الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/07/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
تدارك للدرس الماضي
ذكرنا في الدرس الماضي أن آراء الفقهاء اختلفت في حكم القراءة في الركعة الثالثة والرابعة، فمنه من ذهب إلى التخيير بينهما، وهو اختيار المصنف رحمه الله، ومنهم من اختار جواز ترك القراءة والتسبيح، وهذا اختيار السيد المرتضى وابن سعيد وابن حمزة وغيرهم، ومنهم من اختار التفصيل في المقام، وهو أن المصلي إذا صلى منفردا، أو اقتدى خلف الإمام في الصلوات الإخفاتية، فهو مخير بين القراءة والتسبيح، إما إذا صلى خلف الإمام في الصلوات الجهرية، وسمع صوت الإمام، فيتعين عليه التسبيح، ولا يجوز له الإتيان بالقراءة. وقفنا وقفة مفصلة عند القول الأول والثاني في الدرس الماضي، ولم نشبع الكلام في القول الثالث.
القول الثالث
مستند من اختار التفصيل في المقام الجمع بين روايات الباب فهناك روايات تدل بإطلاقها على التخيير في جميع الصلوات كصحيحة زرارة،: ) إِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَلَا تَقْرَأَنَ‏ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ وَ أَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ وَ لَا تَقْرَأَنَّ شَيْئاً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ )وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ‏( - يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ‏  - ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)‏[1]- فَالْأَخِيرَتَانِ تَبَعاً لِلْأَوَّلَتَيْنِ(.[2]
فإنها مطلقة للجهرية والإخفاتية في النهى عن القراءة في الركعتين الاخيرتين، ثم صحيحة أبي خديجة حيث جاء فيها : ( ..... فَإِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَعَلَى الَّذِينَ خَلْفَكَ أَنْ يَقْرَءُوا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ- وَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُسَبِّحَ مِثْلَ مَا يُسَبِّحُ الْقَوْمُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ). فهذه الصحيحة تدل على جواز قرائة فاتحة الكتاب للمأموم . وصحیحة ابن سنان نص علی التخییر فی الاخفاتیة حیث جاء فیها: وَ عَنْهُ عَنْ صَفْوَانَ عَنِ ابْنِ سِنَانٍ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع‏ ( إِذَا كُنْتَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةٍ لَا يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى يَفْرُغَ وَ كَانَ الرَّجُلُ مَأْمُوناً عَلَى الْقُرْآنِ- فَلَا تَقْرَأْ خَلْفَهُ فِي‏ الْأَوَّلَتَيْنِ وَ قَالَ يُجْزِيكَ التَّسْبِيحُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ قُلْتُ أَيَّ شَيْ‏ءٍ تَقُولُ أَنْتَ قَالَ أَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ). ومن الروايات التي استدل بها القائلون بالتفصيل صحيحة معاوية بن عمار التي مرت بنا في الدرس الماضي، حيث جاء فيها :  ( قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَقَالَ الْإِمَامُ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَ مَنْ خَلْفَهُ يُسَبِّحُ فَإِذَا كُنْتَ وَحْدَكَ فَاقْرَأْ فِيهِمَا وَ إِنْ‏ شِئْتَ‏ فَسَبِّحْ‏).[3]
نری أن صحیحة عمار مطلقة فی تعیین التسبیح للمأموم، وكذلك صحیحة أبی خدیجة مطلقة فی تعیین القراءة للمأموم وأما صحیحة ابن سنان تفید التخییر لخصوص الصلاة الاخفاتیة فتبقی صحیحة زرارة فی دلالتها علی تعیین التسبیح فی الجهریة بلا معارض حیث جاء فيها : )إِنْ كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ فَلَا تَقْرَأَنَ‏ شَيْئاً فِي الْأَوَّلَتَيْنِ وَ أَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ وَ لَا تَقْرَأَنَّ شَيْئاً فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏ )وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ‏( - يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ‏ - (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)‏ فَالْأَخِيرَتَانِ تَبَعاً لِلْأَوَّلَتَيْنِ).
وأشرنا سابقا إلى أن هذه الرواية تتحدث عن الصلاة الجهرية، والقرينة على ذلك قول الإمام (وأنصت لقراءته)، وذلك أنه لا يعقل أن ينصت المأموم إلى قراءة الإمام إلى إذا كانت الصلاة جهرية، وإذا صح أن تكون الرواية في صدد بيان حكم القراءة في الصلاة الجهرية، فإن قول الإمام ( و لا تقرأن شيئا في الأخيرتين ) صريح في الدلالة على النهي عن القراءة في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة الجهرية، بل دلالته على النهي آكد؛ وذلك لاتصال نون التأكيد الثقيلة في قوله عليه السلام : ( ولا تقرأن )، وحيث لا توجد الرواية تتعارض مع هذه الصحيحة، فهي نص على عدم جواز القراءة في الركعة الثالثة والرابعة من الصلاة الجهرية.
فنستنتج مما قلناه بعد مقارنة الروايات أن الأظهر والأحوط هو اختیار التسبيح في الركعتين الاخيرتين للمأموم فی الصلوات الجهریة التی سمع قراءة الامام فیها فی الرکعتین الاولتین
المسألة الثانية
قال السيد اليزدي قدس سره : لا فرق في عدم السماع بين أن يكون من جهة البعد أو من جهة كون المأموم أصمّ، أو من جهة كثرة الأصوات أو نحو ذلك.[4]
تعرض الماتن في هذه المسألة إلى أن الأحكام المترتبة علی عدم السماع تشمل جمیع الأسباب التي تسبب عدم السماع، فلا فرق في أن يكون عدم السماع بسبب البعد بين الإمام والمأموم، أوبسبب كون المأموم أصما، أو بسبب الضجيج وكثرة الأصوات، وإلى أخر ما هنالك من الأسباب، يعني لا خصوصية لسبب دون غيره في تحقق عدم السماع. و الدليل على ذلك إطلاق الادلة حيث لم يرد فيها قيد تعين نوعية السبب لعدم السماع.

المسألة الثالثة
قال السيد اليزدي رحمه الله :  إذا سمع بعض قراءة الإمام فالأحوط الترك مطلقاً.
في هذه المسألة تعرض الماتن إلى أن مقتضى الاحتياط ترك المأموم القراءةَ، إذا سمع مقدارا من قراءة الإمام، ولم يتمكن من سماعها بشكل كامل. وفي المسألة أربعة أقوال نشير إليها بالاختصار.
القول الأول : ان سماع بعض القراءة، هو بمنزلة عدم سماع القراءة مطلقا، و بعبارة أخرى، أن من لم يتمكن من سماع بعض القراءة، كأنه لم يسمعها من البداية إلى آخرها. واستدل على ذلك أن السماع منصرف إلى سماع كامل القراءة من البداية إلى النهاية، غير أن هذا الاستدلال ليس في محله، وذلك أن القول بالانصراف مجرد ادعاء.
القول الثاني : لا يجوز للمصلي أن يقرأ حينما يسمع قراءة الإمام، ويجوز له الإتيان بها، حينما لا يسمع.
القول الثالث : ما سمع من الآيات في القراءة، لا يجوز له أن يقرأ، وما لم يسمع منها، يجوز له القراءة، يعني – مثلاً – إذا سمع قراءة فاتحة الإمام من البداية إلى الآية الثالثة، ولم يسمع بقية الفاتحة، فلا يجوز له أن يقرأ الآيات الثلاثة من فاتحة الكتاب التي سمعها، ويجوز له أن يقرأ الباقي الذي لم يسمعه. والفرق بین القول الثالث والثانی أن فی القول الثانی یکون الملاک فی جواز قراءة المأموم مجرد عدم وصول الصوت إلیه فیجوز له عند ذلک أن یقرء الفاتحة من أولها إلی آخرها بخلاف القول الثالث فالمناط فیه ما سمع من قراءة الامام من الایات فلا یجوز قراءتها وما لم یسمع فیجوز له قراءتها.
دليل القول الثاني والثالث عبارة عن أن الحكم تابع للموضوع، فكلما وجد الموضوع، وجد الحكم، وكلما انتفى الموضوع انتفى الحكم، فالقول الثانی یری وجوب السکوت فی فترة وصول الصوت وجواز القراءة فی فترة عدم وصول الصوت فجعل موضوع الحکم هو سماع الصوت وعدمه. وفی قول الثالث جعل موضوع الحکم ما سمع من الایات وما لم یسمعها. وسوف یظهر زیف هذا القولین مما نذکر فی تحلیل قول الرابع.
القول الرابع : أن سماع البعض بمنزلة سماع الكل، أي یترتب الحکم بمجرد سماع شیء من القراءة يعني أن المأموم لا يجوز له أن يقرأ إذا سمع قراءة الإمام، ولو كان بعض القراءة. وهذا هو أصح الأقوال؛ وذلك أن المستفاد من الروايات التي مرت بنا في المباحث الماضية تؤيد هذا القول، ومن تلك الروايات صحيحة قتيبة عن أبي عبد الله عليه السلام حيث جاء فيها.
:( إِذَا كُنْتَ خَلْفَ إِمَامٍ تَرْتَضِي بِهِ فِي صَلَاةٍ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَلَمْ تَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ فَاقْرَأْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ وَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ الْهَمْهَمَةَ فَلَا تَقْرَأْ ).[5]
أن الإمام جعل موضوع المنع من القراءة مجرد سمع صوت منها ولو همهمة الإمام، ومن المعلوم، أن الهمهمة عادة تأتي وتنقطع، يعني أن المأموم يسمعها تارة، ولا يسمعها أخرى. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ما ذكره في القول الرابع صحيح، لا غبار عليه، وعليه فتاوى أكثر الفقهاء، ومن هنا فإذا تمكن المأموم من سماع بعض قراءة الإمام، ولو كانت همهمة، فليس له أن يقرأ، فعليه ما ذكره السيد اليزدي في المتن من أنه إذا سمع بعض قراءة الإمام فالأحوط الترك مطلقاً. و نحن نقول الأظهر والأحوط لاجتماع مفاد الدلیل ومقتضی الاحتیاط معا فی المسألة.
وذلك أن المأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام، لا يجب عليه الإتيان بها قطعاً، وهذا كما قالوا في المقام من أن المأموم إذا لم يسمع قراءة الإمام في الصلاة الجهرية، يجوز له القراءة، ويستحب له أن يقرأ، فلم يفتوا بوجوبها، ومن هنا فإذا تمكن من سماع بعض القراءة، ولم يتمكن من بعضها الأخر، فمقتضى الاحتياط ترك القراءة. بعبارة أخرى الأمر في المقام ليس بين المحذورين، وذلك أنهم لو أفتوا بوجوب القراءة في صورة عدم سماع صوت الإمام، وأفتوا بحرمة في صورة سماع الصوت، لكان الأمر بين المحذورين، بينما أنهم أفتوا بحرمة القراءة في صورة سماع الصوت، وأفتوا بجواز القراءة في صوت عدم سماع صوت الإمام، ففي مثل هذا المقام مقتضى الاحتياط والأولوية الأخذ بترك القراءة.


[1] اعراف/سوره7، آیه204.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج8، ص355، أبواب صلاة الجماعة، الباب31، الحديث3، ط آل البيت.
[3] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج6، ص108، أبواب القراءة في الصلاة، باب42، ح2، ط آل البيت.
[4]العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج3، ص154، ط ج.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج8، ص357، أبواب صلاة الجماعة، الباب31، الحديث7، ط آل البيت.