الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه

43/11/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: كتاب الصلاة/صلاة الجماعة /في امامة الاعرابي

قال المصنف: (مسألة 11): الأحوط عدم إمامة الأجذم والأبرص، والمحدود‌ بالحدّ الشرعيّ بعد التوبة، والأعرابي إلّا لأمثالهم، بل مطلقاً، وإن كان الأقوى الجواز في الجميع مطلقاً).

في اليوم الماضي قلنا أنّ في هذه المسألة ثلاثة اقوال: عدم الجواز مطلقاً والكراهة مطلقا والتفصيل بين امامته لمثله فيجوز ولغير مثله فلا يجوز. ثم ذكرنا دليل القائل بعدم صحة الصلاة خلف الاعرابي وخلاصته الأخذ بالصحيحتين لأبي بصير والزرارة وما ورد في صحيحة زرارة للمهاجرين لا يمنع من إطلاق صحيحة ابي بصير لان كلاهما نافيتان ونفي امامة الاعرابي للمهاجرين لا يفيد جوازها لغيرهم لأنّه ليست جملة شرطية حتى يكون لها مفهوم المخالف ونفي الشيء لا يثبت ما عداه فصحيحة ابي بصير ينفي امامة الأعرابي مطلقا وصحيحة زرارة تكفل لبعض الحكم لخصوصية فيها.

اما القول الثاني وهو الكراهة مطلقاً وهو قول مشهور المتأخرين:

قال في الجواهر: (لكن على كل حال هو محمول على الكراهة، لقصور ما تضمنه من تلك الأخبار عن إطلاقات الجماعة وعموماتها، ك‌قوله عليه السلام: «صل خلف من تثق بدينه» ‌ونحوه سنداً في البعض، ودلالةً في الجميع، لاحتمال إرادة خصوص غير الجامع لشرائط العدالة منه، إما لوجوب الهجرة عليه، أو لتعربه بعدها، أو لغير ذلك كما هو الغالب في ذلك الزمان وغيره المنساق إلى الذهن من الإطلاق هنا، خصوصا بعد ذم اللّٰه تعالى لهم في كتابه المجيد).[1]

اما السيد الخوئي فهو بعد ما يرفض غير الصحيحتين لضعف اسنادها وعدم صلاحيتها لاستنباط الحكم، ويحصر الامر في الصحيحتين، قال: (والعمدة هي الصحيحتان المتقدّمتان، الرواية (الأولى لأبي بصير) وقد تضمّنت عدم جواز إمامة الأعرابي حتّى لمثله، بمقتضى الإطلاق. لكنّ الثانية أعني صحيحة زرارة مقيّدة بالمهاجرين، فهل يحمل المطلق على المقيّد فيختصّ النهي بإمامته للمهاجرين، أو يعمل بكليهما معاً، أو يحمل النهي فيهما على الكراهة؟ وجوه، بل أقوال كما مرّ:

أمّا الأخير فلا وجه له ظاهر... فيدور الأمر بين الإحتمالين الأوّلين، وقد يقال بالثاني، نظراً إلى عدم التنافي بينهما كي يجمع بحمل المطلق على المقيّد، فانّ مورد التنافي المقتضي للحمل ما إذا كان الحكم في الدليل المطلق مجعولاً على نحو صرف الوجود، مثل قوله: أعتق رقبة، مع قوله: أعتق رقبة مؤمنة. فإنّ المطلوب شي‌ء واحد، وهو صرف وجود العتق، فيدور الأمر بين كونه مقيّداً بحصّة خاصّة وأنّ المراد من مجموع الدليلين شي‌ء واحد وهي الرقبة المؤمنة. وأن يكون مطلقاً والأمر في المقيّد محمولًا على الاستحباب لبيان أفضل الأفراد. والمقرّر في محلّه أنّ‌ المتعيّن هو الأوّل، عملًا بظاهر الأمر في دليل التقييد، بعد أن لم تكن ثمّة قرينة تقتضي صرفه إلى الاستحباب. وأمّا إذا كان الحكم انحلالياً و مجعولًا على نحو مطلق الوجود، الساري إلى جميع الأفراد على سبيل تعدّد المطلوب، فليست هناك أيّة منافاة بين الدليلين كي تحتاج إلى الجمع، لجواز الأخذ بكلّ منهما، نظير قوله: "بول الهرة نجس"بالإضافة إلى قوله عليه السلام: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» و قوله: "النبيذ حرام"، مع قوله: «كلّ مسكر حرام»، و قوله: "ماء البحر طاهر" مع قوله: "خلق اللّٰه الماء طهوراً" إلى غير ذلك من الأحكام المجعولة على الطبيعة السارية، التي لا تنافي بينها و بين ما دلّ على ثبوت الحكم لبعض أفرادها كي يحمل مطلقها على مقيّدها. فلا يحمل ما لا يؤكل على خصوص الهرة، ولا المسكر على النبيذ، ولا الماء على ماء البحر، بل يعمل بكلا الدليلين بعد عدم التنافي في البين.

والمقام من هذا القبيل، فإنّ صحيحة أبي بصير دلّت على المنع من إمامة الأعرابي بنحو مطلق الوجود، الشامل لمثله وللمهاجر، فلا تنافيها صحيحة زرارة الخاصّة بالمهاجر، بل يعمل بكل منهما. ومعلوم أنّ التقييد بالمهاجر لا يدلّ على نفي الحكم عن غيره ليقع التنافي بينه وبين الإطلاق، لعدم مفهوم للوصف. فلا تنافي بين الدليلين، لا من ناحية صناعة الإطلاق والتقييد، ولا من ناحية مفهوم القيد، كي يستوجب الحمل المزبور. فلا مناص من الأخذ بكلا الدليلين). [2]

ثم قال رضوان الله عليه: (أقول: قد ذكرنا في بحث الأُصول أنّ الوصف وإن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح، أعني الدلالة على العلّية المنحصرة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء فلا معارضة بين قوله: أكرم رجلًا عادلًا، وبين قوله: أكرم رجلًا هاشمياً، كما تتحقّق المعارضة بينهما لو كان بنحو القضية الشرطية، إلّا أنّ التقييد بالوصف يدلّ لا محالة على أنّ الموضوع للحكم ليس هو الطبيعة على إطلاقها وسريانها، وإلّا كان التقييد به من اللغو الظاهر. فلو ورد في دليل: أكرم رجلًا، لكان معارضاً مع قوله: أكرم رجلًا عادلًا بطبيعة الحال، لدلالة الأوّل على أنّ الموضوع ذات الرجل أينما سرى وحيثما تحقّق. وقد عرفت أنّ الثاني ينفي ذلك.

وعلى الجملة: لا نضايق من أنّ الوصف لا يقتضي الانحصار، لجواز قيام خصوصية أُخرى مقامه كالهاشمية في المثال، لكن لا مناص من الالتزام بدلالته على عدم كون الطبيعة المطلقة موضوعاً للحكم، حذراً من لغوية القيد كما عرفت. ودعوى جواز أن تكون النكتة في ذكره العناية بشأنه والاهتمام بأمره، أو لبيان أفضل الأفراد لمزيّة فيه، كلّ ذلك مخالف لظاهر الكلام، ولا يكاد يساعده الفهم العرفي ما لم تقم عليه قرينة خاصّة، ولعلّه إلى ما ذكرنا ينظر قول أهل الأدب من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازياً، مع اعترافهم بعدم المفهوم للوصف بالمعنى المصطلح. وعليه فصحيحتا أبي بصير وزرارة متنافيتان لا محالة، إذ التقييد بالمهاجر الواقع في كلام الإمام عليه السلام في صحيح زرارة كاشف عن عدم كون موضوع الحكم مطلق الأعرابي، وإلّا لم يكن وجه للتقييد به كما عرفت. وقد دلّت صحيحة أبي بصير على أنّ الموضوع مطلق الأعرابي، وأنّه لا يؤتمّ به ولا بغيره من المذكورات فيها على كلّ حال، فلا مناص من حمل المطلق‌ على المقيّد والالتزام باختصاص المنع بالمهاجر، لا من جهة دلالة القيد على المفهوم الاصطلاحي، بل من جهة دلالته على نفي الحكم عن الطبيعي المطلق كما بيّناه.

فالقول بالاختصاص هو الأظهر. ويدلّ عليه الحثّ الأكيد الوارد في كثير من الروايات على إقامة الجماعات بل الجمعة لعامّة المسلمين، الذين منهم الأعرابي و سكنة البوادي، فهم أيضاً مأمورون بإقامتها فيما بينهم بمقتضى الإطلاقات، بل السيرة أيضاً قائمة على تشكيل الجماعات بينهم و ائتمام بعضهم ببعض. ولعلّ حكمة المنع عن إمامته للمهاجر أنّ معرفة الحضري بدقائق الأحكام أكثر، و اطّلاعه على المسائل أوفر، لقصور الأعرابي غالباً عن العثور على المزايا و الخصوصيات المتعلّقة بالصلاة و مقدّماتها، فلا يناسب أن يأتمّ به إلّا مثله. فتحصّل: أنّ القول بالكراهة ضعيف وإن نسب إلى كثير من المتأخّرين، بل المشهور بينهم، كضعف القول بالتعميم. فالأقوى عدم جواز إمامة الأعرابي إلّا لمثله).[3]

ولنا معه كلام نتعرض له غدا ان شاء الله.


[1] جواهر الكلام، النجفي الجواهري، الشيخ محمد حسن، ج13، ص387.
[2] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج17، ص379.
[3] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج17، ص381.