الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الجهاد

37/04/15

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : وجوب جهاد المحارب

ان المرحوم الآصفي رضوان الله عليه بعد ما استدل بعدة من الآيات على وجوب جهاد الابتدائي وقد ذكرناها وناقشنا دلالتها قال:

وهنا نستعرض طائفتين من الآيات مفادهما غير مفاد قوله تعالى: " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيمٌ" (التوبة5)

فللطائفة الأولى ذكر آيتين أحداهما من سورة النساء وهي قوله تعالى: " فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبيلاً" (النساء90) والأخرى من سورة الانفال وهي قوله تعالى: "وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليمُ" (الانفال61).

وملخص ما قال حول الآية الاولى انها تنفي أن يكون للمؤمنين سبيل في قتال المشركين فيما لو عمد المشركون إلى إعتزال المسلمين وعدم قتالهم وبناء على هذا لا يشرّع قتالهم فينحصر شرعية الجهاد في الدفاعي.

واما الآية الثانية فهي واضحة في الطبيعة الدفاعية للقتال لانها تقول "وان جنحوا للسلم فاجنح لها" ويحتمل الأمر في هذه الآية يكون بمعنى رفع الحظر فلا يفيد اكثر من الجواز مع ذالك فالآيتان صريحتان في الطبيعة الدفاعية للقتال وأن القتال الابتدائي ليس هو الحكم الشرعي الملزم للمسلمين، لأن آية النساء تنفي هذا الحق الشرعي للمسلمين وآية الانفال تُخيّرهم و ترجِّح لهم السلم. فكيف الجمع بين آية البرائة و هاتين الآيتين؟ ثم انه رضوان الله عليه رأى الحل الصناعي و على وفق القاعدة الاصولية، جعل هاتين الآيتين مخصّصا لآية سورة التوبة، فتكون النتيجة: قاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم فقط، واما اذا اعتزلوكم ولم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فلم يجعل الله لكم عليهم سلطاناً، اي لايحقّ لكم أن تقاتلوهم. وقال: هذا هو الفهم الصناعي للمسألة الا انه لايلزم منه الفهم الصحيح دائماً.

ثم ذكر فهمه لرفع التنافي بما بيانه: أن تشريع القتال مرّ بأربعة مراحل: الأولى هي المنع والكف عن القتال. الثانية: الإذن بالقتال. والثالثة الإلزام بالقتال بحدود الدفاع. الرابعة: مرحلة الإلزام عموماً. واستشهد لهذا البيان بان سورة البرائة نزلت في السنة التاسعة للهجرة بعد فتح مكة وسورة الأنفال (بدر) نزلت في اوائل الهجرة. كما انه استانس لرأيه المرحلي بما ذهب اليه ابن عباس وجمع من المفسرين بأنّ: آية النساء منسوخة بآية البراءة، وآية الأنفال منسوخة بقوله تعالى في آية السيف: " قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدينُونَ دينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (التوبة29).

ثم هو رضوان الله عليه أنكر على القائلين بالنسخ، وجعل مشروعه المرحلي من: مراحل: وجوب الكف، الإذن في القتال، وجوب القتال الدفاعي و وجوب الجهاد ابتداءً، هو الصحيح في الجمع بين الآيات. هذا خلاصة ما أفاد رضوان الله عليه.

لنا في ما أفاد سماحته مواضع من الكلام:

اولاً: بما أثبتنا في مباحثنا السابقة، لا تنافي في الآيات بل كلّها تصب على خان واحد وهو قتال من يقاتلنا ويفسد في الارض ويفتتن بين المسلمين او يستضعف جماعات من الرجال والنساء والولدان حتى ألجؤهم الى الإستنجاد بنا، فيجب قتال الظالم دفاعاً عن المظلومين و ردعاً لظلم الظالمين فكل الآيات تدل على الجهاد الدفاعي، فلا حاجة لاتعاب النفس في الجمع بين الآيات.

ثانياً: ما دام انتم تعترفون بان قوله تعالى: " " فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبيلاً" (النساء90) يفيد عدم جواز قتال من اعتزل المسلمين ولم يقاتلهم. فكيف تجعلون الامر في قوله تعالى: "وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ الْعَليمُ" (الانفال61). دالاً على مجرد جواز ترك القتال بملاك وروده في مقام توقع الحظر؟ لأن هذا الحمل يجعل التعارض بينها وبين آية 90 من النساء، مع انه لا داعي للحمل على الجواز او الاستحباب عند ما نلاحظ كلام الله تعالى في الآيات السابقة منها حيث قال: واعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله" الآية فهي ظاهرة بان الهدف ردعهم عن القتال فاذا ارتدعوا فلا وجه للقتال؟

ثالثاً: على فرض قبول تنافي الآيات من ناحية ما تفيد من الحكم، فأنتم ذكرتم قول القائلين بالنسخ ثم رفضتموه وذهبتم إلى القول بمراحل التشريع و تدرجه في اربع مراحل، بينما يصح القول بالتدرج من دون نسخ اذا لم يكن بين الحكم السابق واللاحق تنافي، نعم ان الشريعة لم ترد دفعة واحدة وجاءت متدرجاً بمعنى ان الشارع نطق باحكام و سكت عن غيرها ثم جاعت بسائرالشرائع والاحكام تدريجاً، ولكن سكوت الشارع لم يكن بمعنى الاذن في المحرمات ثم رفع الاذن فان كان كذالك فرفع الاباحة وتبديله إلى الوجوب او الحرمة ليس الا نسخا بالنسبة إلى ما مضى سواء سميناه مرحليا او لا؟ فالمسمى نفس المسمى.

ولتقريب الذهن نمثل بحكم الخمر فعلى ما يقال نزل قول الله: يسئلونك عن الخمر والميسرالآية ثم بعد مدة جاء قوله لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى . ثم بعد زمان جاء قوله انما الخمر والميسرالآية فازداد حكم بعد حكم من دون الاذن في المراحل اللاحقة ولكن فيما نحن فيه، انتم تستدلون للمرحلة الاولى بقوله: كفوا أيديكم (نساء77) فذهبتم بحرمة القتال. وفي المرحلة الثانية تستندون بقوله تعالى: اذن للذين يقاتلون"(الحج) وتعتبرون الاذن بالمعنى الأخص مما هو مرادف للاباحة، وفي المرحلة الثالثة بقوله قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا فكان قتال غير المقاتل محرماً. وفي المرحلة الرابعة بقوله فاذا انسلخ (التوبة) وجوب قتال عامة المشركين المعاند والمسالم، فكل مرحلة يرفع الحكم السابق ويضع مكانه حكم آخر وليس ذالك الا النسخ، وانما الاختلاف في التعبير. لان القائل بالنسخ كذالك يرى حصول التغيرات في الحكم في مراحل، وكون الاحكام موقتة في الواقع لا يخرج الامر من وادي النسخ لان الاحكام المنسوخة قد وضعت مؤقتاً من عند الله من دون اخبار بامدها لان البدا على مبنى الصحيح ليس بمعنى انصراف الله مما حكم سابقا سواء في التكوين او التشريع فتأمل.