الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الجهاد

37/06/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الفرار من الزحف

قد علمنا أنه لا يجوز الفرار ولو غلب الظن بالقتل اذا كان العدو ضعفين فما دون أما اذا كان العدو أكثر من الضعف قال المصنف: (و إن كان المسلمون أقل من ذلك لم يجب الثبات) والوجه في ذالك مفهوم الشرط في قول الله تعالى: "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ"[1] (الانفال66). نعم لابد أن نجعل قوله تعالى: "يغلبوا مأتين , يغلبوا الفين" في مقام الانشاء اي ليغلبوا مأتين وألفين. اي يجب متابعة الجهاد بنية الحصول على الغلبة على العدو. فالوجوب بعد تخفيف الله مشروط بأن لا يكون العدو أكثر من الضعف، وهذا كان مفاد الروايات التي مرت بنا و قد أفتى جل الفقهاء رضوان الله عليهم بذالك.

هنا صاحب الجواهر رضوان الله عليه استدل على عدم وجوب الجهاد اذا كان المسلمون أقل من نصف الكفار بالأصل بعد انتفاء شرط الوجوب، فان كان مراده من الأصل البرائة لا حاجة اليها بعد مفهوم الشرط فهو مدلول الامارة فلا يترك مجال للاصل فان الاصل دليل للشاك وحيث لا دليل والامارة كاشفة للحكم و رافعة للشك تعبداً. ولكن إن قلنا أنه أراد من الأصل الإمارة التي هي المرجع فلا إشكال عليه. وهذا التعبير رائج بين الفقهاء فيقولون الاصل في هذا الحكم آية كذا او رواية كذا.

ثم هناك سؤال يطرح نفسه وهو هل الضِعف ملاكٌ محدَّد بالعدد الدقيق بحيث اذا اضيف على الضعف شخص أو شخصين يرتفع وجوب القتال أو انّه يلاحظ في الضعف نظر العرف فلا يختل عنوان الضِعف بزيادة خمسة او عشرة في ألفين لمقابلة ألف؟

قال في الجواهر: (قد يشكل ذلك في نحو زيادة الواحد و الإثنين مثلاً مع الضَعف و الجُبن في الكفار، و الشجاعة و القوة في المسلمين، بإطلاق أدلة الثبات بعد انسياق اعتبار كون العدو على الضِعف فأقل إلى ما هو الغالب من غير الفرض، و كذا الكلام في صورة العكس، و من هنا قال الفاضل: و في جواز فرار مائة بطل من المسلمين من مائتين و واحد من ضعفاء الكفار إشكال، من مراعاة العدد و من المقاومة لو ثبتوا، و العدد مراعى مع تقارب الأوصاف، و كذا الإشكال في عكسه، و هو فرار مائة من ضعفاء المسلمين من مائة و تسع و تسعين من أبطال الكفار، فإن راعينا صورة العدد لم يجز، و إلا جاز بل في القواعد الأقرب المنع في الأول، لأن العدد معتبر مع تقارب الأوصاف،)(جواهر الكلام ج21ص63). بما أن رفع اليد عن ظاهر العدد في التحديد تحقيقاً مشكل جداً فلابد من الاحتياط بعدم ترك القتال في كلا الموردين أخذاً بمطلقات وجوب قتال الكفار والمشركين .

ثم جاء المصنف بفرع آخر وهو حكم ما اذا كان المسلمون أقل من نصف المشركين ولكن غلب الظن على الانتصار وخروج المسلمين من الحرب سليماً وقال: (ولو غلب الظن السلامة استحب). فمعنى ذالك مجرد تجاوز عدد المشركين عن الضعف رافع للوجوب ولكن عند ظن السلامة يستحب الجهاد والدليل على ذالك الايات المشجعة للقتال والمسلية بالانتصار كقول الله تعالى: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" وقوله تعالى: "ولاتهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون ان كنتم مؤمنين" وغيرهما من الآيات والروايات.

ثم قال المصنف: (وإذا غلب العطب قيل يجب الإنصراف وقيل يستحب وهو الأشبه) اما وجه وجوب الانصراف فهو وجوب حفظ النفس وحرمة عرضها للخطر. واما دليل استحباب الانصراف فقال صاحب الجواهر لذالك: (و هو أشبه عند المصنف بأصول المذهب و قواعده التي منها أصالة البراءة من الوجوب في نحو الفرض بعد ما يستفاد من الكتاب و السنة من الترغيب في الشهادة، و من كون النصر بإذن اللّٰه و غير ذلك مما يكون أقل مراتبه الجواز)، كأن صاحب الجواهر اراد ان يلتمس للقائل باستحباب الانصراف بدليلين أحدهما: أصالة البرائة عن وجوب الانصراف. وثانيهما: استيحاء جواز ترك الانصراف مما ورد من الكتاب والسنة في الترغيب بالجهاد وطلب الشهادة فان هذه الامور لاتناسب حرمة الجهاد ووجوب الانصراف في هذا الفرض.

وهذا الكلام ليس مقبولاً ، فان الجهاد من الامور التي اذا جاز فهو لا أقل من كونه مستحباً ولذا قال أشكل على هذا القول في الجواهر فقال: (بل لعل المتجه الندب ضرورة ظهور الأدلة في رجحانه، بل لا أعرف دليلاً على جوازه خاليا عن الرجحان، بل يمكن القطع بعدمه، بل لم أعرف من حكاه قولاً غير المصنف. و الذي حكاه في المنتهى عدم وجوب الانصراف لأن لهم غرضا في الشهادة، و استحسنه، كما أن المحكي من عبارة المبسوط الجواز لا الندب فمتى جاز كان واجبا أو مستحبا، بل يمكن إرادة القائل المزبور أفضلية الانصراف منه باعتبار حصول البقاء الذي هو سبب لكثير من العبادات و الطاعات و المبرات لا الجواز بالمعنى الأخص الذي هو بمعنى الإباحة الصرفة من دون ترتيب شي‌ء من الثواب عليه مع فرض بذل نفسه في الدين، فإنه يمكن القطع بعدمه، كما أنه يمكن القطع بعدم الوجوب بعد ملاحظة ما ورد في الكتاب و السنة من الترغيب في الشهادة و الحث على الثبات و نحو ذلك مما يكفي بعضه في رفع الوجوب، و به يفترق حال الجهاد حينئذ عن غيره ضرورة وجوب الانصراف في الفرض في غير الجهاد بخلافه، و اللّٰه العالم).[2] ولنعم ما أفاد صاحب الجواهر في هذا البيان


[1] الأنفال/السورة8، الآية66.
[2] جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، ج21، ص64.