الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/08/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أحكام الجماعة
تتمة المسألة التاسعة
أشرنا في الدرس الماضي إلى أن ظاهر موثقة غياث بن إبراهيم متعارض مع الروايات الدالة على وجوب العود إلى الركوع أو السجود فيما إذا رفع المأموم رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام، كما تطرقنا إلى بعض الوجوه التي حاول البعض من خلالها أن يجمع بين الطائفتين. كما ناقشنا بعض هذه الوجوه، ومن بينها ما ذهب إليه السيد الخوئي قدس سره، حيث قال بأن الروايات التي تدل ظاهرها على الوجوب موردها ما إذا رفع المأموم رأسه سهوا أو زاعما أن الإمام رفع رأسه، وأما موثقة غياث بن إبراهيم التي تمنع عن العود فهي ناظرة إلى رفع عمدي، فمن رفع رأسه من الركوع أو السجود سهواً، يجب عليه العود إليهما، ومن رفع رأسه متعمداً، لا يجوز عليه العود، وبهذا الجمع لا يبقى تعارض بين الطائفتين.
مناقشة ما أفاده السيد الخوئي.
لنا فيما أفاده السيد الخوئي رحمه الله مناقشة، وذلك – أولاً– رواية غياث بن إبراهيم ظاهرة في النهي في مقام توهم الوجوب، لأن في المقام ثمة روايات دلت على الوجوب، فتوهم السائل أن العود إلى الركوع أو السجود أمر واجب، جاء هذا النهي ليرفع توهم الوجوب، وليدل على أن العود إليهما أمر مستحب وراجح.
ثانيا – قال السيد الخوئي : " أنّ النسبة بين الدليلين و إن كان هو التباين، حيث إنّ كلا منهما مطلق من حيث العمد و السهو، و قد تعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر كما عرفت، لكن فرض السهو و ما يلحق به من اعتقاد الرفع خارج عن إطلاق موثّقة غياث جزماً، للقطع الخارجي بجواز العود حينئذ، و قد تسالم عليه الفقهاء، و من هنا اختلفوا في وجوبه أو استحبابه."[1]
توضيحه أن سؤال السائل فيما رواه غياث بن إبراهيم عن صورة العمد؛ لأن وجوب العود - في صورة السهو، وفي صورة زعم المأموم أن الإمام رفع رأسه - من المسلمات، فلا يمكن أن يسأل الراوي عما هو مسلم و واضح، هذا الكلام ليس بدقيق؛ و ذلك أن وجوب العود - فيما ذُكر - من المسلمات عند الفقهاء بعد التأمل في النصوص الواردة في هذا المجال، ولا دليل على أنه كان من المسلمات عند غياث بن إبراهيم.
وبناء على ذلك فإن سؤال غياث بن إبراهيم إما خاص بغير المتعمد، أو يشمل المتعمد وغيره، ولا يتعين أن يكون السؤال عن المتعمد، بل حمله على صورة غير المتعمد أولى وأظهر في المقام؛ والدليل على ذلك لسان الرواية حيث قال الراوي : (سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ الْإِمَامِ أَ يَعُودُ فَيَرْكَعُ إِذَا أَبْطَأَ الْإِمَامُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ مَعَهُ )، فظاهر قوله : ( أيعود فيركع إذا أبطأ الإمام ويرفع رأسه معه ) يدل على أنه كان يسأل عن وجوب العود إلى الركوع، فقال الإمام : ( لا )، أي : لا يجب العود إليه.
والمحصل مما سبق أن مورد كلتا الطائفتين من الأخبار مورد السهو والخطأ، ومن هنا فما جاء من النهي في رواية غياث بن إبراهيم، محمولة على رفع الوجوب المتوهم في المقام، وهذا ما ذهب إليه المشهور، حيث اختار أن الأوامر الواردة في الروايات السابقة محمولة على الاستحباب. وعندنا قاعدة كلية في الفقه، وهي أن الأمر بعد النهي او توهم الحظر يدل على رفع الحظر، والنهي بعد الأمر يدل على رفع الوجوب، ومثال الأول قوله تعالى :
﴿ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ[2]، فقوله تعالى ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ أمر، وصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، إلا أنه هنا لا يدل على الوجوب، لأن هذا الأمر ورد عقيب حظر المباشرة في ليالي رمضان، فورد هذا الأمر ليرفع الحظر السابق. وكذلك قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[3] فقوله تعالى : ( فانتشروا في الأرض ) وإن كان الأمر إلا أنه لا يدل على الوجوب، لأنه ورد بعد النهي عن البيع حين ينادي المنادي للصلاة.
ومثال الثاني : قولك لعبدك، نظف البيت، ثم تقول له لا تنظف، فهذ النهي لا يدل على منع التنظيف، بل يدل على أن وجوب التنظيف رفع.
المتحصل أن من رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام سهوا، أو زاعماً أن الإمام رفع رأسه، فالأفضل والأحسن والمستحب أن يعود إلى الركوع أو السجود، وإن لم يعد لا إثم عليه، لأن العود أمر استحبابي، ومن هنا فلا نوافق ما قاله السيد اليزدي من أنه : إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام سهواً، أو لزعم رفع الإمام رأسه، وجب عليه العود والمتابعة[4]، وذلك أن العود والمتابعة لا يجب عليه في الصورة المذكورة، بل هو أمر مستحب.
قال الماتن : و إن لم يعد أثم، وصحّت صلاته، لكن الأحوط إعادتها بعد الإتمام،بعد أن ذكر المصنف أن من رفع رأسه قبل الإمام سهوا وجب عليه العود، أشار هنا إلى أن من لم يعد، أثم غير أن صلاته صحيحة، لأن وجوب المتابعة وجوب تعبدي تكليفي وليس شرطا في صحة الصلاة، كما اختاره الماتن في المسألة السابقة. نعم، مقتضى الاحتياط الاستحبابي أن يتم صلاته مع الجماعة، ثم يعيده من جديد، في صورة عدم العود إلى الركوع أو السجود.
ولعل السر في هذا الاحتياط راجع إلى مراعاة من قال بأن وجوب المتابعة شرط في صحة الصلاة، والخروج عن الجماعة لا يجوز، فمن أخل بالمتابعة أخل بصحة الجماعة دون صحة أصل الصلاة، إذا لم يخل بوظيفة المنفرد، ولكن إذا أخل بها فتبطل صلاته، كما تبطل جماعته. أو سبب هذا الاحتياط موافقة من رأى أن بطلان الجماعة يؤدي إلى بطلان أصل الصلاة.
قال الماتن : بل لا يترك الاحتياط إذا رفع رأسه قبل الذكر الواجب ولم يتابع مع الفرصة لها، أشار هنا إلى أن المأموم إذا رفع رأسه قبل الذكر الواجب في الركوع، ثم لم يعد إليه مع أنه كان بإمكانه ذلك، فعليه أن لا يترك الاحتياط المذكور، وهو أن يتم صلاته مع الجماعة، ثم يعيدها.
إلا أنه لا وجه لهذا الاحتياط، وذلك إن هذا الكلام إنما يتم إذا جعلنا الذكر الواجب في الركوع مستقلاً عنه، ففي هذه الصورة، حينما يرفع رأسه قبل الذكر الواجب، فترك الشيئين. لكن إذا جعلنا الذكر الواجب من واجبات الركوع، فتداركه بالعود إلى الركوع شيء غير ميسور؛ وذلك أن ما فات منه هو كان الذكر الواجب في ضمن الركوع الأول، وما يأتي به بالعود إلى الركوع ذكر واجب ضمن الركوع الثاني، فما جاء به ليس ما فات منه.
قال الماتن : ولو ترك المتابعة حينئذٍ سهواً، أو لزعم عدم الفرصة لا يجب الإعادة، وإن كان الرفع قبل الذكر هذا، في هذا الفرع أشار السيد اليزدي إلى أن من رفع رأسه قبل الإمام ثم لم يعد سهوا أو زاعما أنه لا يدرك الركوع؛ لأن الإمام سيرفع رأسه قبل أن يعود، ففي هذه الصورة لم يجب عليه الإعادة، وإن رفع رأسه قبل الذكر الواجب.
قال الماتن : ولو رفع رأسه عامداً لم يجز له المتابعة، وإن تابع عمداً بطلت صلاته للزيادة العمديّة، ولو تابع سهواً فكذلك.إذا كان ركوعاً أو في كلّ من السجدتين، وأمّا في السجدة الواحدة فلا.
بعد أن تعرض لحكم من رفع رأسه قبل الإمام سهواً أو زاعما أن الإمام رفع رأسه، أشار هنا إلى من رفع رأسه عامداً، فلا يجوز له العود، سهوا كان أو عمدا؛ لأن ذلك يؤدي إلى زيادة الركن، إذا كان العود إلى الركوع، أو إلى السجدتين، وزيادة الركن لا يجوز سهواً كان أو عمدا، بل إنها تغتفر إذا كانت لأجل متابعة الإمام، وهنا ليس كذلك لأنه رفع رأسه عامداً.
والدليل على عدم جواز العود في صورة العمد، ما مر بنا رواية غياث بن إبراهيم، حيث حملها الشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه على صورة العمد، واختاره السيد الخوئي رحمه الله تعالى، كما مر بنا آنفا، غير أننا ناقشناه بما هو مقنع. ومما استدل على عدم جواز العود الروايات التي دلت على جواز العود، كصحيحة علي بن يقطين وغيرها، فقيل إن هذه الروايات منصرفة إلى صورة السهو والخطأ، ومن هنا فإذا لم تشمل الروايات التي تدل على جواز العود صورة العمد، فالمرجع هو الاطلاقات في المقام، من أن زيادة الركن مبطلة للصلاة. وإذا وصل الأمر إلى الشك في شمول هذه الروايات للعامد وغيره، فلا يصح الاستدلال بها على جواز العود في صورة العمد، لأن القدر المتيقن في المقام هو جواز العود إذا كان الرفع عن الخطأ والسهو.


[1] موسوعة الإمام الخوئي، ج17، ص236.
[2]بقره/سوره2، آیه187.
[3]جمعه/سوره62، آیه10.
[4]العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص157، ط ج.