الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الجهاد

37/02/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : حكم الهجرة

بعد ما انتهينا من البحث فيمن يجب عليه الجهاد وشروطه و موانعه وبعض ما له علاقة بالبحث عقّب المصنف البحث بحكم الهجرة فقال: (و يجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام مع المكنة و الهجرة باقية ما دام الكفر باقيا). والمراد من شعائر الاسلام يعني ما يختص بالمسلمين من الطقوس والأعمال العبادية، كالأذان والصلاة والصوم وغيرها من الامورالتي به يتميز المسلمون من غيرهم، فان الشعائر هي جمع شعيرة او شعار وهي بمعنى العلامة كشعار الوطن وشعار المؤسسة و شعار الحرب قال تعالى: "ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب" وهذه المسئلة لم يطرحها أكثر الفقهاء، ولكن هؤلاء الذين تناولوا هذا البحث لم يخالف أحد منهم في الجملة في انه يجب المهاجرة عن بلد الشرك لمن خاف على دينه واما ما استدلوا به على هذا الحكم فهو آيات من الذكر الحكيم:

1-قال تعالى: "إِنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمي‌ أَنْفُسِهِمْ قالُوا فيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصيراً . إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطيعُونَ حيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبيلاً . فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً . وَ مَنْ يُهاجِرْ في‌ سَبيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحيماً" (النساء97-100)[1] فهذه الآيات ظاهرة في عدم قبول عذر من بقي على الباطل او ترك الواجبات او ارتكب المحرمات اذا كان يستطيع المهاجرة. ولكن لا يفيد وجوب المهاجرة بعنوانه بل الواجب هو حفظ الدين والالتزام بأحكامه فلو توقف ذالك بالهجرة تجب من باب المقدمة وتدل الآية الثانية ان المعذور يسامحه الله . والآية الثالثة لسانه لسان الترغيب وليس لسان الايجاب فهذه الآيات الثلاثة تدل على وجوب الهجرة من باب المقدمة لمن يخاف على دينه واستحباب الهجرة في نفسها. ومن استطاع ان يحفظ بدينه في مجال العقيدة والعمل بالأحكام ولو خفية من دون اظهار الشعائر لايجب عليه المهاجرة.

2-قال تعالى: "يا عِبادِيَ الَّذينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضي‌ واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ" (العنكبوت 56) وقد ذكر المفسرون لهذه الآية معان أقربها ما يناسب لبحثنا وهو وجوب المهاجرة لحفظ الدين والاخلاص في العبادة يعني اذا ضاقت الارض التي انتم بها للعبادة، لمنع الناس عنها او وجود اسباب الاغراء والانحراف وعدم تلائم الاجواء لعبادة الله، فارضي واسعة، فعليكم ان تختاروا منها ما يتوفر فيها الظروف المؤاتية لطاعة ربكم. فهذه الآية أيضاً لم تجعل اظهار الشعائر ميزاناً لوجوب الهجرة، بل عدم التمكن من اتيان العبادة ولو خفية هو الميزان في وجوب الهجرة.

3-قال تعالى: "وَ الَّذينَ هاجَرُوا في‌ سَبيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقينَ (الحج 58) هذه الآية المباركة ذكر فيها الهجرة في سبيل الله ولم تعين المراد منها هل الهجرة للجهاد؟ كما هو الأظهر، او الهجرة إلى الحج؟ او الهجرة لطلب العلم؟ او الهجرة لفعل الخير؟ او الهجرة لحفظ الدين؟ كل هذه الاحتمالات ملائم مع عنوان في سبيل الله، ثم لسان الآية لسان الترغيب والتشجيع لا لسان الايجاب والتحذير، ولا تدل على وجوب المهاجرة، ولو دلت، لما تدل على توقف الوجوب على عدم امكان اظهار الشعائر.

4-قال تعالى: "وَالَّذينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ . الَّذينَ صَبَرُوا وَ عَلى‌ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" (النحل41-42) هذه الآية المباركة ظاهرة في تسلية النازحين وتطييب قلوبهم وأقصى ما يمكن ان نقول فيها هي تشجيع وتحريض على الهجرة، وليس فيها لسان امر حتى نحمله على الوجوب، ولو كان لما افاد وجوب الهجرة على من لايتمكن من اظهار شعائر الاسلام.

ما ذكرناه من الآيات هو الذي ذكره في الجواهر ويمكن اضافة آية ليست في دلالتها اضعف مما ذكر و هي 5-قول الله تعالى:( إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في‌ سَبيلِ اللَّهِ وَ الَّذينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى‌ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ ميثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ . وَ الَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبيرٌ . وَ الَّذينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا في‌ سَبيلِ اللَّهِ وَ الَّذينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَريمٌ . وَ الَّذينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‌ بِبَعْضٍ في‌ كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَليمٌ (الانفال72-75) في هذه الايات جعل الولاء بين المسلمين مشروطا بالهجرة وفي الاية الثالثة جعل الايمان حقا حصر في الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله... والظاهر انه لايُسلب الولاية لمجرد ترك امر مباح او مستحب كما لا ينفي عنه الايمان.

ولعل مراد المحقق من اظهار شعائر الاسلام هو حفظ الايمان و اداء الواجبات وترك المحرمات ودلالة الآيات فوقها لاينكر. كما ان وجوب المهاجرة لحفظ الدين لا لمجرد ضعف اظهار شعائر الاسلام، ظاهر من كلمات بعض الفقهاء الذين تناولوا هذا البحث واليك نموذج منها: قال الشيخ في المبسوط: (لما نزل قوله تعالى «أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا» فأوجب الهجرة.و كان الناس على ثلاثة أضرب: منهم من يستحب له و لا يجب عليه، و منهم من لا يستحب له و لا يجب عليه. و منهم من يجب عليه. فالذي يستحب لهم و لا يجب ‌عليهم من أسلم بين ظهراني المشركين و له قوة بأهله و عشيرته و يقدر على إظهار دينه و يكون آمنا علي نفسه مثل العباس بن عبد المطلب و عثمان كان يستحب له أن يهاجر لئلا يكثر سواد المشركين، و لا يلزمه لأنه قادر على إظهار دينه. و أما الذي لا يجب و لا يستحب له فهو أن يكون ضعيفا لا يقدر على الهجرة فإنه يقيم إلى أن يتمكن و يقدر. وأما الذي تلزمه الهجرة و تجب عليه من كان قادرا على الهجرة و لا يأمن على نفسه من المقام بين الكفار، و لا يتمكن من إظهار دينه بينهم فيلزمه أن يهاجر لقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ الْمَلٰائِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قٰالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا» فدل هذا على وجوب الهجرة على المستضعف الذي لا يقدر على إظهار دينه، و دليله أن من لم يكن مستضعفا لا يلزمه ثم استثنى من لم يقدر فقال «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لٰا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولٰئِكَ عَسَى اللّٰهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» (المبسوط في فقه الإمامية ج2ص3-4)

وقد ورد في المنتهى من العلامة مثل ما ذكرنا عن الشيخ في المبسوط( راجع ج14منتهى المطلب في تحقيق المذهب ص19).

و الانصاف ان الآيات فوقها دالة على عدم جواز استيطان في بلاد الكفر اذا أضر بالدين وأخلّ باداء الفرائض وترك المحارم .

ويمكن ان نضيف إلى هذه الآيات . حكم العقل بلزوم طاعة المولى تعالى و بعض الآيات المطلقة كقوله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْليكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ" (التحريم6). وغيرها مما ورد في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتناب عن معاشرة الفاسق وعدم تولي الكفار.


[1] - النساء اية97 -100.