الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/08/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أحكام الجماعة
المسألة الخامسة والعشرون.إذا حضر المأموم الجماعة ولم يدر أنّ الإمام في الاوليين أو الأخيرتين قرأ الحمد والسورة بقصد القربة، فإن تبيّن كونه في الأخيرتين وقعت في محلّها، وإن تبيّن كونه في الأُوليين لا يضرّه ذلك.[1]
إذا دخل المأموم الجامع، ليصلي مع الجماعة، غير أنه لم يعرف أن الإمام في الركعة الأولى أو الثانية، أو في الثالثة والرابعة، فذهب المؤلف رحمه الله إلى أن المأموم يقرأ الحمد والسورة بقصد القربة المطلقة، فإذا تبين له أن الإمام كان في الأخيرتين، فقد أتى بما كان واجباً عليه، وإن تبين له أنه كان في الأوليين، فما قرأه من الحمد والسورة، لا يضر بصحة الصلاة، بل يعتبر مستحباً.
هذا ما ذكره المؤلف رحمه الله في المقام، وهو – كما لا يخفى – مقتضى الاحتياط، إن أراد المأموم الاحتياط، غير أن ثمة خلاف بين الفقهاء العظام في تعيين وظيفة المأموم في المسألة المذكورة بالنظر إلى القواعد الأصولية أو الفقهية، فمنهم من رأى أنه لا يجب عليه القراءة لأصالة البراءة، لأنه يشك هل الإمام في الأخيرتين ليقوم بالقراءة؛ لأنها واجبة حينئذ، أو في الأوليين، الأصل عدم وجوب القراءة.
ولكن أشكل على هذا القول بأن إطلاقات الروايات مثل " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، تؤكد على أن المأموم يجب عليه قراءة الحمد والسورة، فإما يقوم بالقراءة بنفسه، إذا كان يصلي منفرداً، أو يصلي مع الجماعة، لكن أدرك الإمام في الثالثة أو الرابعة، وإما يتحمل عنه الإمام إذا صلى مع الجماعة من البداية، وفي المقام، يعرف المصلي أن وجوب القراءة متوجه إليه، فإما أن يقوم به بنفسه، أو يتحمل عنه الإمام، غير أنه لا يعرف هل الإمام في الأوليين ليتحمل عنه الوجوب، أو في الأخيرتين ليقوم بنفسه بها، فهنا الأصل اشتغال ذمته بالقراءة، لأن الاشتغال اليقين يستدعي البراءة اليقينية، فالمورد مورد أصالة الاشتغال، وليس البراءة.
والسر في تقديم أصالة الاشتغال على أصالة البراءة في المقام، أن مورد جريان أصالة البراءة إذا كان الشك في التكليف، وأصالة الاشتغال تجري فيما إذا كان التكليف معلوماً، وشك في أداء التكليف. ولا يخفى أن المأموم – حسب الفرض – متأكد من وجوب القراءة، الذي هو أصل التكليف، لكنه يشك في أداءه بأنه هل تحمل عنه الإمام لأنه في الأوليين، أو لم يتحمل لأنه في الأخيرتين.
وذهب البعض إلى أن الأحسن أن يتمسك بأصالة الاستصحاب بدل التمسك بأصالة البراءة أو الاشتغال، وتقريبه، أن دخول الإمام في الأوليين قطعي، وخروجه عنهما مشكوك، فإذا شك المأموم أنه خرج عنهما أو لا، تقتضي أصالة الاستصحاب عدم خروجه عنهما. فيستصحب بقاءه فيهما، ومن هنا فلا تجب القراءة عليه. لكن صاحب المستمسك أشكل على جريان الاستصحاب بأن موضوع الحكم ليس المستصحب، بل المستصحب ما يلازمه، لأن موضوع الحكم وجوب القراءة أو عدمها، والمستصحب كون الإمام في الأوليين، فلم يثبت بالاستصحاب موضوع الحكم، بل إنما ثبت ما يلازمه، وهو يؤدي إلى إثبات حجية الأصل المثبت، وإليك نص كلامه: " وأما أصالة بقاء الإمام في الأوليين فلا يصلح لنفي القراءة، إلا إذا كان عنوان الخاص في المقام المأموم بإمام هو في الأوليين. لكنه غير ظاهر من الأدلة، بل الظاهر منها : أن عنوان الخاص المأموم بإمام في ركعة هي إحدى الأوليين. وأصالة بقاء الإمام في الأوليين لا تصلح لإثبات كون الركعة إحدى الأوليين، إلا بناء على الأصل المثبت‌."[2]
أجاب السيد الخوئي رحمه الله تعالى عن هذا الإشكال حيث أكد أن عندنا في المقام أمرين، أحدهما : أن يكون الإمام في الأوليين، والثاني : أن يتزامن فعل المأموم مع فعل الإمام، والذي يثبت بالاستصحاب هو الأول، أي : كون الإمام في الأوليين، أما تزامن فعل المأموم مع فعل الإمام، فلا يثبته الاستصحاب، بل هو ثابت بالوجدان. ومن هنا فإذا ثبت بالاستصحاب أن الإمام في الأوليين، دل الوجدان على تزامن فعل المأموم مع فعل الإمام، ولذا لا يجب عليه القراءة، فاتضح أنه يمكن التمسك بالاستصحاب لرفع وجوب القراءة.
والسر في تقديم أصالة الاستصحاب على أصالة البراءة أن الروايات مثل " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، تدل بعمومها على أنه يجب على كل مصل الإتيان بفاتحة الكتاب، فهذا عام، ومن جهة أخرى، استثني من هذا العام المصلي الذي اقتدى بالإمام من بداية الصلاة، فكون المأموم مقتديا بالإمام من بداية الصلاة مخصص لتلك الروايات، والشخص الذي حضر الجماعة ولم يدر أن الإمام في الأوليين أو الأخيرتين، يشك في أنه مصداق لهذا المخصص أو لا، وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول بالشبهة المصداقية، وما يفيدنا الاستصحاب في المقام هو أنه يثتب أن المأموم مصداق للمخصص الذي عبارة عن كون المأموم مقتديا بالإمام من بداية الصلاة، وبذلك يسقط عنه وجوب القراءة فتدبر لأن المطلب دقيق.
المتحصل أنه لا يجب القراءة على المأموم في الفرض المذكور إما بأصالة البراءة أو بأصالة الاستصحاب، أما ما ذكره الماتن رحمه الله في المقام من أنه " إذا حضر المأموم الجماعة ولم يدر أنّ الإمام في الاوليين أو الأخيرتين قرأ الحمد والسورة بقصد القربة، فهذا مقتضى الاحتياط، وهو حسن على كل حال، إذا لم يصادف بالحرام، وهو كذلك في المقام.
المسألة السادسة والعشرون.إذا تخيّل أنّ الإمام في الأُوليين فترك القراءة ثمّ تبيّن أنّه في الأخيرتين فإن كان التبيّن قبل الركوع قرأ ولو الحمد فقط ولحقه، وإن كان بعده صحّت صلاته، وإذا تخيّل أنّه في إحدى الأخيرتين فقرأ ثمّ تبيّن كونه في الأُوليين فلا بأس، ولو تبيّن في أثناءها لا يجب إتمامها.[3]
إذا حضر المأموم الجماعة وزعم أن الإمام في الأوليين، فترك الحمد والسورة، ثم تبين له أنه كان في الأخيرتين، فإما أن يكون التبين قبل الركوع، أو بعدها. فإذا كان قبل الركوع، فهو مخير بين أن يكمل الحمد، ثم يلحق بالإمام إما في الركوع أو في السجود، أو يكمل الحمد والسورة مع قصد الانفراد، أو يقطع الحمد على ما مر في المسألة السابقة. وإن كان التبين بعد الركوع، فلا يجب عليه القراءة حينئذ؛ لأنه ترك الواجب غير متعمد، فبمقتضى حديث لا " تعاد " صلاته صحيحة، لأن ما تركه ليس من الأمور الخمس التي تعاد الصلاة لأجلها.
ويُحكم كذلك بصحة الصلاة ما إذا تخيل أن الإمام في الأخيرتين، فقرأ ثم تبين له أنه كان في الأوليين. لأن هذا من قبيل الاشتباه في المصداق، وهذا لا يضر بصحة الصلاة.
أما قول المصنف رحمه الله : (ولو تبيّن في أثناءها لا يجب إتمامها.) فيظهر منه أن المأموم إذا تخيل أن الإمام في الأخيرتين فبدأ بالقراءة، ثم تبين له في أثناءها أنه في الأوليين يجوز له إتمامها، والحال أنه إذا عرف في أثناء قراءته أن الإمام في الأوليين، يجب عليه تركها؛ لأن القراءة حينئذ ساقطة عنه، كما عرفنا سابقاً أن المأموم إذا اقتدى بالإمام في الصلوات الإخفاتية، فيجب عليه ترك القراءة في الأوليين؛ لأن الإمام يتحمل عنه فيهما. وإذا اقتدى به في الجهرية، فإذا لم يسمع قراءته حتى الهمهمة، فيجوز له أن يقرأ. ومن هنا فينبغي أن يحمل قوله : " لا يجب إتمامها." على أن المراد من عدم الوجوب أعم من الحرمة والجواز، أي : أن المراد من قوله : " لا يجب إتمامها، " يحرم، أو يستحب.
المسألة السابعة والعشرون.إذا كان مشتغلًا بالنافلة، فأُقيمت الجماعة، وخاف من إتمامها عدم إدراك الجماعة - ولو كان بفوت الركعة الأُولى منها - جاز له قطعها، بل استحبّ ذلك، ولو قبل إحرام الإمام للصلاة، و لو كان مشتغلًا بالفريضة منفرداً، وخاف من إتمامها فوت الجماعة، استحبّ له العدول بها إلى النافلة وإتمامها ركعتين، إذا لم يتجاوز محلّ العدول، بأن دخل في ركوع الثالثة، بل الأحوط عدم العدول إذا قام للثالثة، وإن لم يدخل في ركوعها، ولو خاف من إتمامها ركعتين فوت الجماعة - ولو الركعة الأُولى - منها جاز له القطع بعد العدول إلى النافلة على الأقوى، وإن كان الأحوط عدم قطعها بل إتمامها ركعتين، وإن استلزم ذلك‌ عدم إدراك الجماعة في ركعة أو ركعتين، بل لو علم عدم إدراكها أصلًا إذا عدل إلى النافلة وأتمّها، فالأولى والأحوط عدم العدول وإتمام الفريضة، ثمّ إعادتها جماعة إن أراد وأمكن.[4]
تناول المصنف – كعادته – فروعاً عديدة في هذه المسألة، نتعرض لواحدة واحدة منها بالاختصار بإذن الله تعالى ومنه.
أولا - إذا كان مشتغلًا بالنافلة، فأُقيمت الجماعة، وخاف من إتمامها عدم إدراك الجماعة - ولو كان بفوت الركعة الأُولى منها - جاز له قطعها،
إذا اشتغل المأموم بالنافلة قبل الصلاة المكتوبة، فأقيمت الجماعة، وخاف أنه لو واصل النافلة إلى النهاية، لا يتمكن من إدراك الجماعة، حتى ولو كان الخوف من فوت الركعة الأولى فقط، جاز له أن يقطع النافلة؛ لئلا تفوته الركعة الأولى من صلاة الجماعة. هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية صلاة الجماعة، ومن هنا ينبغي علينا أن نهتم بها اهتماما، ونوليها عناية كبيرة.
ثانياً - بل استحبّ ذلك، يرى المؤلف أن قطع النافلة حسب الفرض المذكور أعلاه مستحب.
ثالثاً - ولو قبل إحرام الإمام للصلاة، أكد المؤلف هنا على أنه لا يجب عليه أن ينتظر لإحرام الإمام لصلاة الجماعة لقطع النافلة، بل يستحب له أن يقطع النافلة قبل تكبيرة إحرام الإمام، لئلا يفوت منه حتى تكبير الجماعة.
رابعاً - ولو كان مشتغلًا بالفريضة منفرداً، وخاف من إتمامها فوت الجماعة، استحبّ له العدول بها إلى النافلة وإتمامها ركعتين.
اتضح لنا أن المأموم إذا كان مشتغلا بالنافلة وخاف فوت إدراك الجماعة، يجوز له القطع، وكذلك إذا كان مشتغلا بالفريضة، وخاف أن تفوته الجماعة، يجوز له أن يعدل إلى النافلة، ثم يتم الركعتين ويلحق الجماعة، حسب ما ذكره المؤلف.
خامساً - إذا لم يتجاوز محلّ العدول، بأن دخل في ركوع الثالثة.
يجوز له العدول من الفريضة إلى النافلة عند خوف فوات الجماعة، إذا لم يتجاوز محل العدول، وهو أن لا يدخل في ركوع الركعة الثالثة؛ لأن النافلة لا تكون أزيد من الركعتين، ومن هنا فإذا دخل في ركوع الركعة الثالثة، لا يجوز له العدول إلى النافلة.
سادساً - بل الأحوط عدم العدول إذا قام للثالثة، وإن لم يدخل في ركوعها.
بعد أن أكد أن محل العدول هو قبل ركوع الركعة الثالثة، يرى أن مقتضى الاحتياط أن لا يعدل إلى النافلة إذا قام للركعة الثالثة، ولم يدخل في ركوعها، بعبارة أخرى أن مقتضى الاحتياط عدم العدول بمجرد أن قام للثالثة.
سابعاً - ولو خاف من إتمامها ركعتين فوت الجماعة - ولو الركعة الأُولى - منها جاز له القطع بعد العدول إلى النافلة على الأقوى.
ذكر المصنف أن المأموم إذا كان مشتغلاً بالفريضة وخاف فوت الجماعة، يجوز له أن يعدل بها إلى النافلة، ثم يتمها ركعتين، أكد هنا أنه إذا عدل إلى النافلة ثم خاف فوت الجماعة ولو الركعة الأولى منها إذا أتم النافلة، يجوز له قطعها.
ثامناً - وإن كان الأحوط عدم قطعها بل إتمامها ركعتين.
بعد أن أفتى بجواز قطع النافلة في الصورة المذكورة أعلاها أكد هنا على أن مقتضى الاحتياط أن لا يقطعها، بل ينبغي أن يتمها ركعتين ثم يلحق بالجماعة.
تاسعاً - وإن استلزم ذلك‌ عدم إدراك الجماعة في ركعة أو ركعتين.
مقتضى الاحتياط أن يتم النافلة بعد العدول إليها كما عرفنا، ولو كان ذلك يؤدي إلى أن لا يلحق بالجماعة في الركعة الأولى أو الثانية.
عاشراً - ، بل لو علم عدم إدراكها أصلًا إذا عدل إلى النافلة وأتمّها، فالأولى والأحوط عدم العدول وإتمام الفريضة، ثمّ إعادتها جماعة إن أراد وأمكن.
اتضح أن المأموم إذا كان مشتغلاً بالفريضة، وخاف عدم إدراك الجماعة، يجوز له العدول إلى النافلة، إلا أنه أكد المؤلف في نهاية المسألة على أنه لو علم المأموم أنه إذا عدل من الفريضة إلى النافلة وأتمها، لا يتمكن من إدراك الجماعة أصلاً، فمقتضى الاحتياط أن لا يعدل إليها، بل ينبغي عليه أن يتم الفريضة، ثم يعيدها مع الجماعة إذا أراد، و أمكن له ذلك.
أما الفرع الأول حيث قال : " إذا كان مشتغلًا بالنافلة، فأُقيمت الجماعة، وخاف من إتمامها عدم إدراك الجماعة - ولو كان بفوت الركعة الأُولى منها - جاز له قطعها.
لا خلاف في هذه المسألة على الظاهر، وثمة رواية تدل على ما ذهب إليه المؤلف، وهي :  مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ ( سَأَلَ‏ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الرِّوَايَةِ الَّتِي يَرْوُونَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَطَوَّعَ‏ فِي‏ وَقْتِ‏[5]فَرِيضَةٍ مَا حَدُّ هَذَا الْوَقْتِ قَالَ إِذَا أَخَذَ الْمُقِيمُ فِي الْإِقَامَةِ فَقَالَ لَهُ إِنَ‏[6]النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْإِقَامَةِ فَقَالَ الْمُقِيمُ الَّذِي تُصَلِّي مَعَهُ‏ ).[7]-[8]
سند الشيخ الصدوق عليه الرحمة إلى عمر بن يزيد سند صحيح لا غبار عليه، وأما عمر بن يزيد الصيقل الكوفي فهو أمامي ثقة جليل على ما وثقه النجاشي والكشي والشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، قال النجاشي : " عمر بن محمد بن يزيد أبو الأسود بياع السابري  مولى ثقيف كوفي ثقة جليل أحد من كان يفد في كل سنة.[9] وقال الكشي : " ما روي في عمر بن يزيد بياع السابري مولى ثقيف حدثني جعفر بن معروف قال حدثني يعقوب بن يزيد عن محمد بن عذافر عن عمر بن يزيد قال قال لي أبو عبد الله (ع) يا ابن يزيد أنت و الله منا أهل البيت قلت له جعلت فداك من آل محمد؟ قال إي و الله من أنفسهم قلت من أنفسهم؟ قال إي و الله من أنفسهم يا عمر أ ما تقرأ كتاب الله عز و جل: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين‏."[10] وقوله هذا يدل على أنه كان من الأجلاء والكبار عند الإمام الصادق عليه السلام، وقال الشيخ الطوسي : " عمر بن يزيد  ثقة له كتاب."[11] [12] وقال صاحب مجمع الرجال معلقاً على ما روي من أنه جاء عند الإمام الكاظم عليه السلام ليؤكد أنه إمام عصره بعد الإمام الصادق عليه السلام : " يظهر منه اعتباره وجلالة قدره، وأنه المعتمد والواسطة بين الناس والإمام عليه السلام، وهذا أزيد من التوثيق مراراً كثيراً." فتدل كل هذه الأقوال من علماء الرجال الكبار على أنه كان إمامياً، ثقة جليل القدر، ومن هنا فلا غبار على صحة السند.
أما دلالة الحديث على ما نحن فيه، وهو جواز قطع النافلة حين إقامة الجماعة إذا خاف من عدم إدراكها، فسأل الراوي الإمام عن أنه يروى أنه لا صلاة التطوع، أي : النافلة، في وقت الفريضة، فما حد هذا الوقت، فقال عليه السلام : (إِذَا أَخَذَ الْمُقِيمُ فِي الْإِقَامَةِ)، يعني عند البدء بالإقامة للصلاة، فسأله مرة ثانية بقوله : (النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْإِقَامَةِ)، يعني : أن الناس يختلفون في الفصل بين الآذان والإقامة، فمنهم من يفصل بينهما كثيراً، ومنهم من يفصل بينهما بالركعتين، فما المعيار؟  فعين الإمام معياراً له حيث قال : (فَقَالَ الْمُقِيمُ الَّذِي تُصَلِّي مَعَهُ‏)، فهذا يدل على أنه لا تطوع وقت الفريضة، ومن هنا فإذا كان المصلي مشتغلا بالنافلة، وأقيمت الجماعة، فيجوز له القعطع.
أشكل صاحب الجواهر على هذا الاستدلال بأن الحديث أجنبي عن المقام، وذلك أنه يدل على المنع عن البدء بالتطوع، وكلامنا في ما إذا كان المأموم مشتغلا بالنافلة، فهل يجوز له القطع أم لا؟ أجيب عن هذا الإشكال بأن قولهم عليهم السلام : (أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَطَوَّعَ‏ فِي‏ وَقْتِ‏ فَرِيضَةٍ) كما ظاهر في المنع عن التطوع ابتداء، كذلك ظاهر في المنع عنه استمراراً وقت الفريضة.
ودافع صاحب المستند عليه الرحمة عن هذا الجواب، بأن الابتداء بالصلاة النافلة أمر اختياري، فيمكن أن يأتي بها المصلي أو لا، غير أنه حينما يكبر فيدخل فيها، فهنا لا يجوز له أن يتركها، بل يجب عليه إتمامها ركعتين، بناء على ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أنه لا يجوز قطع النافلة بعد البدء بها، ومن هنا فلا تسمى النافلة بنافلة بعد الشروع فيها، لأنه أصبح إتمامها واجباً، ولذا فالحديث ظاهر في المنع عن البدء بها فقط، لأنه بعد البدء بها لا تسمى تطوعاً، وإليك نص ما قاله في المقام : " نعم، بناءً على حرمة قطع النافلة كان لما أُفيد وجه وجيه، لعدم كونها حينئذ مصداقاً للتطوّع بقاءً، كيف و هو مجبور على الإتمام، و لا يجوز له القطع بحكم الشرع، فلا يأتي به عن طوع و رغبة و اختيار الذي هو معنى التطوّع."[13]
لكن يمكن أن يناقش فيما ذكره صاحب المستند عليه الرحمة بأن المعيار في تسمية التطوع هو إذا كان البدء بها أمرا اختيارياً، وإن كان إتمامها واجباً بعد الشروع فيها، فتسمى صلاة التطوع بالنظر إلى البداية. ومن هنا فما ذهب إليه السيد اليزدي من أنه يجوز قطع النافلة لمن كان مشتغلا بها وقت الفريضة، صحيح لا غبار عليه. وثمة روايتان تدلان على جواز القطع، نتوقف عندهما في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
وقفة أخلاقية.
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ص  )‏إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَسُمُّ الْقَلْبَ بِالْقَسْوَةِ وَ يُبْطِئُ بِالْجَوَارِحِ عَنِ الطَّاعَةِ وَيُصِمُّ الْهِمَمَ عَنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ- وَإِيَّاكُمْ وَفُضُولَ النَّظَرِ فَإِنَّهُ يَبْذُرُ الْهَوَى وَيُوَلِّدُ الْغَفْلَةَ وَإِيَّاكُمْ وَاسْتِشْعَارَ الطَّمَعِ فَإِنَّهُ يَشُوبُ الْقَلْبَ بِشِدَّةِ الْحِرْصِ وَيَخْتِمُ الْقَلْبَ بِطَابَعِ حُبِّ الدُّنْيَا- وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَسَبَبُ إِحْبَاطِ كُلِّ حَسَنَة.)[14]
يدرك المتأمل في هذا الحديث المبارك أن محور كلامه صلى الله عليه وآله وسلم هنا هو المنع عن الإسراف في كل مفاصل حياة الإنسان، والتمسك بالاقتصاد والاعتدال والوسطية في الأمور كلها، لأن خير الأمور أوسطها، كما ورد في الأثر، ومن المعلوم أن النصوص المباركة من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أكدت على الاجتناب عن هذه الرذيلة، لأن لها آثاراً سلبية بالغة الخطورة، ومن جهة أخرى، أكدت على أن يكون أساس الحياة على الاقتصاد والاعتدال والوسطية، فقال عليه السلام : (إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَسُمُّ الْقَلْبَ بِالْقَسْوَةِ وَ يُبْطِئُ بِالْجَوَارِحِ عَنِ الطَّاعَةِ وَيُصِمُّ الْهِمَمَ عَنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ
حذّر عليه السلام في هذا المقطع من الحديث عن الإسراف في أكل الطعام، لأنه يؤدي إلى قساوة القلب، وللقساوة آثار سلبية كما لا يخفى، وأنه يسبب الإبطاء بالجوارح عن طاعة الله تعالى وعبادته، كما يمنع عن سماع الموعظة واعتبار العبرة من هذه الدنيا وما فيها.
وفي المقطع الثاني من الحديث حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإسراف في إلقاء النظر حيث قال : (وَإِيَّاكُمْ وَفُضُولَ النَّظَرِ فَإِنَّهُ يَبْذُرُ الْهَوَى وَيُوَلِّدُ الْغَفْلَةَ) حيث أكد على أن فضول النظر يبذر الهوى ويقوي الشهوة ويحث على ارتكاب المعاصي، كما يجلب الغفلة عن ذكر الله تعالى وعبادته وطاعته. أما المقطع الأخير من الحديث المبارك، فأكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه على الاجتناب والابتعاد عن الطمع حيث قال : (وَاسْتِشْعَارَ الطَّمَعِ فَإِنَّهُ يَشُوبُ الْقَلْبَ بِشِدَّةِ الْحِرْصِ وَيَخْتِمُ الْقَلْبَ بِطَابَعِ حُبِّ الدُّنْيَا- وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَسَبَبُ إِحْبَاطِ كُلِّ حَسَنَة.) فحذر عن هذه الرذيلة، وأشار إلى آثارها السلبية من أن الطمع يجلب برذيلة أخطر منها وهي الحرص، وهو يأخذ بقلب الإنسان إلى حافة الهاوية، لأنه يؤدي إلى حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، ومفتاح كل شر ومعصية، وسبب إحباط الأعمال الحسنة. نسأل الله القدير أن يوفقنا للاجتناب عن هذه الرذائل، ولا سيما الإسراف، وأن يوفقنا لنكون مقتصدين في كل أمور حياتنا بمنه وفضله وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.


[1]العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص170، ط ج.
[2]  مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج7، ص292.
[3]العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص170، ط ج.
[4] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص171، ط ج.
[5] في المصدر زيادةكل.
[6] ليس في المصدر.
[7] في التهذيبمعهم.
[8] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج5، ص453، أوب الآذان والإقامة، باب44، ح1، ط آل البيت.
[9] رجال النجاشي، ص283.
[10] رجال الكشي، ج2، ص623.
[11] الفهرست، الشيخ الطوسي، ص324.
[12] الفهرست، الشيخ الطوسي، ص182.
[13] موسوعة الإمام الخوئي، ج17، ص288.
[14] عدة الداعي ونجاح الساعي، ابن الفهد الحلي، ص313.