الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه

43/06/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: كتاب الصلاة/صلاة الجماعة /اصالة الصحة في صلاة الامام

قد تحثنا في الايام الماضية حول المفارقات بين قاعدة الفراغ واصالة الصحة والفرق الاخير الذي ذكرناه هو تقيد جريان قاعدة الفراغ بما اذا لم يعلم المكلف انه كان غافلا عما شك في حدوثه، فاذا علم بانه كان غافلاً حين العمل عما شك فيه فلا تجري قاعدة الفراغ مثلا اذا كان في اعضاء وضوئه شيئا من الدم و بعد الفراغ من الوضوء تذكره فرأى ان الدم زائل ولا يدري هل زال الدم بماء صب على يده حتى تطهّر ويكون وضوئه صحيحا او زوال الدم كان عندما مسح بكفه مكان الوضوء من يده ليغسلها فتنجست يده و بطل وضوئه؟ فاذا لم يدر انه هل كان ملتفتاً الى الدم اثناء الوضوء او لا؟ فيجري قاعدة الفراغ ويبني على صحة وضوئه ولكن اذا علم انه كان غافلا حين الوضوء فلا تجري قاعدة الفراغ،

وقد استدلوا على ذلك بما ورد في موثقة بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يَشُكُّ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّأُ- قَالَ هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ. فمعناه بما انه حين يتوضأ كان أذكراً من حين يشك فلا يعتني بشكه. فاذا تيقن بغفلته حين الوضوء لا تفيده هذه الرواية.

كذلك: متمسكاً بصحيحة مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ قَالَ: إِنْ شَكَّ الرَّجُلُ بَعْدَ مَا صَلَّى فَلَمْ يَدْرِ أَ ثَلَاثاً صَلَّى أَمْ أَرْبَعاً وَ كَانَ يَقِينُهُ حِينَ انْصَرَفَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَمَّ، لَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ وَ كَانَ حِينَ انْصَرَفَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ" فالحكم فيها بعدم اعادة الصلاة معلل بكونه حين الانصراف من الصلاة اقرب الى الحق منه حين يشك. فان كان يعرف انه عند الانصراف من الصلاة كان في حالة الذهول والغفلة، فلا يمكن ان يجري قاعدة الفراغ و يحكم بصحة صلاته.

ثم ان هناك روايات كثيرة تفيد عدم لزوم الاعتناء بالشك بعد الفراغ من دون قيد سواء علم بغفلته حين العمل او لم يعلم، فمن يقول: باشتراط عدم علمه بالغفلة حين العمل يجعل موثقة ابن بكير وصحيحة محمد بن مسلم مقيدا للاطلاقات، فان صناعة علم الاصول تقتضي تقييد المطلقات او تخصيص العمومات وحملها على الروايات التي فيها قيد، فيقدم المقيد على المطلق والخاص على العام، فهذا مبنى من يرى قيد مجرى قاعدة الفراغ عدم العلم بالغفلة حين العمل.

اما من ذهب الى اطلاق قاعدة الفراغ وهم الأكثر، فيتمسك بالاطلاقات الواردة وهي كثيرة والموضوع فيها كان مما يكثر الابتلاء به، وفي موثقة ابن بكير و صحيحة محمد بن مسلم لم يستعمل اداة العلة وليستا صريحة في التقييد فيمكن حملهما على بيان حكمة الحكم، اي ان الله لم يوجب اعادة الصلاة ولم يحكم ببطلان الوضوء بما ان في الغالب يكون المتوضأ عند الوضوء اذكر منه حين يشك، والمصلي عند ما ينتهي من الصلاة عادة هو اقرب الى الحق اي معرفة ما فعل، من بعد ذالك حين يشك.

مثاله اذا سئل لماذا جعلوا اشارة الحمراء على تقاطع الطرق فيقال لعدم تصادم السيارات او تزاحمها، فلا يمكن ان نقول ان وجوب وقوف السيارات وراء اشارة الحمراء مقيد بما حصل التصادم او التزاحم لو لم يقفوا، لان اشارة الحمراء وضعت للاحتياط عن التصادم او تزاحم السيارات، فهي حكمة الجعل وليست علته حتى تقيد الحكم بموارد التصادم او التزاحم بينها. ولعل هذا الرأي في قاعدة الفراغ اقوى من القول بالتقييد بعدم العلم بالغفلة حين العمل ولكن الاحتياط حسن على كل حال.

المطلب الثالث: انه هل موضوع أصالة الصحّة، حمل فعل الغير على ما هو الصحيح عند فاعله فيترتّب عليه آثاره إن كانت له آثار بالنسبة إلى الحامل، أو أنّ موضوعها هو حمل فعل الغير على ما هو الصحيح عند الحامل وفيما نحن فيه عند الامام او عند الماموم أي على ما هو الصحيح واقعاً فيترتّب عليه آثار الواقع؟

فلو صلّى شخص صلاة الجنازة على ميّت، وشككنا في صحة هذه الصلاة وفسادها، فهل تُحمَل على ما هو الصحيح بنظر المصلّي أو على ما هو الصحيح واقعاً وبحسب تحديد الحامل للواقع؟

وثمرة ذلك تظهر في أنه لو قلنا بأنّ المراد هو الصحة الواقعية، أي الصحة عند الحامل، فإنه لابدّ في جريان القاعدة من أن يكون الحامل عالماً بأنّ الفاعل عالمٌ بالمسألة، وأنّ معتقده لم يخالف معتقده بالتباين، وأما لو قلنا بأنّ المراد هو الصحة عند الفاعل فإنه تجري القاعدة حتى في صورة علم الحامل بالمخالفة والمباينة. فما هو الصحيح؟

اختلف الأعلام في المراد من الصحة في المقام على أقوال:

القول الأول: أنّ المراد من الصحة في المقام هي الصحة عند الفاعل. وهو ما ذهب إليه المحقّق القمي وبعض آخر، واستظهره الشيخ الأنصاري من كلام صاحب المدارك.

القول الثاني: أنّ المراد من الصحة هي الصحة الواقعية، ولكن بمعنى الصحة عند الشارع، أي الصحة في نفس الأمر والواقع، وهو ما يظهر من كلام المحقّق البجنوردي.

القول الثالث: وهو قول المشهور بين الأعلام وهو أنّ المراد من الصحة هو الصحة الواقعية، ولكن بمعنى الصحة عند الحامل، أي حمل فعل الغير على ما هو الصحيح عند الحامل واقعاً، لا على ما هو الصحيح عند الفاعل، ونع ما قال السيد الخوئي رضوان الله عليه: (بأنّ المراد بالصحة في المقام هي الصحة الواقعية لا الصحة عند العامل على ما نسب إلى المحقّق القمي؛ وذلك لقيام السيرة على ترتيب آثار الواقع على العمل الصادر من الغير، والصحة عند العامل لا توجب ترتيب الآثار عند الحامل على الصحة، فإنّ أصالة الصحة لا تكون أزيد من العلم بالصحة، والعلم بصحة العمل عند العامل لا يوجب ترتّب الأثر عند غيره، فلو علم المأموم ببطلان صلاة إمامه باجتهاد أو تقليد، أو من جهة إخلال الإمام بها من جهة الشبهة الموضوعية، لم يجز الائتمام به وإن كانت الصلاة صحيحة عند الإمام).[1] فالقول السديد هو اصالة صحة صلاة الامام في راي الماموم.

وان شاء الله نبحث عن دليل اصالة الصحة في البحث الآتي

 


[1] مصباح الأصول( طبع موسسة إحياء آثار السيد الخوئي)، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج3، ص268.