الأستاذ السيد حیدر الموسوي

بحث الفقه

39/05/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضـوع: الكلام في أن الميزان والمعيار هو البعد والخفاء علامة/ حد الترخّص/ الشرط الثامن من شروط القصر/ صلاة المسافر.

وقد عرفت من مطاوي ما تقدم أن الشرط للجزاء هو البعد الخاص عن مبدأ السير، والأخبار مع اختلاف بيان الشرط فيها مجرد مشير ومعرف لواقع ما هو الشرط، رغم اتصافه بالمسافر من حين خروجه من بلده، إلا أن الحكم مشترط ببلوغ الحد الخاص، من البعد عنه من دون أن يكون لشيء من الشرطين موضوعية في الحكم، ولا مدخلية لها في ذلك. وقد نبهت إلى هذه النكتة الروايات، وأن المناط هو مقدار من الابتعاد، وذلك ببلوغ الموضع الذي لا يسمع فيه آذان المصر الذي خرج منه. ثم مع الحمل على العلامتية فمع فرض تطابق العلامتين بحيث لا ينفك إحداهما عن الأخرى في الصدق، فلا محذور من تعددهما. وأما مع اختلافهما في الصدق وحصول إحداهما قبل الأخرى وهو خفاء الآذان وعدم سماعه؛ لأن أمد الصوت أقصر بحسب العادة من مدى البصر، لا سيما أن الآذان يكون في أواسط البلد لا في طرفه مما يلي خروج المسافر.

فقد ذكر البعض: أنه لا يلتزم بكون العلامة أحد الأمرين؛ لأن مآله إلى علامتية خفاء الآذان؛ لأنه هو الذي يحصل غالبا أسبق من خفاء الجدران، ولا بكونها مجموع الأمرين، فإن مآله إلى أن المناط بخفاء الجدران؛ لأنه يحصل متأخراً عن خفاء الآذان، وعليه: يتردد أمر الحد بين أحد الخفائين، إما الآذان، أو الجدران. ثم استقر أن الميزان في الحد الواقعي هو بلوغ البُعد بمقدار لا يسمع فيه الآذان، لاشتمال النصوص الكثيرة عليه، ولما كانت معرفته غير متيسّرة لكل احد، لندرة السفر وقت الآذان، لاسيما في الأزمنة السابقة التي كان السير فيها بواسطة الدواب والجمال، ولا سيما أيضاً أنه لا يتوفر الآذان في كل بلد، هذا مع ثبوت الموانع من الرياح والأمطار، وبالتالي يتعذر معرفة أن البعد الخاص هو الحد كالذي لا يسمع فيه الآذان، لذا كانت إناطة وجوب القصر بعدم السماع قليل الفائدة؛ لعدم حصوله في الغالب؛ لذا ذكرت صحيحة محمد ابن مسلم علامة أخرى يسهل تناولها ومتوفرة لكل أحد، وتكون هذه العلامة كاشفة جزماً عن حصول ذلك الحد، لكونه المقدار المتيقن من البعد اللازم مراعاته عن البلد، وهو تواري البيوت، لكون البعد في مورده أزيد.

والحاصل: أنه إذا بلغ الموضع الذي يخفى فيه الجدران وتتوارى البيوت فيما لو نظر إليها فقد حرز بلوغه الحد، بل قد تجاوز الموضع الذي لا يسمع فيه الآذان الذي هو الحد الواقعي لوجوب التقصير. ثم قال: وبهذا تندفع المعارضة ما بين صحيحة ابن مسلم وتلك الأخبار التي جعلت المعيار بخفاء الآذان وعدم سماعه، وإلا وصلت النوبة إلى المعارضة، والمحكَّم تقديم أخبار عدم سماع الآذان، وذلك لكثرتها وشهرتها ومعروفية التحديد بخفاء الآذان، بل ومغروسيته في أذهان أصحاب الأئمة (ع) كما يظهر ذلك من رواية إسحاق بن عمار، حيث قال: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه آذان مصرهم؟ هذا كله مضافاً إلى موافقية تلك الأخبار للنصوص الكثيرة الموجبة للتقصير على كل مسافر للزوم الاقتصار في مورد الخاص على القدر المتيقن، وهو بلوغ الموضع الذي لا يُسمع فيه الآذان، لكون تلك الأخبار أخص من عمومات وجوب القصر على كل مسافر، ولذا لو لم يرد دليل على اشتراط التقصير ببلوغ حد الترخص، لقلنا بثبوته من حين الخروج من البلدة، فلو عارض المخصص دليل آخر أعم وهو ما دل على اعتبار الخفاء المتحقق دائماً بمجرد خفاء الآذان، فإنه يُقتصر في التخصيص على القدر المتيقن للشك في وجوب التمام في المقدار الفاصل فيما بين خفاء الآذان وخفاء الجدران علاوة على المقدار المعلوم ثبوته وحصول التخصيص به، وهو ما قبل خفاء الآذان، فيكون الترجيح مع أخبار خفاء الآذان؛ لمطابقتها للسنة القطعية، وهي عمومات التقصير.

والحاصل: أن المعيار في الابتعاد عن البلد بمقدار لا يسمع فيه الآذان، فيقتصر عليه حتى ولو لم يتوارى عن البيوت، بل قد يُضاف إلى ذلك أن صحيحة محمد ابن مسلم التي جعلت الميزان في خفاء الجدران لا يمكن الأخذ بها؛ لابتلائها بالإجمال، وذلك من جهتين:

    1. أن المذكور فيها التواري عن البيوت، ولا يستقيم المعنى إلا بتقدير أهل البيوت، فيكون من المجاز في الحذف، أو يُراد تواري المسافر عن البيوت من باب القلب، وهذا أيضاً مجاز، ولا خصوصية لأحد المجازين على الآخر حتى يُقدم، وبين المجازين بون بعيد، فإن الإنسان يتوارى عن أهل البيت ببُعدِ ميل، وأما البيت فلا يتوارى عنه إلا ببعد فرسخ.

    2. أنه على التقديرين يُمكن أن يُراد تواري الشبح، كما في الرياض، أو الهيئة، بأن يتميز هذا البيت بأنه بيت فلان، وجداره، وهذا الشخص أنه راجل أو راكب، قصير أو طويل إلخ... ولا دليل على تعيين أحدهما، وبينهما أيضاً بون شاسع ومتفاوت فاحش، بخلاف روايات الآذان، إذ ليس المراد مجرد الصوت؛ لأنه ليس آذاناً، بل تميز الكلام، بحيث يُفهم أنه آذان وهذا لا يتفاوت.