الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه

43/06/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: كتاب الصلاة/صلاة الجماعة / اصالة الصحة في صلاة الامام

قال المصنف: مسألة 37: لا يجوز الاقتداء بإمام يرى نفسه مجتهداً وليس بمجتهد مع كونه عاملًا برأيه، وكذا لا يجوز الاقتداء بمقلّد لمن ليس أهلًا‌ للتقليد إذا كانا مقصّرين في ذلك، بل مطلقاً على الأحوط إلّا إذا علم أنّ صلاته موافقة للواقع من حيث إنّه يأتي بكلّ ما هو محتمل الوجوب من الأجزاء والشرائط، و يترك كلّ ما هو محتمل المانعيّة، لكنّه فرض بعيد لكثرة ما يتعلّق بالصلاة من المقدّمات والشرائط والكيفيّات، وإن كان آتياً بجميع أفعالها وأجزائها، ويشكل حمل فعله على الصحّة مع ما علم منه من بطلان اجتهاده أو تقليده.

قد تحدثنا فيما مضى عن البحث عن حكم صلاة المأموم خلف امام يرى نفسه مجتهدا او خلف ماموم يقلد من لا يصلح للإفتاء، فقلنا ان كان يعرف من نفسه انه ليس مجتهدا او يعرف ان من يقلده ليس صالحا للمرجعية فهو فاسق لا يجوز الاقتداء به اما اذا كان جاهلا قاصرا يزعم نفسه مجتهدا او جاهل بان من يقلده ليس صالحا للمرجعية. فاذا كان موضوع المخالفة في غير الاركان وعلى قول في القراءة ايضاً فلا اشكال في صلاة الماموم بمثل هذا الامام اما اذا كان مورد المخالفة في الأركان فلا يجوز اقتداءه به. الى هنا كان بحثنا في فرض معرفة الماموم بحال الامام.

واليوم نريد ان نبحث عما اذا كان لا يعرف الماموم حال الامام في الموافقة او المخالفة في بعض اجزاء الصلاة لمخالفته في فتواه او فتوى من يقلده.

بعض الفقهاء يرون جواز الاقتداء بمثل هذا الامام تمسكا باصالة الصحة في عمل الغير، فينبغي ان نستغل الفرصة فنطل اطلالة على هذا الاصل الذي يستفاد منه في كثير من المواطن في الفقه ولو قليلافنقول:

تطلق قاعدة أصالة الصحة ويراد بها عدّة معاني و المصطلحات، لنشخص محل نزاعنا في هذه المسألة ونبيّن المعنى المراد في بحثنا هنا. اذ يطلق اصالة الصحة على معاني شتى:

الأول: قد تطلق أصالة الصحة ويراد منها حمل عمل الغير على الفعل الحسن المباح، بمعنى حسن الظن بعمل الآخرين، في مقابل الحمل على القبيح المحرّم، ولكن من دون لحاظ الأثر الجوارحي المترتّب عليه، بل المراد ترتيب الأثر الجوانحي القلبي فقط. مثلاً: لو رأينا شخصاً يأكل في نهار شهر رمضان، وشككنا هل إفطاره هذا عن عذر فلا يكون عاصياً أو عن غير عذر فيكون عاصياً؟ فمقتضى أصالة الصحة، حمل فعله على الحسن، أي بمعنى عقد القلب على أنه لم يفعل فعلاً قبيحاً ولم يفعل معصية، لا بمعنى أن نرتّب آثار العدالة عليه وبالتالي نجوّز الصلاة خلفه مثلاً أو نقبل شهادته أو نجوّز تقليده أو غير ذلك.

أو اذا صدر كلام من الغير لا نري سلّم علينا أو هو سبّنا، فنتردّد بين كون كلامه (سلام عليك) او (سام عليك) بمعنى الموت، فهنا يُحمل عمله على الصحة وأنّ هذا سلام وليس سبّاً. ويشهد على هذا المعنى: قول أمير المؤمنين عليه السلام: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه" [1] على أن يكون المراد من الأمر هو الأعم من القول والفعل، و من الوضع الحمل اي احمل القول والفعل من اخيك على احسن الوجوه، فتدلّ الرواية بالتالي على أنه إذا شكّ في صحة فعل الأخ المسلم او قوله وفسادهما فلابدّ من حمله على الصحيح؛ لأنه الأحسن. وكذلك قوله تعالى: ﴿وقولوا للناس حسنا﴾ بضميمة ما ورد من تفسيره في الكافي على قول الصادق عليه السلام: "قولوا للناس حسناً ولا تقولوا إلا خيراً حتى تَعلموا ما هو" [2] فالآية ليست بصدد بيان لزوم ترتيب آثار الصحيح على قوله بل بصدد عدم اخذ الضغينة والبغض عليه، فيكون المراد هو ترتيب آثار الاعتقاد الصحيح ومعاملة الناس في أفعالهم معاملة حسنة.

وليست اصالة الصحة بهذا المعنى محلّ الكلام؛ لعدم ترتّب أثر عملي على أصالة الصحة بهذا المعنى.

 

الثاني: قد تطلق أصالة الصحة ويراد منها حمل خبر الغير على الخبر الصحيح، وهو ما يعبّر عنه بأصالة الصحة في مقام المعاشرة، والمنظور في هذا الأصل انه لو جاء المؤمن وأخبرنا بخبر، ثم شككنا في صدق خبره، فهنا تأتي هذه الأصالة وتقول: احمل خبره على الصحة، ولا تكذّب خبر هذا المؤمن، يعني عامله ظاهراً معاملة الصادق، ولكن من دون أن ترتّب أثراً واقعياً عليه. فان عدم التكذيب لا يلازم التصديق.

ولهذا المعنى تشير الرواية عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى بن جعفر ع قال: قلتُ له: جُعلْتُ فداك الرّجلُ من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهُهُ فأسألُه عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قومٌ ثقاتٌ. فقال لي: يا محمد كذِّبْ سمعَكَ وبصرَكَ عن أخيك وإن شهد عندك خمسون قَسامَةً وقال لك قولاً فصدّقْهُ وكذّبهم ولا تُذيعَنَّ عليه شيئاً تشينُه به وتهدم به مروءتَه فتكون من الذين قال الله عزّ وجلّ- ﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَالْآخِرَة﴾[3] وَ رَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ مِثْلَهُ [4]

فهذه الرواية تشهد على أنّ المراد هو تصديق المؤمن ظاهراً من دون ترتيب اثر في مقام العمل، وإلا فلا يحتمل أن يُرجَّح إخبار هذا الشخص على خمسين قسامة تشهد بخلاف ذلك.

ومن الواضح أنّ هاتين الروايتين ترتبطان بعالم الأخلاق وحسن المعاشرة، وتعزيز روابط وعلاقات الأفراد في المجتم وليس هذا هو محلّ الكلام والبحث ايضاً.

و نتابع بحثنا غداً ان شاء الله.

 


[1] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج2، ص362.
[2] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج2، ص169.
[3] السورة النور، الأية 19.
[4] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج12، ص295، أبواب احكام العشرة، باب157، ح4، ط آل البيت.