الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الجهاد

37/06/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أدلة من يُجوِّز الفرار اذا غلبه الظن

قد مررنا مروراً عابراً على أدلة من يُجوِّز الفرار:

اول دليل ذكرناه هو قوله تعالى: " ... وَ لا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ[1] . فبما أن القتال عرض النفس للتّهلكة عند غلبة الظن للعطب، فلا يجوز.

ولكن يمكن الجواب عن ذالك

اولاً : بان القتال عرض النفس للشهادة التي هي فوز عظيم قال تعالى: " وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في‌ سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنينَ[2] وقال أيضاً: " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‌ مِنَ الْمُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في‌ سَبيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى‌ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ[3] فالآية الأولى مبشرة للشهداء والثانية داعية لعرض النفس للقتل وعشرات من الآيات والروايات ناطقة بفوز من قتل في الجهاد المقدس فليست الشهادة هلاكا للشهيد حتى يشملها النهي عن عرض النفس للهلاك. اي انها خارجة عن موضوع الآية تخصصاً.

ثانياً : أن الآية المستدل بها داعية للجهاد و تعتبر عدم دعم الجهاد عرض النفس للهلاك، فهذه الفقرة من الآية مسبوقة بالدعوة للجهاد وعدم التقاعس عنه فاليكم نص الآيات:

" وَ قاتِلُوا في‌ سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ . وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرينَ . فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ . وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمينَ . الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى‌ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‌ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقينَ . وَ أَنْفِقُوا في‌ سَبيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْديكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنينَ"[4] . فهذه الآية رد على هؤلاء الذين يزعمون ان الشهادة هي خسران الحياة.

أما التمسك بقاعدة الحرج، فنقول: أن قاعدة الحرج رافعة للحرج الذي خارج عن طبيعة الحكم ولكن الأحكام التي شرعت في مورده وهي مبنية على الحرج فلا تُنفيه، فالزكاة فقد للمال، والكفارة مجازاة للعاصي والحدود وضعت لإيذاء المرتكب لبعض المحرمات، لتكون رادعة عن ارتكابها للآخرين و عود المحدود إلى ذاك الحرام. والقصاص فيه حياة للمجتمع و رادع للناس من القتل. كذلك الجهاد جعل لحفظ أمن البلاد والعباد وهو لا يتحقق الا بالتضحية وعرض النفس للقتل، فلا معنى لرفع التكليف بها خوفاً و حذراً من القتل.

اما الاستدلال على قياس الجهاد بسائر الواجبات والمحرمات: حيث تسقط عند خطر الموت كالصلاة والصوم وغيرها. فيتضح بطلانه مما قلنا في نفي الحرج، و قياس الجهاد بسائر الواجبات والمحرمات قياس مع الفارغ، إذ أنّ خطر الموت في سائر الأحكام أمر خارج عن طبيعة الحكم وقد يتصادف ذالك فعندها يرتفع الوجوب او الحرمة ، أما الجهاد فطبيعته مقرونة بخطر الموت فلا وجه لرفع وجوبه عنده. قال تعالى: " وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَليماً حَكيماً"[5] . وقال ايضاً:" قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ"[6] . فهذه الآيات صريحة في جعل الجهاد مبنيا على عرض النفس للقتل.

أما التمسك بأصالة البراءة: عند الشك في وجوب القتال اذا غلب الظن بالقتل فلا وجه له لان الآيات والروايات لايترك مجالاً للشك والأصل دليل حيث لا دليل.

وأما الاستدلال بالتعارض: بين قوله تعالى "فلا تُوَلّوهُمُ الأدبار" وقوله: "إذا لقيتم فئة فاثبُتوا" من ناحية، وقوله تعالى: "لا تُلقوا بِأيديكم إلى التَّهلُكة" من ناحية أخرى بالعموم من وجه وتساقط الآيتين في المجمع، ثم الرجوع إلى عمومات وجوب حفظ النفس عن الخطر، او القول بتزاحم في المجمع والقول بالتخيير بين العمل بالنهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة و العمل بقوله لا تُولّوهُم الأدبار، لا وجه له بعد ما ثبت عدم شمول النهي في قوله "لا تلقوا بايديكم إلى التهلكة" للجهاد.

ومن ذالك يظهر المناقشة في ظاهر كلام المحقق من جعل قول الله تعالى: اذا لقيتم فئة فاثبتوا مرجحاً لقول الله: "لا تولوهم الأدبار" فان التعارض لو ثبت يشمل كلا الآيتين دفعة واحدة، فلا وجه لحصر التعارض بين "لا تُولّوهُمُ الأدبار" و "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" حتى تبقى قوله تعالى اذا لقيتم فئة فاثبتوا" كما بُيّنَ في باب التعارض من علم الاصول فتأمل.

ولا القول بالتخيير، للتزاحم بين التكليفين من وجوب المقاومة المستفاد من قوله لا تولوهم الادبار و وجوب حفظ النفس عن الهلاك لقوله "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" للعلم بالتكليف و ترديده بين الأمرين وعدم امكان الاحتياط، و التخيير يلازم عدم وجوب الجهاد او عدم حرمة الفرار. هذا أقصى ما يمكن من الدليل لمن يجوز الفرار في فرض غلبة الظن بالعطب والهلاك. فثبت أن القول بجواز الفرار عند غلبة الظن بالقتل لا وجه له.


[1] البقرة/السورة2، الآية195.
[2] آل عمران/السورة3، الآية169.
[3] التوبة/السورة9، الآية111.
[4] البقرة/السورة2، الآية190-195.
[5] النساء/السورة4، الآية104.
[6] التوبة/السورة9، الآية52.