الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/07/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
تتمة مسألة السابعة


تحدثنا في اليوم الماضي عن وجوب عدم تقدم المأموم على الإمام في الأفعال، وأشرنا إلى أن ما استدل على الوجوب بالحديث النبوي التي رويت في كنز العمال، غير تام؛ وذلك لضعف السند، وهو غير منجبر بعمل الأصحاب، لأنه– ولو سلمنا انجبار ضعف السند بالشهرة الفتوائية- لم يثبت هنا له صغرى إذ ليس من المسلم أن فتوى الأصحاب بعدم جواز تقدم المأموم على الإمام كان مستندا إلى هذه النبوية، إذ هناك أدلة أخرى للاستناد، ثم أشرنا إلى أن الأصح في المقام أن يستدل، أولاً – بأن عنوان الائتمام لا يصدق إلا بعدم تقدم المأموم على الإمام، ثانياً – ثمة روايات صحاح في المقام تدل على عدم جواز تقدم المأموم على الإمام.
وبعد أن ثبت عدم جواز التقدم، نودّ أن نشير إلى أنه ما المراد من المتابعة الواجبة على المأموم للإمام، هل المراد منه ما هو اعم من مقارنة فعل المأموم مع فعل الإمام، أو المراد خصوص تأخر فعل المأموم عنه قليلاً؟ وهنا اختلفت آراء الفقهاء، فمنهم من يقول بوجوب تأخر فعل المأموم عن الإمام قليلاً، وأنه لا يجوز أن يقترن فعله مع فعل الإمام، وقد ذهب إلى هذا القول جمع من الفقهاء منهم صاحب المدارك وصاحب الذخيرة وغيرهما من الفقهاء العظام، ودليلهم على ذلك قوله عليه السلام في النبوي: ( إذا كبر فكبروا .....الخ )؛ وذلك أن حرف الفاء في قوله ( فكبروا ) يدل على تأخر تكبير المأموم عن تكبير الإمام، لأنها للتفريع، والمتفرع متأخر عن المتفرع عليه، ومن هنا فالرواية دالة على وجوب تأخر فعل المأموم عن فعل الإمام.
غير أن هذا الكلام فيه نظر؛ لأن التأخر ليس منحصرا في أن يكون زمانيا، بل يمكن أن يكون رتبيا، وهذا كما درسنا في تأخر المعلول عن العلة، حيث لاحظنا أن المعلول تارة يكون متأخر عن العلة في الزمان، وأخرى يكون في الرتبة، وهذا نحو تحرك المفتاح مع تحرك اليد، فتحرك المفتاح معلول لتحرك اليد، ولكن كلاهما يتحركان في وقت واحد، فهنا يكون تأخر حركة المفتاح عن تأخر حركة اليد في الرتبة، وما نحن فيه كذلك، حيث يجب تقدم أفعال الإمام على أفعال المأموم، زمانا كان أو رتبة، ومن هنا فيجوز للمأموم المقارنة.
ولا يقال أن التأخر الرتبي من المفاهيم الفلسفية التي لا يلتفت إليه الفهم العرفي، ويكون بعيداً جدا عن ظاهر الحديث، ومن هنا فما ذهب إليه القائلون بوجوب التأخر الزماني صحيح، كما ذكره السيد الخوئي رحمه الله، وإليك نص كلامه : " لزوم التأخّر هو ظاهر النبوي المتقدّم، فإنّ قوله (صلى اللَّه عليه و آله): «إذا كبّر فكبّروا ...» إلخ ظاهر بمقتضى التفريع وتعليق الجزاء على الشرط في أنّ وجوب التكبير على المأموم متفرّع على تكبير الإمام وتحقّقه خارجاً، وهكذا الحال في الركوع والسجود إلى نهاية الأفعال. فهي متأخّرة عنه زماناً لا محالة، رعاية للترتيب الزماني المستفاد من التعليق المزبور بمقتضى الفهم العرفي، وحمله على التأخّر الرتبي والترتّب بالعلّية المجامع مع التقارن الزماني بأن تكون إرادة المأموم معلولًا لإرادة الإمام وإن اقترن الفعلان زماناً خلاف الظاهر جدّاً، بعيد عن سياق الرواية عرفاً كما لا يخفى."[1]
إلا أن ما استفاده في المقام ليس تاماً، وذلك أن الفاء في النبوية للتفريع، وأن تأخر المعلول عن العلة من حيث الرتبة، ليس بعيد عن الفهم العرفي، والدليل على ذلك قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [2] فالاستماع متفرع على القراءة، و متأخر عنها، غير أن هذا التأخر ليس من حيث الزمان، بل إنما هو من حيث الرتبة؛ لأن الاستماع لا يكون إلا مقارنا للقراءة، فيتحقق كل من القراءة والاستماع في وقت واحد، فلا تقدم للقراءة على الاستماع من حيث الزمان، بل من حيث الرتبة.
لا يقال : إنما يكون الاستماع مقارنا للقراءة؛ لأن القراءة أمر متصرم الوجود، ومعلوم أن ما يكون متصرم الوجود، ينعدم بمجرد وجدانه، لأن الشيء المتصرم وجوده لا يأتي منه جزء إلا و ينعدم الجزء السابق، والقراءة كذلك، لا يأتي منها لفظ إلا وينعدم السابق منها فلا يمكن الاستماع إلا مقارناً وهذا قرينة متصلة لمعنى –الفاء- في الآية.
لأنه يقال إن هذا الاستعمال كاشف عن سعة معنى الفاء في التفريع وأن التفريع أعم من أن يكون المتفرع مقارنا للمتفرع عليه، أو متأخرا عنه زمانا، ففي كلا الموردين يصدق أن الفاء للتفريع. مضافا إلى ذلك، أننا نلاحظ أن العرف كثيراً ما يستخدم الفاء للتفريع، وإنّما يكون المتفرع متأخرا عن المتفرع عليه رتبة لا زماناً، وهذا مثل قولهم : كسرت الكوز فانكسر، والكسر والانكسار متلازمان بل متحدان في الوجود متفرقان في الاعتبار، فنعبر عن هذا الفعل بالانكسار نظرا إلى القابل والمطاوع هو الكوز في المقام، و نعبر عنه بالكسر نظراً إلى صدوره من الفاعل، ومنها قولهم : أحرقت الورقة فاحترقت، وقد تمّ الإحراق والاحتراق، في زمان واحد، لأن الاحتراق مقارن للإحراق مع أنه متفرع عليه، ومتأخر عنه رتبة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العرف يستخدم الفاء للتفريع، واستخدامها للتفريع أعم عندهم من أن يكون المتفرع متأخرا عن المتفرع عليه زماناً، أو رتبةً، فتخصيص التفريع بما يتأخر المتفرع عن المتفرع عليه لا وجه له.
المتحصل مما ذكر أن النبوي لا يدل على وجوب تأخر أفعال المأموم عن أفعال الإمام، إلا أن المشكلة في ضعف سند الحديث، فلا يصح الاستناد إليه لاستفادة الحكم الشرعي.
ثم إن السيد الخوئي رحمه الله تعالى أشار إلى أمر آخر، وهو أن المشهور لم يعملوا بهذا الحديث ولم يستندوا إلى النبوي الذي روي في كنز العمال، حتى يكون عملهم جابرا لضعف السند على القول به، والدليل على ذلك أنهم أفتوا بجواز مقارنة أفعال المأموم لأفعال الإمام، و الحال أن النبوي يدل على وجوب تأخر أفعال المأموم عن أفعال الإمام، فهذا دليل على أنهم لم يستندوا إليها، وإليك نص ما قاله في المقام : " و الانجبار على تقدير تسليمه كبرىً لا صغرى له في المقام قطعاً، كيف وقد ذهب المشهور إلى جواز المقارنة، بل ادّعي الإجماع عليه كما مرّ." فنلاحظ أنه أكد على أن عمل المشهور لم يستند إلى النبوي المذكور، لأنهم أفتوا على جواز المقارنة، والحال أن النبوي يدل على وجوب التأخر.
إلا أن ما قاله ليس تاماً، وذلك أن فتوى المشهور بجواز المقارنة لا تدل على أنهم لم يستندوا إلى النبوي، وذلك أنه يمكن أن يقال : إنهم عملوا وفق النبوي، إلا أنهم لم يستفيدوا منها الدلالة على وجوب التأخر، بل فهموا منها جواز المقارنة، وذلك أننا قلنا إن الفاء في قوله عليه السلام (وإذا كبر فكبروا ) للتفريع، وأشرنا إلى أن التفريع أعم من أن يكون المتفرع مقارنا للمتفرع عنه زمانا، أو متأخراً عنه، فمن المحتمل أن فتوى المشهور بجواز المقارنة راجعة إلى أنهم استفادوا بأن تكبير المأموم وسائر أفعاله من الركوع والسجود وإلى غيرهما متفرعة على أفعال الإمام، لكن ليس من حيث الزمان، بل من حيث الرتبة، ومن هنا قد تحقق عملهم بالنبوي فانجبر ضعف سنده فاذا تمت حجيته فلكل فقيه أن يستند إليه فيما يفهم منه فمن يقول بوجوب التأخر يستند هذا الحكم الى النبوي ولو خالف المشهور في هذه الفتوى، فتأمل جيداً تجد سر المناقشة.
دليل آخر على وجوب التأخر.
من الأدلة التي استدل بها القائلون بوجوب التأخر أصالة الاشتغال، وتقريره : أن صلاة الجماعة تختص بأحكام معينة، منها أنه لا تجب القراءة على المأموم، ومنها أن المأموم إذا شك في الصلاة في ركعات الصلاة يبني على ما بنى عليه الإمام وبالعكس، ومنها أن المأموم المسبوق يتجافى عند تشهد الإمام في الثانية وهو في الأولى، وكل هذه الأحكام لا تجوز في صلاة المنفرد، ومن هنا إذا احتمل المأموم اشتراط تأخر أفعاله عن أفعال الإمام في صحة جماعته ولم يراعى التأخر فلا يتيقن ببراءة ذمته، والاشتغال اليقيني يستدعي براءة يقينية، وهي لا تحقق إلا بأن يتأخر المأموم عن الإمام قليلاً.
غير أن الاستدلال لا يمكن مساعدته وذلك أن سبب الشك في الصورة المذكورة إما راجع إلى الشك في تحقق التبعية وصدق عنوان الائتمام، و مثل هذا الشك لا وجه له في المقام، لأنّه ثبت أن عنوان الائتمام أعم من أن يكون أفعال المأموم متأخرة عن أفعال الإمام، أو مقارنة له، كما أنه يصدق عنوان القيادة والائتمام فيما إذا كان المتدربون يقلدون المدرب في الرياضة ويجعلون حركاتهم الرياضية مقارنة لحركات المدرب، و في لحظة واحدة. فلا وجه للشك في تحقق العنوان. أو يكون الشك راجعا إلى أن الشارع هل قيد صحة الاقتداء في صلاة الجماعة بتأخر أفعال المأموم عن الإمام؟ و هذا الشك لو تسلمنا وجوده فليس مجرى لأصالة الاشتغال، بل هو مورد لأصالة البراءة، وذلك أنه حينما يشك أحد في شرطية الشيء أو مانعيته، أو جزئيته، فالأصل عدم الجزئية أو الشرطية أو المانعية، ففي المقام إذا شك المأموم في شرطية التأخر، أو مانعية المقارنة لصحة الصلاة، فالأصل عدم الشرطية التأخر أو المانعية المقارنة. فالبراءة تقتضي جواز المقارنة ايضاً.
فالمتحصلمما ذكرنا أن الشك إما لا وجه له، وإما أن المورد مجرى لأصالة البراءة لا أصالة الاشتغال، لأنه من الشك في شرطية التأخر أو مانعية المقارنة.
إن قيل : إن صلاة الجماعة مستحبة، وأصالة البراءة لا تجري في الأمور المستحبة، بل إنما تختص بالواجبات لأنها جاءت لرفع الكلفة عن العباد والمستحب لا كلفة فيه. قيل : إن هذا القول ليس في محله، وذلك، أولا – أن اختيار صلاة الجماعة اختيار لفرد الأفضل من الواجب، وذلك أنه تجب الصلاة عند وقتها، فالمصلي مختار بين أن يصلي فرادى أو يصلي مع الجماعة، ومن اختار صلاة الانفراد، فعليه أن يلتزم بأحكام الصلاة الفرادى، ومن اختار صلاة الجماعة، فيجب عليه أن يراعي أحكامها، ومن هنا فإن اختيار صلاة الجماعة اختيار لأحد فردي الواجب، فالإتيان بها أداء للفريضة والواجب، ومن هنا حينما يقتدي المأموم خلف الإمام لا ينوي استحباب الصلاة بل ينوي وجوبها.
ثانيا -  أن ما قيل بأن أصالة البراءة لا تجري إلا في الواجبات، ليس بصحيح، وقد أشرنا سابقاً إلى أن أصالة البراءة كما تجري في الواجبات كذلك تجري في المستحبات، وذلك أن الكلفة كما تتواجد في الواجبات، كذلك تتواجد في المستحبات، وأصالة البراءة إنما جاءت لرفع الكلفة، وذلك أنه كما توجد هناك شروط في صحة الواجبات، أو موانع عنها، كذلك توجد في شروط لصحة المستحبات، فكما أن طهارة اللباس مثلا شرط في الصلاة الواجبة، والمستحبة، وكما أن الوضوء شرط في صحة الصلاة الواجبة، والمستحبة، ونجاسة اللباس أو غصبيته مانع عن صحة الصلاة الواجبة والمستحبة ومن هنا فإذا شك أحد في أن الدعاء لأربعين مؤمنا شرط في صحة صلاة الليل، أو جزء منها أو لا، ففي مثل هذا الشك تجري أصالة البراءة، فترفع أصالة البراءة الكلفة عن من يريد الاتيان بصلاة الليل المستحب، ورفع الكلفة منة على العباد، وهذا الرفع كما يتحقق في الواجبات، كذلك يتحقق في المستحبات.
والمتحصلمن جميع ما ذكر أن التمسك بأصالة الاشتغال لإثبات وجوب التأخر ليس في محله؛ لان المقام مجرى لأصالة البراءة.

وقفة أخلاقية
قال الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام : ( قَالَ عَلِيٌّ ع‏ مَا مِنْ‏ يَوْمٍ‏ يَمُرُّ عَلَى‏ ابْنِ آدَمَ إِلَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَنَا يَوْمٌ جَدِيدٌ وَ أَنَا عَلَيْكَ شَهِيدٌ فَقُلْ فِيَّ خَيْراً وَ اعْمَلْ فِيَّ خَيْراً أَشْهَدْ لَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّكَ لَنْ تَرَانِي بَعْدَ هَذَا أَبَداً ).[3]
نظم الوقت والاستفادة منه بطريقة صحيحة من أهم عوامل النجاح في الدنيا والآخرة، من هنا نرى أن ديننا الحنيف أكد كل التأكيد على تنظيم الوقت، والاستفادة من الفرص، وكل من يتأمل في النصوص المباركة التي وردت في هذا المجال يصل بكل سهولة إلى أن الوقت يتمتع بأهمية كبرى في نظر الإسلام. والرواية المذكورة تؤكد على ما أشرنا إليه، حيث صرح أمير المؤمنين عليه السلام، بأن كل يوم يمر على الإنسان يطالبه بأن يقوم فيه بأعمال صالحة، وأن يتبادر إلى ما فيه صلاح الدينا والآخرة، وأن لا يضيعه بدون أن يتسفيده منه شيء، وذلك أن الفرص لا تتكرر، ومن هنا من صرف وقته بطريقة منظمة، ومن عمل فيه صالحا، وصل إلى النجاح والسعادة، ومن لم يستفد من الفرص، وضيع وقته، لا يرى إلا الفشل والهزيمة في الحياة، والتاريخ خير شاهد على ذلك


[1] موسوعة الإمام الخوئي، ج17، ص225.
[2]اعراف/سوره7، آیه204.
[3] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص398.