الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/07/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
المسألة الثامنة
قال السيد اليزدي رحمه الله : وجوب المتابعة تعبّديّ، وليس شرطاً في الصحّة، فلو تقدّم أو تأخّر فاحشاً عمداً أثم، ولكن صلاته صحيحة، وإن كان الأحوط الإتمام والإعادة، خصوصاً إذا كان التخلّف في ركنين، بل في ركن، نعم لو تقدّم أو تأخّر على وجه تذهب به هيئة الجماعة بطلت جماعته.[1]
تعرض في هذه المسألة إلى أن وجوب المتابعة تعبدي، وليس الشرط في صحة صلاة الجماعة، والمراد من ذلك أن وجوب المتابعة وجوب تكليفي، وليس وضعياً، أي : ليس شرطاً في صحة الصلاة، ومن ثم فمن لم يتابع الإمام في أفعاله من حيث التقدم أو التأخر الفاحش، فقد أثم، لكن صلاته صحيحة، لأن وجوب المتابعة حكم تكليفي حسب ما راه الماتن في المقام، و" فاحشاً " في قوله : ( فلو تقدم أو تأخر فاحشاً ) راجع إلى التأخر، فهو نعت لمفعول مطلق محذوف، لأن الأصل : تأخر تأخراً فاحشاً، وذلك أن رجوعه إلى التقدم غير صحيح، لأنه لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام في أفعاله، فاحشاً كان أو غير فاحش، نعم يجوز له أن يتأخر عن الإمام قليلاً بل قد أوجب ذلك بعض الفقهاء، من هنا نعرف أن قيد الفاحش إنما يعود إلى التأخر.
وقوله : ( وإن كان الأحوط الإتمام والإعادة، خصوصاً إذا كان التخلف في ركنين، بل في ركن )، إشارة إلى أن من تقدم على الإمام، أو تأخر تأخرا فاحشاً لا تبطل صلاته، لكن مقتضى الاحتياط الاستحبابي أن يتم الصلاة مع الإمام، ثم يعيدها، لا سيما إذا كان عدم المتابعة في ركنين، بل ركن واحد.
وقوله : ( نعم لو تقدم أو تأخر على وجه تذهب به هيئة الجماعة بطلت جماعته )، إشارة إلى أن المأموم إذا لم يتابع الإمام على وجه خرج به من هيئة الجماعة، كما إذا كان الإمام في التشهد، والمأموم ما زال قائما، فهنا تبطل صلاته قطعاً، لا لعدم المتابعة، بل لأنه خرج من هيئة الجماعة، ولا يقال له إنه مقتدٍ بالإمام.
الأقوال في المسألة
بعد الوقوف عند ما ذكره في المتن، نود أن نشير إلى آراء الفقهاء العظام في المسألة، حيث اختلفت أراءهم إلى أربعة أٌقوال.
القول الأول، وهو ما ذكره السيد اليزدي رحمه الله من أن وجوب المتابعة حكم تكليفي، فمن خالفه وأخل بالمتابعة، فهو آثم، ولكن لا يضر بصلاته ولا بجماعته شيئاً، وهذا ما اختاره مشهور الفقهاء.
القول الثاني : إن وجوب المتابعة شرط وضعي، يعني : إذا أخل المأموم بهذا الشرط تبطل صلاته، وهذا ما فهم من كلام الشيخ الطوسي رحمه الله حيث قال : " من فارق الإمام لغير عذر بطلت صلاته، وإن فارقه لعذر، وتمم صلاته، صحت صلاته، ولا يجب عليه إعادتها."[2]، فقالوا فقالوا أن مراد الشيخ من قوله : ( من فارق الإمام لغير عذر) أن من فارقه في المتابعة، فتقدم عليه، أو تأخر عنه، تبطل صلاته، فالحكم ببطلان الصلاة يكشف عن أن وجوب المتابعة حكم وضعي وشرط لصحة الصلاة عند الشيخ الطوسي. وكما نسب هذا القول إلى ابن ادريس الحلي، والشيخ الصدوق رحمهما الله تعالى، قال الشهيد الأول : " قال ابن بابويه : إنّ من المأمومين مَنْ لا صلاة له، وهو الذي يسبق الإمام في ركوعه وسجوده ورفعه."[3]فقول الصدوق – لا صلاة له نفي لحقيقة الصلاة فيفيد البطلان و هذا يدل على أن المتابعة شرط لصحة الصلاة، و ليس وجوبا تعبدياً.
إلا أن للشيخ الطوسي رحمه الله كلاما في المبسوط نفسه، وفي النهاية، يفهم منه أنه لا يرى البطلان في المقام، حيث قال : " وإن فعل ذلك متعمدا ( يعني رفع رأسه من الركوع قبل الإمام) لم يجز له العود إليه أصلا بل يقف حتى يلحقه الإمام."[4] فهذا الكلام يدل على أن الشيخ الطوسي لا يرى بطلان الصلاة لمن تقدم على الإمام، لأنه قال : ( وإن فعل ذلك متعمدا لم يجز له العود إليه أصلا، بل يقف حتى يلحقه الإمام)، فلو كان يرى بطلان الصلاة، لم يقل : على المأموم أن ينتظر الإمام حتى يلحقه، ثم يسجد مع الإمام، بل كان يحكم ببطلان صلاته. فيظهر من ذلک أن المراد من قوله : ( من فارق الإمام لغير عذر ) أن من ترك الجماعة لغير عذر بطلت صلاته. ولذلك لا منافاة بين قولي الشيخ، وذلك أنه حكم ببطلان الصلاة لمن انفصل عن الجماعة لغير عذر في القول الأول، وحكم بعدم بطلان الصلاة لمن تقدم علی الإمام في القول الثاني، وهذا يكشف عن أن وجوب المتابعة تعبدي عنده، وليس شرطا في صحة الصلاة. و قال صاحب المستمسك أنه لم يرد الخلاف في المسألة لا من القدماء ولا من المتأخرين، إلا ما نسب إلى الشيخ الطوسي، والشيخ الصدوق، وابن ادريس رضوان الله تعالى عليهم، ومن هنا فيمكن أن يقال إن وجوب المتابعة حکم تكليفي، ولا خلاف فیه بين الفقهاء.
وهنا أود أن ألفت الانتباه إلى العادة التي يقوم بها - العوام من الخواص او الخواص من العوام- من أنهم عند ما لا یُدرکون صلاة الظهر فیقتدون صلاة ظهرهم بعصر الإمام وفي الركعة الثانية ينفصلون عن الامام بعد القنوت، ويكملون صلاتهم فرادى، ثم يلحقون بالإمام في ركوع الركعة الثالثة، فيصلون العصر أيضاً معه جماعة، ويزعمون أنهم كسبوا ثواب الصلاتين مع الجماعة، غير أن هذا العمل لا ينبغي أن يقوم به أحد، وذلك أن الانفصال عن الجماعة لغير عذر مبطل عند بعض الفقهاء، وإذا لم نقل ببطلان الصلاة، كما ذهب إليه المشهور، فعلى الأقل هذا العمل مرجوح على كل حال.
القول الثالث : إن وجوب المتابعة شرط في صحة الجماعة، لا في صحة أصل الصلاة، يعني أن من تقدم على الإمام، أو تأخر فاحشا، تبطل جماعته، فعليه أن يلتزم بما يلتزم به المنفرد و لا إثم عليه وهذا ما اختاره السيد الخوئي رحمه الله تعالى.
القول الرابع : إن من أخل بالمتابعة، في جزء من اجزاء صلاته فصلاته وجماعته صحيحة غير ان ائتمامه يبطل في خصوص الجزء الذي أخل فيه بالمتابعة وبعبارة أخرى أن من تقدم على الإمام أو تأخر عنه، في الركوع مثلا، فصلاته صحيحة مع الجماعة، غير أنه لم يتحقق الائتمام له في الركوع، ولكن إن بقي في الجزء الذي خالف الامام على نية الجماعة فهو آثم بتشريعه إذ أن الشارع لم يجعله جماعة. هذا ما ذهب إليه المحقق الهمداني رضوان الله عليه.
أما أدلة الأقوال الأربعة:
فدليل القول الأول : مستند القول المشهور في المقام أن الإمامة من الأمور الاعتبارية، فحينما ينوي المصلي أن يصلي مع الجماعة، يعتبر الإمام إماما له، و يعتبر نفسه مأموماً، ومعنى هذا الاعتبار، أن يتعهد مع نفسه أن يأتم به، ويقلده فيما يفعل، فلا يتقدم عليه، ولا يتأخر. و الشارع قد أمضى هذا الاعتبار والتعهد النفسي، فعلى ذلك إذا تقدّم على الإمام، أو تأخر عنه، خالف اعتباره النفسي، وخالف اعتبار الشارع في ذلك أيضاً، ونرى نظير ذلك في أبواب الفقه المختلفة، كالبيع والنكاح، والوكالة، والإجارة، وإلى غير ما هنالك. ففي البيع البائع ينقل المثمن في عالم الاعتبار إلى ملك المشتري في مقابل ما يملكه المشتري في عالم الاعتبار فيعتبر البائع المثمن ملكا للمشتري كما يعتبر المشتري الثمن ملكا للبائع المشتري والشارع المقدس قد أمضى هذا الاعتبار فأوجب على المتبايعين الوفاء بالبيع فقال ﴿ أحل الله البيع [5] وأيضا قال ﴿ أوفوا بالعقود[6] فبعد إبرام العقد لا يجوز لأحدهما أن يخالف هذا الاعتبار والتعهد النفسي والالتزام الذي تحقق بينهما. ومثل البيع سائر العقود والايقاعات وحتى النذر والعهد مع الله.
ثم ان لم نقتنع بذلك ونشك في حكم صلاة من تقدم على الأمام أو تأخر فشككنا في صحتها فيمكن إجراء الاستصحاب في الصغرى بأن نقول إن المصلي مع جماعة قبل ان يخالف في متابعة الامام كانت صلاته مع جماعة، فبعد الشك يتمسك بالاستصحاب لبقاء صحة الجماعة والصلاة. كما يمكن لنا أن نتمسك في الكبرى بأصالة البراءة، وذلك أنه نشك في شرطية المتابعة لصحة الصلاة، كحكم كلي إلهي أو فقل كقضية حقيقية لا الخارجية فالأصل عدم شرطيتها.
ومضافا إلى كل ما تقدم، تدل على صحة الصلاة ما رواه في الوسائل بقوله : مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ ع قَالَ: ( سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي مَعَ إِمَامٍ يَقْتَدِي بِهِ فَرَكَعَ الْإِمَامُ وَسَهَا الرَّجُلُ وَهُوَ خَلْفَهُ فَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ وَانْحَطَّ لِلسُّجُودِ أَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَلْحَقُ بِالْإِمَامِ وَالْقَوْمُ فِي سُجُودِهِمْ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ قَالَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَنْحَطُّ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مَعَهُمْ وَلَا شَيْ‏ءَ عَلَيْهِ)[7]
أما السند فأحمد بن محمد بن عيسى القمي الأشعري وثقه الكشي، وحسن بن محبوب من الأجلاء المحدثين وأما عبد الرحمن فهو مشترك بين عدة أشخاص، فيهم الثقات الأجلاء، كعبد الرحمن ابن ابي نجران وابن ابي هاشم وابن الحجاج الذين لا شك في وثاقتهم، وبين من لم يرد له توثيق، وقد ورد في بعضهم القدح، فلا يمكن الاعتماد على السند، وأشخاص آخرين لا ينطبق طبقتهم للرواية عن أبي الحسن عليه السلام، ولكن على كل حال النتيجة تابعة لأخس المقدمتين فلا يعتمد على سند الحديث.
أما الدلالة فهو يسأل الإمام أبي الحسن عليه السلام عن الرجل تخلف عن الإمام، حتى ركع الإمام، وقام من ركوعه وانحط إلى السجدة، وهو لازال قائما ساهيا، فانتبه فسأل ما ذا يصنع، فأجاب الإمام أنه يركع، ثم ينحط إلى السجود، ويتم صلاته مع الجماعة، ولا شيء عليه"، فالإمام حكم بصحة صلاته فلو كان وجوب المتابعة شرط في صحة الصلاة، لما أمر الإمام بإتمام الصلاة، ولما قال : ولا شيء عليه، بل أمره بأن يعيد الصلاة، وذلك أننا إذا جعلنا وجوب المتابعة شرطا في صحة الصلاة، فتنتفي الصلاة بانتفاء الشرط، سهوا كان أو عمداً، إلا إذا دل دليل أن شيئا معينا شرط في الصحة مع الالتفات والتوجه إليه، وهذا كمثل القراءة في الصلاة، فهي شرط في صحة الصلاة، لكنها شرط مع الالتفات والانتباه إليها.
المتحصل أن وجوب المتابعة لو كان شرطا في صحة الصلاة لما أمر الإمام عليه السلام بإتمام الصلاة مع الجماعة، ولأمر بإعادة الصلاة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن وجوب المتابعة ليس شرطا في صحة الصلاة، بل هو حكم تكليفي يأثم من تعمد في مخالفته. ولكن صلاته صحيحة. ولكن يمكن المناقشة في دلالة الرواية بان موردها هو ترك المتابعة سهوا فلا تثبت صحة الصلاة لمن تعمد في ترك المتابعة.


[1] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص156، ط ج.
[2]المبسوط، الشيخ الطوسي، ج1، ص157.
[3]الذكرى، الشهيد الأول، ج4، ص475 مع الالتفات أنه لم يعثر على هذا الكلام في كتب الشيخ الصدوق رحمه الله، بل نقله عنه الشهيد الأول في كتابه الذكرى.
[4]المبسوط، الشيخ الطوسي،ج1، ص159.
[5]بقره/سوره2، آیه275.
[6]مائده/سوره5، آیه1.
[7]وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج8، ص413، أبواب صلاة الجماعة، باب64، ح1، ط آل البيت.