الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/08/07

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أحكام الجماعة
تتمة المسألة التاسعة ( إذا رفع رأسه من الركوع أو السجود قبل الإمام سهواً، أو لزعم رفع الإمام رأسه، وجب عليه العود والمتابعة[1])
وقفنا في الدرس الماضي عند أربع روايات التي دلت على وجوب العود المأموم إلى الركوع أو السجود إذا رفع رأسه قبل الإمام، وكانت الاثنتان منها صحيحتين، والواحدة موثقة، والأخيرة ضعيفة، وعرفنا أن هذه الروايات كانت ظاهرة في وجوب العود إلى الركوع أو السجود إذا رفع رأسه قبل الإمام، مع الانتباه أنها كانت مطلقة من حيث رفع الرأس عمداً أو خطأً، فيجب على المأموم أن يعود إلى ركوعه أو سجوده إذا رفع رأسه قبل الإمام.
في مقابل هذه الروايات موثقة غياث بن إبراهيم التي تمنع من العود إلى الركوع أو السجود في صورة رفع المأموم رأسه قبل الإمام، حيث جاء فيها " بِإِسْنَادِ الشيخ في " التهذيب " و" الاستبصار " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ غِيَاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ( سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ الْإِمَامِ أَ يَعُودُ فَيَرْكَعُ إِذَا أَبْطَأَ الْإِمَامُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ مَعَهُ قَالَ : لَا ).[2]
سند الرواية : رواة سند من أحمد بن محمد بن عيسى إلى عبد الله بن المغيرة كلهم من الأجلاء والثقات، وإنما الكلام في غياث بن إبراهيم، فالكشي رضوان الله تعالى عليه حينما يذكر من روى عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، ذكر أن غياث بن إبراهيم بتري، ولكن حينما يذكر من روى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام والإمام الكاظم عليه السلام، قال : الأسيدي التميمي أسند عنه، أي : عن الإمام الصادق عليه السلام، وروى عن أبي الحسن عليه السلام. وفعل الشيخ الطوسي كذلك في كتابه " الفهرست "، حيث لم يصرح بأنه بتري، والنجاشي رضوان الله تعالى عليه : قال في شأنه : " غياث بن إبراهيم التميمي الأسيدي بصري سكن الكوفة ثقة روى عن أبي عبدالله و أبي الحسن عليهما السلام. "[3] من الملاحظ أنه لم يشر إلى أنه كان بترياً.
من هنا نقول – أولاً – إن غياث بن إبراهيم لم نطمئن بكونه بترياً، و ما ورد في موضع واحد من كتاب الكشي لعله يكون خطأ من النساخ والكتّاب، و – ثانياً – لو سلمنا أنه كان بترياً، فهذا لا يضر بوثاقته، كما هو ثابت في علم الرجال عندنا، و النجاشي عليه الرحمة وثقه في كتابه، والمحصل أن الرواية حجة؛ فأنها إما صحيحة أو موثقة.
ومن هنا يحصل التعارض بين هذه الرواية التي تدل على المنع من العود إلى الركوع أو السجود، وبين الروايات السابقة التي دلت على جواز العود إلى الركوع أو السجود، فما الحل؟
كيف يمكن الجمع بين صحيحة أو موثقة غياث بن إبراهيم وبين موثقة غياث بن إبراهيم التي تدل على منع العود، وبين الروايات التي دلت على وجوبه؟
هناك محاولات من الفقهاء للجمع بين هاتين الطائفتين، ومن تلك المحاولات ما اختاره بعض فقهاءنا العظام من أن الروايات التي دلت على وجوب العود إنما هي ناظرة إلى رفع المأموم رأسه قبل الإمام سهواً، أو زاعماً أنه رفع رأسه، والحال أنه لم يرفع، وأما صحيحة أو موثقة غياث بن إبراهيم فهي ناظرة إلى أن المأموم إذا رفع رأسه قبل الإمام عمداً ومن دون عذر، فهنا لا يجوز له العود، وهذا ما ذكره الشيخ الطوسي في " التهذيب " و العلامة في " التذكرة " و " المنتهى" وغيرهما من الفقهاء العظام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
إلا أن بعض المتأخرين من الفقهاء العظام ناقش هذا الجمع، حيث قالوا إن هذا الجمع لا دليل عليه، وهو جمع تبرعي؛ وذلك أن لسان الروايات في كلا الطائفتين مطلق بالنسبة الى العامد والساهي، فالنسبة بينهما نسبة التباين، لتعلق النهي فيها بنفس ما تعلق به الأمر.
وذكر البعض أن الروايات الدالة على الجواز تقدم على رواية غياث بن إبراهيم، بدليل أن الأصحاب أعرضوا عن هذه الرواية، إلا أن هذا الكلام ليس تاماً؛ وذلك أنهم لم يعرضوا عنها، وذلك أن الإعراض إنما يكون إذا ترك الإصحاب رواية ولم يعملوا بها أصلاً، وفي المقام هذا الأمر غير متحقق؛ لأنهم لم يتركوها، بل فهموا منها غير ما نفهمه، حيث حملوها على صورة العمد. كما فعل ذلك الشيخ الطوسي وغيره من الفقهاء العظام رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
كما يحتمل ان ترجيحهم للروايات الدالة على الجواز بالمعنى الاعم، كان لتعددها في قبال ما رواه غياث بن إبراهيم الذي يدل على المنع، لأخذهم بمبنى من يرى تقديم أكثر رواية على الأقل رواية. إلا أن الكثير من الفقهاء لا يأخذون بهذا القول ويرون أنه إذا ثبتت حجية الرواية فلا فرق بين أن تكون أقل رواية أو أكثرها، بل الحجية في كلا الموردين تامة، فالتعارض بينهما محقق لا محالة.
وبعضهم حملوا روايات الآمرة بالعود على الاستحباب، ورواية غياث بن إبراهيم على الترخيص للترك الموجبة للتنازل عن ظاهر روايات الامرة في الوجوب الى الكراهة.
إلا أن السيد الخوئي رحمه الله تعالى رفض هذا الجمع؛ فقال: انّ الحمل على الاستحباب إنّما يتّجه فيما إذا كان الدليل الآخر المقابل للوجوب صالحاً للقرينية، بحيث لو جمعا في كلام واحد و أُلقيا على العرف لم يرَ العرف تنافياً بين الصدر و الذيل، و لم يبق متحيّراً، بل يجعل أحدهما قرينة على التصرّف في الآخر و كاشفاً عن المراد منه، كما في مثل قوله: افعل، و قوله: لا بأس بتركه، إذ يرى العرف أنّ الترخيص في الترك قرينة على إرادة الاستحباب من الأمر.[4] و ليس المقام من هذا القبيل بالضرورة، فإنّ أحد الدليلين متضمّن للأمر و الآخر للنهي، و بينهما كمال المنافاة، فلو جمعا في كلام واحد و قيل: «يعيد بركوعه» كما في صحيحة ابن يقطين و «لا يعود» كما في الموثّقة بقي أهل العرف متحيّرين، و رأوا تناقضاً في الكلام)فذهب إلى ما اختاره الشيخ الطوسي رحمه الله فقال: ما ملخصه: (المتعيّن إنّما هو الجمع الثاني الذي ذكره الشيخ، و ليس هو من الجمع التبرّعي في شي‌ء.
و توضيحه: أنّ النسبة بين الدليلين و إن كان هو التباين، حيث إنّ كلا منهما مطلق من حيث العمد و السهو، و قد تعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر كما عرفت، لكن فرض السهو و ما يلحق به من اعتقاد الرفع خارج عن إطلاق موثّقة غياث جزماً، للقطع الخارجي بجواز العود حينئذ، و قد تسالم عليه الفقهاء، و من هنا اختلفوا في وجوبه أو استحبابه، الكاشف عن المفروغية عن الجواز و المشروعية من غير نكير. و على الجملة: فالقطع الخارجي يوجب التخصيص في عموم موثّقة غياث، فيختص موردها بصورة العمد لا محالة
وعليه فتنقلب النسبة بين الموثّقة و بين الروايات المتقدّمة الآمرة بالعود من التباين إلى العموم و الخصوص المطلق، فتخصّص موثّقة غياث تلك النصوص و توجب حملها على ما عدا صورة العمد).و نتيجة ذلك اختصاص الموثّقة بصورة العمد، و تلك النصوص بغير العمد من السهو أو الاعتقاد كما ذكره الشيخ (قدس سره)، و بذلك يرتفع التنافي بين الطائفتين و يختصّ الوجوب بغير العمد كما عليه المشهور.[5]
ويظهر أثر هذا الخلاف في هذه المسألة، فمن رفع رأسه قبل الإمام سهواً أو زاعما أن الإمام رفع رأسه، فيجب عليه العود إلى الركوع أو السجود، فإذا لم يعد إليهما، كان آثما وصلاته صحيحة مع الجماعة عند من رأى أن وجوب المتابعة وجوب تعبدي تكليفي، كما ذهب إليه المشهور واختاره السيد اليزدي ره و اما على مبنى من يرى أن وجوب المتابعة وجوب شرطي وضعي كما اختاره السيد الخوئي وغيره من الاعلام، فمن أخل بهذا الوجوب بطلت صلاته مع الجماعة، ثم إذا أتى بوظيفة المنفرد فصلاته صحيحة على الانفراد، وإذا لم يأت بها بطلت صلاته ايضاً. ثم ان السيد الخوئي ذكر موثقة ابن فضال مؤيدا لرأيه من اختصاص الروايات الامرة بالعود الى الركوع والسجود للساهي و الزاعم بقيام الامام فقام ثم وجد الامام لازال فالركوع او السجدة واليك نص الموثقة: ( فِي الرَّجُلِ كَانَ خَلْفَ إِمَامٍ يَأْتَمُّ بِهِ فَيَرْكَعُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَ هُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ رَكَعَ فَلَمَّا رَآهُ لَمْ يَرْكَعْ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَعَادَ رُكُوعَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَ يُفْسِدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ أَمْ تَجُوزُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ فَكَتَبَ ع تَتِمُّ صَلَاتُهُ وَلَا تَفْسُدُ بِمَا صَنَعَ صَلَاتُهُ ).[6]
ووجه الاستدلال قوله: وهو یظن ان الامام قد رکع- اذ قد تضمنت صریحا جواز العود فی مورد الظن والاعتقاد بالخصوص فخنم کلامه بقوله : و على الجملة: فالقطع الخارجي المؤيّد بهذه الموثّقة يوجب التخصيص في عموم موثّقة غياث، فيختص موردها بصورة العمد لا محالة "[7]
المحصل أن السيد الخوئي رحمه الله اختار في المقام ما ذهب إليه الشيخ الطوسي رحمه الله، غير أن لنا كلاما فيما أفاده هنا يأتي في الدروس القادمة.


[1]العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص157، ط ج.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص391، أبواب صلاة الجماعة، باب 48، ح6، ط آل البيت.
[3] رجال النجاشي، ص305.
[4]المستند في شرح العروة الوثقى، السيد أبوالقاسم الخوئي - الشيخ مرتضى البروجردي، ج7، ص236.
[5] موسوعة الإمام الخوئي، ج17، ص237.-238.
[6] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص391، أبواب صلاة الجماعة، باب48، ح4، ط آل البيت.
[7] موسوعة الإمام الخوئي، ج17، ص237.