الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث الفقه - کتاب الصلاة

36/06/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: أحكام الجماعة
تبين لنا في الدرس الماضي أنه يجوز للمأموم أن يأتي بالقراءة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، إذا لم يسمع صوت الإمام حتى الهمهمة، وذكرنا أن الدليل على جوازها لسان الأدلة التي وردت في المقام، وقلنا إن هذه الروايات، وإن كانت عبرت عن الجواز بصيغة الأمر، إلا أنها لا تدل على الوجوب؛ لأن هذه الأوامر وردت في مورد توهم الحظر عند عدم سماع صوت الإمام، في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية أيضاً، والأمر عقيب الحظر – كما درسنا في علم الأصول – لا يدل على الوجوب، بل إنما يستفاد منه الإباحة، وبعد ثبوت جواز القراءة، أشرنا إلى أنه ثمة اختلاف بين الفقهاء في أن المأموم هل يجوز له الإتيان بالقراءة بقصد الجزئية، او لا يجوز له القراءة الا بنية القراءة المطلقة؟ و لذلك احتاط السيد في إتيان القراءة بقصد القربة المطلقة، غير أن هذا لا يعني أنه لا يجوز له أن يقرأ بقصد الجزئية، بل الأقوى جواز القراءة، ولو بقصد الجزئية.
ثم إن للإمام الخوئي رضي الله عنه رأي في المسألة، نذكر نص كلامه بالاختصار، قال في المستند:
" أنّ التركيب بين أجزاء الصلاة ليس تركيباً حقيقياً، لأنّها مؤلّفة من ماهيات مختلفة و مقولات متباينة، فبعضها من مقولة الكيف المسموع كالتكبير و القراءة، و بعضها من مقولة الوضع كالركوع و السجود و هكذا، و لا جامع ماهوي بين المقولات المتأصّلة بالضرورة.
و إنّما التركيب بينها اعتباري محض، فلاحظ الشارع الطبيعة المؤلّفة من المقولات المتشتّتة و اعتبرها شيئاً واحداً في عالم اللحاظ و الاعتبار. فكلّ ما اعتبره في الطبيعة كان جزءاً منها مقوّماً لها و إلّا كان خارجاً عنها، و لأجل ذلك امتنع اتّصاف الجزء بالاستحباب فضلًا عن الإباحة، إذ مقتضى الجزئية الدخل في الطبيعة و تقوّمها بها، و مقتضى الاستحباب جواز الترك المساوق لعدم الدخل، فكيف يجتمعان. هذا حال الطبيعة نفسها.
و كذا الفرد، إذ لا يتّصف شي‌ء بكونه فرداً للطبيعة إلّا إذا أُضيف إليها و لا تكاد تتحقّق الإضافة إلّا إذا كان مصداقاً للطبيعة بانطباقها بشراشر أجزائها عليه ....فلا يزيد الفرد عليها بشي‌ء. فكلّ ما هو جزء للفرد جزء للطبيعة و ما ليس جزءاً لها لم يكن جزءاً للفرد أيضاً و إن اقترن معه خارجاً،
و ممّا ذكرنا تعرف أنّ القراءة في المقام بعد أن لم تكن واجبة حسب الفرض فهي ليست بجزء لا للطبيعة و لا للفرد، ..... و لا يقاس ذلك بسائر الملابسات التي يتّصف بها الفرد المحكومة بالإباحة تارة و بالاستحباب أو الكراهة أُخرى، نظير الماهية التشكيكية المنطبقة على المرتبة القويّة مرّة و الضعيفة اخرى كالصلاة في الدار أو في المسجد أو الحمام ضرورة أنّ خصوصية المكان أو الزمان من ملابسات وجود الفرد و ملازماته و مقارناته التي لا ينفكّ عنها خارجاً. فهي ملازمة للوجود، لا جزء من الموجود، فيمكن أن توجب المزيّة تارة و النقيصة أُخرى، أو لا هذا و لا ذاك فيحكم عليه بالإباحة.
و أين هذا من القراءة أو القنوت أو الذكر الزائد على الأذكار المعتبرة في الركوع أو السجود و نحوها ممّا لا يتقوّم به الفرد في تحقّقه، بل قد يكون و قد لا يكون.
و على الجملة: فجزئية هذه الأُمور للفرد أو الطبيعة مع فرض استحبابها فضلًا عن الإباحة أمر غير معقول. و ليت شعري كيف تنطبق الطبيعة غير الملحوظ فيها القراءة حسب الفرض على الفرد المشتمل عليها بوصف الاشتمال، و هل هناك معنى للانطباق الذي هو مناط اتّصاف الفرد بكونه فرداً للطبيعة كما عرفت عدا تطبيق الطبيعة الواجبة بما لَها من الأجزاء على الموجود الخارجي بما لَه من الأجزاء. فمع الاعتراف بعدم الدخل في الطبيعة و الماهية المأمور بها كيف يمكن دعوى انطباقها على الفرد المشتمل على ما لا يكون جزءاً من الطبيعة حتّى يمكن الإتيان بالقراءة بقصد الوجوب و الجزئية."[1]
و ملخّص الكلام: أنّا لا نعقل التوفيق بين الجزئية و بين الإباحة أو الاستحباب، سواء أُريد بها الجزئية للطبيعة أم للفرد.
نعم، بعد أن رخّص الشارع في إتيان شي‌ء في الصلاة بعنوان أنّها صلاة، وكان مسانخاً لأجزائها، كما في المقام، فبما أنّ الصلاة عبادة كان الشي‌ء المرخّص فيها أيضاً عباديا بحسب الفهم العرفي، فيكون محبوباً ومأموراً به لا محالة لتقوّم العبادة بالأمر. فالجواز والترخيص مساوق للاستحباب في خصوص المقام.
و حيث قد عرفت المنافاة بين الجزئية وبين الاستحباب فلا مناص من الالتزام بكونه مأموراً به بأمر استحبابي استقلالي، غاية الأمر أنّ موطنه وظرفه الصلاة كما في القنوت، وكذا القراءة في المقام والأذكار المستحبّة في الركوع و السجود.
و بذلك تمتاز هذه الأُمور عن مثل التصدّق في الصلاة، فإنّه وإن كان مستحبّاً أيضاً لكنّه لا يختصّ بالصلاة، ولا يرتبط بها. فالتصدّق خارج الصلاة على حدّ سواء، بخلاف تلك الأُمور فإنّها بما هي كذلك وظائف مقررة حال الصلاة، ومربوطة بها ارتباط المظروف بظرفه. وهذا هو المراد من الجزء المستحب، ولا نعقل له معنى صحيحاً وراء ذلك.
فاتّضح من جميع ما قدّمناه أنّ الأقوى استحباب القراءة في المقام كما اختاره السيد اليزدي في المتن، وجواز الإتيان بها بقصد الجزئية بالمعنى الذي ذكرناه" تم کلامه رفع مقامه.
والمتحصل مما سبق أن السيد الخوئي لا يقبل ما ذهب إليه السيد اليزدي من جواز نية الجزئية للقراءة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية، عند عدم سماع صوت الإمام حتى الهمهمة، وذلك أنه لا يرى جزئية للأمور المستحبة في الصلاة، وبما أن القراءة مستحبة في الركعتين الأوليين من الصلاة الجهرية عند عدم سماع الصوت، فلا يمكن أن يؤتى بها بقصد الجزئية. إلا اذا اردنا من الجزئية مستحبا مستقلا عن الصلاة الذي ظرف تحققه هو الصلاة.
ولنا في ما أفاده في هذا المقام، مناقشة، وذلك أن الجزء على القسمين : الجزء المقوم لتحقق الشيء، والجزء المقوم لكمال الشيء، بعبارة أخرى، ثمة أجزاء يتوقف عليها قوام الطبيعة، وهذا كالواجبات والأركان بالنسبة إلى ماهية وطبيعة الصلاة، وهناك أجزاء لا يتوقف عليها قوام الطبيعة والماهية، بل يتوقف عليها كمالها، وفضلها، وهذا كالمستحبات في الصلاة، كالقنوت والذكر الزائد عن المقدار الواجب في الركوع والسجود. فهذه أجزاء الصلاة، إلا أنه لا يتوقف عليها صحة الصلاة وتحققها، بل يتوقف عليها كمال الصلاة وفضلها. ومن هنا اتضح أن جزئية شيء لشيء لا يتوقف على كونه مقوماً لصرف الطبيعة ذاك الشيء، بل يكفي في صدق الجزئية أن يكون مقوما لكمال الشيء فهو جزء. ففي الصلاة هناك أجزاء لها لا تتحقق الصلاة إلا بها كالأركان التي يضر فقدانها بالصلاة ولو كان سهوا، والواجبات التي انما يضر فقدانها بصحة الصلاة اذا اخل بها عمدا وهناك اجزاء للفرد الكامل من الصلاة التي فقدانها يضر بكمال الصلاة، وهذا الأمر سار في المركبات الخارجية والمركبات الاعتبارية فكما أن بعض أجزاء السيارة بها قوام عنوان السيارة، هناك أجزاء بها يتقوم كمال السيارة وكذلك في البناء وفي المركبات الاعتبارية نرى مثل ذلك فالركوع جزء مقوم لصحة الصلاة وتحققها، والقنوت جزء يتوقف به كمال الصلاة. فما قاله السيد اليزدي في العروة وسائر فقهاءنا العظام في غاية الصحة وأمر معقول واقع في الخارج والاعتبار.

وقفة أخلاقية
قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً رَاقَبَ رَبَّهُ وَ تَنَكَّبَ ذَنْبَهُ وَ كَابَرَ هَوَاهُ وَ كَذَّبَ مُنَاهُ امْرَأً زَمَّ نَفْسَهُ مِنَ التَّقْوَى بِزِمَامٍ وَ أَلْجَمَهَا مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهَا بِلِجَامٍ فَقَادَهَا إِلَى الطَّاعَةِ بِزِمَامِهَا وَ قَدَعَهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِلِجَامِه ).[2] [3]
نود أن نتبارك بهذه الكلمات النورانية من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وهذه الكلمات كما تلاحظون تحثنا على السعي والعمل في سبيل الله تبارك وتعالى للحصول على رضاه جل شانه، فهو كلام مختصر غير أنه يحتوي على مطالب عميقة جدا، فقال عليه السلام : (فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً رَاقَبَ رَبَّهُ) أي : حافظ ربه، كأنه يراه، فيحاول أن لا يقترب من الرذائل والمعاصي، ويحافظ على نفسه في كل الأحوال، فيتأمل فيما يفعل، فإن كان عمل الخير فيبادر إليه، وإن كانت معصية، فيبتعد عنها، بعبارة أخرى، يراقب كل حركاته وسكناته، ويسعى لأن يجعلها وفق مرضات ربه تعالى. 
(وَ تَنَكَّبَ ذَنْبَهُ) أي : أعرض عنه، ومال وتركه لأنه يشعر بأن الله تبارك وتعالى مطلع على أعماله، وعليم بذات الصدور، فيتخلى عن معصيته تعظيما لربه، وخوفا من عذابه وعقابه.
(وَ كَابَرَ هَوَاهُ)، أي : خالفه وعانده وغالبه، وذلك أن النفس تأمر بالسوء، وتحث على ارتكاب المعصية، وتبعد عن ساحة القدس، فمن هنا يحاول أن لا يعمل ما يأمر به هواه.
(وَ كَذَّبَ مُنَاهُ) أي : لا يصدق ما يلقي إليه الشيطان من الآمال والأماني الكاذبة، ويبادر إلى تكذيبه،  وقال عليه السلام في موضع آخر : (ألَا إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَلَّتَانِ‏[4]اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ‏ الْأَمَلِ‏ أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَ أَمَّا طُولُ‏ الْأَمَلِ‏ فَيُنْسِي الْآخِرَة)[5][6]  فأكد عليه السلام أن أكثر ما يضر بالإنسان خصلتان : إتباع الهوى؛ وذلك أنه يمنع عن الحق، وطول الأمل، لأنه ينسي الآخرة.
ثم قال عليه السلام : (امْرَأً زَمَّ نَفْسَهُ مِنَ التَّقْوَى بِزِمَامٍ وَ أَلْجَمَهَا مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهَا بِلِجَامٍ) أي يمسك نفسه عن أن ترتكب المعصية، ويكون زمامه التقوى، ويمنعها عن الرذائل ويكون المانع خشية الله سبحانه وتعالى. " قد شبه النفس الأمارة بالفرس الحرون والتقوى بالزمام والخشية باللجام ثم فرع ما يناسب كلا إليه ولا يخفى لطفه‏."[7]
ثم قال عليه السلام : (فَقَادَهَا إِلَى الطَّاعَةِ بِزِمَامِهَا وَ قَدَعَهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِلِجَامِه). القدع هو الكفف – كما ورد في اللغة – يعنى أن المؤمن دائما يسعى لأن يكون دائما في طاعة الله تعالى، وأن لا يقترب من ارتكاب المعصية، نسأل الله القدير أن يوفقنا لما يحبه ويرضى، ويجعلنا من الصالحين.


[1] موسوعة الإمام الخوئي، السيد الخوئي، ج17، ص217.
[2]الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص172.
[3]الكافي، الشيخ الكليني، ج15، ص509.
[4]أي خصلتان.
[5]الكافي، الشيخ الكليني، ج8، ص58، ط الإسلامية.
[6]الكافي، الشيخ الكليني، ج15، ص152، ط الإسلامية.
[7]شرح الكافي-الأصول و الروضة، المولى صالح المازندراني، ج12، ص211.