الأستاذ السيد حیدر الموسوي

بحث الفقه

34/12/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- الإجارة.
وأما الوجه في تعيين الضمان بخصوص أجرة مثل المنفعة المستوفاة فإنه مبنيٌّ على أن الضمان للمنافع مخصوصٌ بالمنافع المستوفاة دون غير المستوفاة لصدق الإستيفاء والإتلاف عليها دون غيرها من المنافع الفائتة من غير استيفاءٍ.
والوجه في ضمان أعلى القيمتين أنه لو كانت قيمة المنفعة أكثر من قيمة المنفعة المستوفاة كان للمستأجر أن يُطالب بذلك لكون الأجير قد أتلفها عليه ولو من غير استيفاءٍ، كما لو فرض أيضاً أن المنفعة المستوفاة أكثر قيمةً كان للمستأجر المطالبة بقيمتها لكونها مملوكةً له وقد فوتها الأجير على المستأجر بالإستيفاء.
والحاصل بالنسبة للصورة الأولى ما لو ملَّك الأجير المستأجر جميع المنافع ثم عمل لنفسه بحيث فوَّت عليه المنفعة التي كان المستأجر بصدد استيفائها نتيجة التشاغل بالعمل لنفسه بعد الفراغ عن معقوليتها صغروياً وهنا جملة احتمالاتٍ بل أقوال:
1- دعوى انفساخ الإجارة من رأسٍ أو من حين التفويت.
والوجه فيه امتناع الأجير عن تسليم المنفعة للمستأجر، وهذا موجبٌ لبطلان الإجارة وانفساخ العقد بحد ذاته.
والجواب: إن هذا يتم في صورة امتناع الأجير عن تسليم المنفعة نتيجة عدم القدرة عليها الكاشف عن عدم ملكيته لها؛ أي الامتناع القهري الغالب على إرادته، وأما إذا كان عدم التسليم مستنداً إلى اختيار الأجير نتيجة التشاغل بالعمل لنفسه فلا موجب للبطلان بعد فرض قدرته على تسليمها وبالتالي كونه مالكاً لها.
2- دعوى لزوم الإجارة وعدم ثبوت الخيار وإنما تضمن له المنفعة الفائتة، وهذا ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ببيان أن الدليل على نفي اللزوم وثبوت الخيار هي قاعدة نفي الضرر، ومن الواضح أنه لو أجرينا القاعدة ونفينا بها اللزوم المفاد بعموم "أوفوا بالعقود" على أساس أن إلزام المستأجر بالإجارة رغم عدم تسليم الأجير المنفعة له نحو ضررٍ عليه منفي بلا ضرر. أقول: حتى لو أجرينا القاعدة ونفينا اللزوم مع ذلك سوف يبقى الضرر محيطاً به فلا فائدة من جريانها لنفي اللزوم، فتبقى عمومات اللزوم على ما هي عليه، غايته يُصار إلى نفي الضرر الذي لحق به بتعويضه من خلال تضمين الأجرة بقيمة المنفعة الفائتة على المستأجر نتيجة تشاغل الأجير بالعمل لنفسه.
وفيه أولاً: أنه يكفي فائدةً لجريان قاعدة لا ضرر نفي الضرر الحيثي – من حيث عمومات اللزوم – رغم بقائه من جهة إقدام المكلف على هكذا إجارةٍ محتملاً فيها الضرر.
وثانياً: أنه لا ينحصر دليل الخيار بقاعدة نفي الضرر بل لدينا كما مر معنا مراراً الشرط الإرتكازي بالتسليم، حيث إن غرض المتعاقدين لا يقف عند لقلقة الإنشاء وإنما ينسحب إلى التسليم والتسلم، فلو أخلَّ أحد المتعاملين بذلك يكون قد أخلَّ بشرط التسليم فيثبت للطرف المقابل الخيار نتيجة إخلال الطرف الأول بالشرط. والحاصل أنه لا انفساخ للإجارة ويثبت الخيار للمستأجر، فإن اختار الفسخ رجع على الأجير بالأجرة المسماة، وإن اختار الإجارة فهنا قد اختلفت الأقوال: فهناك دعوى أن الأجير يضمن كلتا المنفعتين: الفائتة على المستأجر والمستوفاة من قبل الأجير:
يضمن المنفعتين الفائتة على المستأجر نتيجة التشاغل بالعمل لنفسه والمستوفاة من قبل الأجير، والماتن ذهب إلى أنه يضمن قيمة المنفعة الفائتة، وهنالك من يرى أنه يضمن المنفعة المستوفاة من قبله، وقد ذهب مثل السيد الأستاذ إلى أنه يضمن أعلى القيمتين، من قيمة المنفعة الفائتة لو كانت هي الأعلى، أو قيمة المنفعة المستوفاة لو كانت هي الأعلى لا قيمة المنفعة الفائتة. وكما ترى فإن هذه الأوجه بل الأقوال تأتي على القول بثبوت الخيار واختيار المستأجر للإجارة.
والوجه في الدعوى الأولى أن كلتا المنفعتين الفائتة والمستوفاة هي ملكٌ للمستأجر، والأولى قد فوتها الأجير عليه بعد التشاغل بالعمل لنفسه، والثانية قد استوفاها فيضمن كلتا الأجرتين، نظير ما تقدم كما لو استأجره لخياطة الثوب في الساعة الأولى ثم صار إلى تشغيله بكتابة الكتاب في تلك الساعة حيث لا يُشك في أن المستأجر يضمن كلتا المنفعتين ؛منفعة الخياطة حيث بذل الأجير نفسه لاستيفاء المستأجر منفعة الخياطة وكان بوسعه ذلك مع مضي المدة التي يمكنه معها استيفاءها فإنه لا شك في ضمانه الأجرة المسماة للأجير لاستقرارها في ذمته كما أنه يضمن له المنفعة المستوفاة بملاك الإستيفاء، رغم عدم قدرة الأجير في الساعة الواحدة على كلتا المنفعتين: الخياطة والكتابة، ومقامنا نظيره.
وفيه: عدم تماميته لوجود الفارق بين موردنا والمقيس عليه، وذلك لأنه في الأخير قد تعدد سبب الضمان أعني العقد والإستيفاء حيث يكون الضمان الأول للأجرة المسماة بسبب العقد الذي لا موجب لبطلانه، والثاني يكون الضمان للأجرة الواقعية – ضمان غرامة – بسبب استيفاء المستأجر لمنفعة الكتابة وهذا بخلاف مقامنا، حيث لا تعدد لسبب الضمان وموجبه وإنما الضمان ضمان غرامةٍ لقيمة المنفعة الفائتة والمستوفاة مع الأخذ بعين الإعتبار أنه لا يمكن للمستأجر استيفاء كلتا المنفعتين في عرضٍ واحدٍ، بل إحدى المنفعتين سوف تذهب عليه هدراً إذا ما استوفى الأخرى.