الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه

40/02/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الرابع/شروط النهی عن المنکر/کتاب الامر بالمعروف و النهی عن المنکر

كان بحثنا في الشرط الرابع للامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو: (أن لا يكون في الإنكار مفسدة) وفرغنا من الاستدلال بقاعدة لا ضرر وعالجنا معارضتها مع اطلاقات الامر بالمعروف بحكومة القاعدة على تلك الاطلاقات.

و الدليل الثاني على سقوط وجوب الامر بالمعروف عند المفسدة هو قاعدة نفي الحرج، والاصل فيها قوله تعالى: ﴿وَجاهَدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجتَباكُم وَ ما جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدّينِ مِن حَرَجٍ مِلّةَ اَبِيكُم اِبراهِيمَ﴾ [1] الآية وقوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‌ أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾"[2]

قبل کل شيئ لابد ان نلقي الضوء على معنى مفردة الحرج، فعند ما ننظر الى كتب اللغة وموارد استعمالها نرى هناك موارد مختلفة بل قد تكون متخالفة في ظاهرها، مثلاً:

قال فی العین: (الحَرَج: المأثم. و الحارِج: الآثِم، قال:يا ليتني قد زرت غير حارِج و رجل حَرِج و حَرَج كما تقول: دَنِف و دَنَف: في معنى الضيق الصدر، قال الراجز:لا حَرِج الصدر، و لا عنيف و يقرأ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً و حَرِجًا. و قد حَرِجَ صدره: أي ضاق و لا ينشرح لخير و رجلٌ مُتَحَرِّج: كافٍّ عن الإثم و تقول: أَحْرَجَنِي إلى كذا: أي ألجأني فخرجت إليه أي انضممت إليه)،

قال فی المفردات: (أصل الحَرَج و الحراج مجتمع الشيئين، و تصوّر منه ضيق ما بينهما، فقيل للضيّق: حَرَج، و للإثم حَرَج، قال تعالى: ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [النساء/ 65]، و قال عزّوجلّ: "وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج/ 78]، و قد حرج صدره، قال تعالى:يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام/ 125]).

ولكن المعنى المتناسب في هاتين الآيتين هو الضيق والتعب و یؤيد ذلك روايات استندت الى الآيتين واليك نماذج منها:

231- فِي مَحَاسِنِ الْبَرْقِيِّ عَنْهُ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ‌ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَ‌ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فِي الصَّلَاةِ وَ الزَّكَاةِ وَ الصَّوْمِ وَ الْخَيْرِ، إِذَا تَوَلَّوُا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ قَبِلَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ" فمعناها اذا كانوا اهل الولاية يقبل اعمالهم من دون أن يشدد عليهم.

233- فِي الْإِسْتِبْصَارِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْجُنُبِ يَجْعَلُ الرَّكْوَةَ أَوِ التَّوْرَ فَيُدْخِلُ إِصْبَعَهُ فِيهِ قَالَ: إِنْ كَانَتْ يَدُهُ قَذِرَةً فَأَهْرَقَهُ، وَ إِنْ كَانَتْ لَمْ يُصِبْهَا قَذَرٌ فَلْيَغْتَسِلْ مِنْهُ، هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». ما ضيق الله عليه فقبل غسله تسهيلا عليه.

234- وَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّا نُسَافِرُ فَرُبَّمَا بُلِينَا بِالْغَدِيرِ مِنَ الْمَطَرِ يَكُونُ إِلَى جَانِبِ الْقَرْيَةِ فَيَكُونُ فِيهِ الْعَذَرَةُ، وَ يَبُولُ فِيهِ الصَّبِيُّ، وَ يَبُولُ فِيهِ الدَّوَابُّ وَ تَرُوثُ؟ فَقَالَ: إِنْ عَرَضَ فِي قَلْبِكَ مِنْهُ شَيْ‌ءٌ فَقُلْ هَكَذَا، يَعْنِي افْرِجِ الْمَاءَ بِيَدِكَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ فَإِنَّ الدِّينَ لَيْسَ بِمُضَيَّقٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». فصحة الوضوء في مثل هذا الماء من باب التسهيل عليه.

235- فِي تَهْذِيبِ الْأَحْكَامِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ رِبَاطٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِي فَجَعَلْتُ عَلَى إِصْبَعِي مِرَارَةً كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ؟ قَالَ: يُعْرَفُ هَذَا وَ أَشْبَاهُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، قَالَ اللَّهُ: «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» امْسَحْ عَلَيْهِ". فالاكتفاء بالمسح على المرارة يكون من باب التسهيل. ونحن ما ذكرنا هذه الاحاديث لبيان ان الحرج جاء في هذه الاحاديث بمعنى التعب والضيق لا للاستدلال على حكم شرعي كي يجب علينا التركيز على دراسة اسنادها.

والبحث في هذه القاعدة نظير اختها قاعدة لا ضرر، فلا نطيل الكلام فيها.

و مما استدل به على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند ما يحتمل فيه المفسدة والضررهو الحديث النبوي المشهور وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "بعثت بالشريعة السهلة السمحة" فنستفيد من هذا الحديث عدم وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر اذا ترتب عليهما مفسدة وضرر وخطر على فاعل هذه الفريضة بل تسقط عنه الوجوب، وقد تمسك بهذه الرواية الشيعة والسنة في ابواب الفقه المختلفة كما ورد في روايات اهل البيت عليهم السلام في ابواب مختلفة التمسك بها واليك نماذج من تلك الاحاديث:

في الكافي: عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ ابْنِ الْقَدَّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ إِلَى النَّبِيِّ ص فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عُثْمَانَ يَصُومُ النَّهَارَ وَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص مُغْضَباً يَحْمِلُ نَعْلَيْهِ حَتَّى جَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ص فَقَالَ لَهُ يَا عُثْمَانُ لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَ لَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ أَصُومُ وَ أُصَلِّي وَ أَلْمِسُ أَهْلِي فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَ مِنْ سُنَّتِيَ النِّكَاحُ".[3] سندها ضعيف و لكن دلالتها على سهولة الشريعة في طبيعتها لا بأس بها.

إن فاضل المقداد جعل الثالث من القواعد الفقهية (أن المشقة سبب في التيسير). ثم استدل لها بامور فقال:،(لقوله تعالى: ﴿"يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ" و لقوله: "وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ".﴾ و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم‌ بعثت بالحنيفية السمحة السهلة‌، و قوله صلى الله عليه و آله: "‌يسّروا و لا تعسّروا و بشّروا و لا تُنفِّروا‌) فجعل النبوي المذكور احدى ادلته و اضاف النبوي المشهور عند السنة بادلته و اغلب الظن عندي ان هذا الحديث عامي فقد سمعت منهم كثيراً.

ومن الاخطاء ان نستفيد منها جواز التساهل والتسامح في الدين الشيئ الذي يجعل الاجكام الشرعية في معرض التلاعب بها. وعلى هذا المعنى قد نرى بعض فقهاء السنة يقدمون اسهل الفتاوى على غيرها بينما لابد من تقديم ماهي القوى دليلا او احوط في تحصيل رضا المولى.

ثم صاحب الجواهر طرح شبهة اخرى: فقال: (وقول الباقر عليه السلام في الخبر «5» السابق: «يكون في آخر الزمان قوم مراءون يتقرءون- إلى أن قال-: لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير»‌) فاعتبر هذا الحديث مناقض للقول بسقوط وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الضرر و ترتب المفسدة على فاعلها.

ثم ذكر اجوبة فقال: (محمول على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات، أو على إرادة فوات النفع من الضرر، بل في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر اليسير، أو على استحباب تحمل الضرر العظيم، و إن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة‌ ثبوت الحرمة حينئذ كما صرح به الشهيدان و السيوري)

ولكن نحن لا نرتضي بهذه الاجوبة اما الاشكال في اولاها، ان الامام يؤاخذ عليهم بانهم يرفعون اليد عن وجوبهما عند مشاهدة الضرر فيدل على ان ترك هذه الفريضة درءاً للضرر امر مرفوض

وفي ثانيها: ان صرف الضرر عن معناه الى فوات النفع لا وجه له، نعم ان القول بوجوب تحمل الضرر اليسير ليس بعيداً عن مراد الحديث و ما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون و أبي ذر و غيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها.


[1] الحج/السورة22، الآية78.
[2] المائدة/السورة5، الآية6.
[3] الكافي- ط الاسلامية، الشيخ الكليني، ج5، ص494.