة المصدر وهي اصل جميع المشتقات من تلك المادة، ولذا يستعمل ذلك في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، فمعناه إذ هم يتناجون مع بعضهم.
وقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً)، والمسحور يحتمل الأمرين ان يكون بمعنى الفاعل اي ساحراً ويمكن المراد معنى المفعول اي اصابه السحر فأصبح مجنونا - نستجير بالله- فقد أكد التاريخ أن كفار قريش لم يتركوا وسيلة إلا وقد لجاءوا إليه ليمنع الناس من الاستماع إلى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليمنعوهم من الاهتداء إلى طريق الحق والحقيقة، فتارة يقولون إن رسول الله – والعياذ بالله – مجنون، وتارة أخرى يصفونه بأنه شاعر، وثالثة بأنه ساحر، وكان كل هذه التصرفات إنما كانت لأجل تخويف الناس والتشويش عليهم؛ لئلا يقتربوا من رسول الله عليه السلام، إلا أن هذا الكلام يدل على أنهم شعروا منذ بداية نزول القرآن الكريم بإعجازه الباهر يؤثر في أعماق نفوسهم، واعترفوا له بأن له حلاوة، وعليه طلاوة، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، لكنهم بدل أن ينسبوه إلى الله تعالى، قالوا إنه سحر.
ثم قال الله تبارك وتعالى : { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}، يعاتب الله عز وجل صناديد قريش بغباوتهم وسفاهتهم، حيث أنهم اختاروا طريق الضلالة بدل أن يسلكوا مسلك الهداية والصلاح، وما كان ذلك إلا لأجل شدة عنادهم وبغضهم وتعنتهم، فوصفوا رسول الله بالمسحور، ورموه بالجنون، بينما هو كان رسول الله، وإنما بعث لأجل هداية البشر، ومن هنا ختم الله على قلوبهم، فضلوا عن سواء السبيل، ولم يهتدوا، فلم ينجوا لا في إبعاد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في كل المؤامرات التي حاكوها للقضاء على نهضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والملفت في المقام، هو سبب انحرافهم وتعنتهم وإصرارهم على الضلالة والجحود رغم معرفتهم بأن ما يدعو إليه نبي الله عليه السلام كان مطابقا للفطرة الإنسانية، وكان حقاً، وقد اعترفوا بذلك في قرارة أنفسهم، إلا أن سبب الإعراض، هو أن نهضة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت تدعو إلى الالتزام بالقيم وتؤكد على الدفاع عن حريات الناس وكرامة النفس، كما ترفض الاستبداد والاستكبار، والخضوع أما الحكومات الباطلة، كما تحث على الوقوف في وجه الجبابرة والظلمة والطغاة، الذين يصادرون قرارات الآخرين في الحياة، ويحاولون أن يسيطرون على كل مفاصل الحياة، وهذا هو التوحيد الحقيقي وهذا هو مقتضى الاعتراف بيوم القيامة. وصناديد قريش ومن لف لفهم كانوا يتحرضون عن ذلك. فالتوحيد ليس مجرد التفوه بلا اله الا الله، بل هو الالتزام العملي برفض جميع الآلهة غير الله في مقام الاعتقاد والعبادة والطاعة وقبل الاسلام كان في جزيرة العرب انتماءات دينية مختلفة ولم يكن للقريش ولا غيرهم تلك الحساسية فلما جاء الاسلام الذي يقول﴿ استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم ﴾فأنكروا رسالته، واتهموه بالجنون والسحر و غير ذلك، ليقضوا على ثورته الفتية التي قام بها لأجل تحرير الناس من أيادي الظلم والجبر.
ولما كان التاريخ يعيد نفسه، فنرى أن الاستكبار العالمي وطواغيت العالم ما كانوا ينصبون العداوة للشعب الايراني قبل انتصار الثورة الإسلامية، ولكن بعد أن انتصرت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني رحمه الله تعالى، صبوا عليها الويلات ولم يتركوا وسيلة إلا وحاربوا بها هذه الثورة المباركة، فتارة من خلال الحرب المفروضة الظالمة التي استمرت لمدة ثماني سنوات، وتارة أخرى من خلال تشويه صورة مذهب أهل البيت عليهم السلام عبر نشر الآلاف من المقالات، ورسائل وكتب مشحونة بالحقد، وثالثة من خلال تزوير شخصية الإمام الخميني قدس سره الشريف بتوجيه الاتهامات الباطلة إليه وإلى ثورته. لكن لم ينجحوا لا في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في زماننا المعاصر، لأن الأمة إذا اختارت أن تعيش بالكرامة تموت في سبيلها، ولا يمكن لأحد أن يصادر قرارها، وأن تفرض عليها رأيه، مهما غلت التضحيات.


[1] التفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج1، ص28.
[2] الظاهر أنّه العاصمي. و عليّ بن الحسن هو ابن فضال و في أكثر النسخ‏ [ على بن الحسين‏] و هو تصحيف.
[3]اسراء/سوره17، آیه46.
[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص266، ط الإسلامية.
[5]اسراء/سوره17، آیه47.
[6] الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، ج13، ص115.
[7]زمر/سوره39، آیه17.
[8]زمر/سوره39، آیه18.