الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

35/04/12

بسم الله الرحمن الرحیم

العنوان: آية النبأ/الكتاب/أدلة الحجية/خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

كما أَنَّهُ اتضح بهذا أَيْضاً عدم ورود اعتراض المحقق الأصفهاني & عَلَىٰ جواب الميرزا هذا؛ فَإِنَّهُ & بعد أَن سَلَّم بأصل صلاحيّة المفهوم للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل ناقَشَ في هذه الحكومة قَائِلاً: إنها تستلزم الدَّوْر؛ لأَنَّ حكومة المفهوم عَلَىٰ التَّعْلِيل متوقّفة عَلَىٰ تمامية المفهوم وانعقاده وهذا بدوره متوقّف عَلَىٰ عدم تمامية عموم التَّعْلِيل وشموله لخبر العادل؛ إذ مع عمومه وشموله له لا ينعقد المفهوم؛ لاتصاله به، وعدم تمامية عموم التَّعْلِيل متوقف عَلَىٰ حكومة المفهوم عَلَىٰ التَّعْلِيل؛ فالحكومة هذه لا تكون إذن إِلَّا عَلَىٰ وجهٍ دائرٍ؛ فإن هذا الاعتراض غير وارد عَلَىٰ المحقق النائيني ومدرسته بناءً عَلَىٰ مبنى هذه المدرسة في الحكومة القائل بِأَنَّهَا لا ترجع في روحها إِلَىٰ >التخصيص بعد التعارض<، وَإِنَّمَا هي أمر في قبال التخصيص؛ إعداد الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه حيث أَن الْخَاصّ ينفي الحكم المذكور في الْعَامّ في حين أَن الحاكم ينفي موضوع الحكم المذكور في المحكوم، فلا تعارض أَصلاً بين الحاكم والمحكوم، لا أَن هناك تعارضاً بينهما وقُدِّم أحدُهما عَلَىٰ الآخر بنكتةٍ من النكات، وعليه فنحن إذا سلّمنا (في المرتبة السَّابِقَة عَلَىٰ تلفيق الدَّوْر بِالنَّحْوِ المذكور) بأصل صلاحيّة المفهوم للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل، وقلنا: إِن عموم التَّعْلِيل ليس فيه هذه الصلاحية المماثلة، وإن أحدهما ليس في رتبة الآخر، كما هو مفروض كلام المحقق الأصفهانيّ & فَحِينَئِذٍ لا تعارض بين المفهوم وعموم التَّعْلِيل كي يفترض أَن تمامية المفهوم متوقّفة عَلَىٰ عدم تمامية العموم في التَّعْلِيل، بل المفهوم بنفسه حِينَئِذٍ يُفني هذا العمومَ، حيث أَن عموم التَّعْلِيل يقول: إِن الخبر غير الْعِلْمِيّ يجب التَّبَيُّن عنه ولا يجوز اتباعه في حين أَن المفهوم يقول: إِن خبر العادل علمٌ، فلا تنافي بين مدلول المفهوم ومدلول التَّعْلِيل كي يَتُمُّ التعارض بين الدلالتين. وإذا لم يكن هناك تعارض بينهما فلا مبرّر لسقوط دلالة المفهوم بسبب دلالة التَّعْلِيل عَلَىٰ العموم؛ فَإِنَّ هذا السقوط فرع التنافي والتعارض الَّذِي يوجب انتفاء الدلالة في فرض الاتصال وانتفاء حجيّتها في فرض الانفصال، أما مع عدم التنافي والتعارض فلا وجه للسقوط.
والحاصل أَنَّنَا إذا سلّمنا بأصل الحكومة في المقام وصلاحية المفهوم للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل بنكتةٍ من النكات فلا معنى حِينَئِذٍ للقول بأن تمامية المفهوم دائرية؛ وذلك لأَنَّ هذه الصلاحية بنفسها رافعة لعموم التَّعْلِيل، لا أَنَّها متوقّفة عَلَىٰ عدمه؛ لأَنَّ كُلّ دليل حاكم فهو يُفني الدَّلِيل المحكوم ولا يتوقف عَلَىٰ عدمه، وإلا لكانت حكومة أيّ دليلٍ عَلَىٰ دليل آخر دائرية، فثبوت دلالة المفهوم في المقام بل كل دلالةٍ حاكمةٍ عَلَىٰ دلالةٍ أخرى ليس متوقفاً عَلَىٰ عدم الدلالة المحكومة، بل هو متوقف عَلَىٰ عدم دلالة غير محكومة، وعليه فلا يمكن أَن يكون الدَّوْر المذكور هو البرهان عَلَىٰ إبطال الحكومة، إعداد الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه بل في المرتبة السَّابِقَة عَلَىٰ الدَّوْر إِن كانت الحكومة تامّة وصلاحية المفهوم للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل ثابتة وصحيحة فلا دور، وإن لم تكن الحكومة في نفسها تامّة ولم يكن هناك اقتضاء في المفهوم للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل، إذن فلا حاجة إِلَىٰ تلفيق الدَّوْر، فَلَا بُدَّ من إبطال أصل الصلاحية والاقتضاء في المفهوم للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل، ومع إبطاله لا نحتاج إِلَىٰ تلفيق مثل هذا الدَّوْر.
ومن خلال هذه النكتة الأخيرة الَّتِي ذكرناها (وهي أَن الحاكم يُفني المحكومَ ولا يتوقف عَلَىٰ عدمه) اتضح أَنَّهُ حَتَّىٰ عَلَىٰ مبنى إرجاع الحكومة إِلَىٰ التخصيص لا يَتُمُّ اعتراض المحقق الأصفهانيّ &؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ وإن كان يوجد هناك تنافٍ وتعارض بين >المفهوم< و>عموم التَّعْلِيل<؛ باعتبار أَن المفهوم حاكم بحسب الفرض، والحكومة ترجع إِلَىٰ التخصيص، والخاص ينافي الْعَامَّ، إِلَّا أَن هذا معناه أَنَّهُ يقع في المقام التزاحم في التأثير بين مقتضي المفهوم ومقتضي عموم التَّعْلِيل؛ فالثاني يقتضي وجوب التَّبَيُّن وعدم الْحُجِّيَّة في كُلّ خبر غير عِلْمِيّ وإن كان خبر العادل في حين أَن الأول يقتضي الْحُجِّيَّة وعدم وجوب التَّبَيُّن في خبر العادل، وهذا وإن كان منافياً لذاك (باعتبار رجوع الحكومة بروحها إِلَىٰ التخصيص الَّذِي هو نفي لذاك الحكم المذكور في التَّعْلِيل الْعَامّ) لكن مع ذلك يتقدم مقتضي المفهوم في التأثير عَلَىٰ مقتضي العموم؛ لأَنَّ هذا النفي نفي للحكم بلسان الحكومة ولحنها الَّذِي هو لسان نفي الموضوع، فهو يُفني المحكومَ.
وبعبارة أخرى: إِن مقتضي المفهوم في الآية وإن كان يقتضي حجّيّة خبر العادل ونفي وجوب التَّبَيُّن، لكن لمّا كان هذا النفي بلسان أَن خبر العادل علمٌ فهو يُفني العموم، وعليه فمقتضي المفهوم في الآية ما دام يُفني عمومَ التَّعْلِيل، إذن فلا يتوقف عَلَىٰ عدمه كي يرد محذور الدَّوْر الَّذِي ذكره المحقق الأصفهانيّ &.
فالصحيح إذن في دراسة الجواب الَّذِي أفاده المحقق النائيني ومدرسته هو أَن نتكلم في أصل حكومة المفهوم الَّتِي سَكَت عنها المحقق الأصفهانيّ & وسَلَّم بها وناقَشَ المحققَ النائيني مبنيّاً عليها، فهل هذه الحكومة صحيحة وهل أَن مفهوم الآية صالح للحكومة عَلَىٰ التَّعْلِيل حَقّاً؟
الجواب كما أفاد سَيّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & أَنَّها غير صحيحة؛ وذلك لما يلي:
أَوَّلاً: أَن هذه الحكومة متوقّفة عَلَىٰ تفسير المفهوم (الدَّالّ عَلَىٰ حجّيّة خبر العادل وعدم وجوب التَّبَيُّن) بجعل خبر العادل علماً وطريقاً وبياناً، كي يكون المفهوم حِينَئِذٍ نافياً لموضوع التَّعْلِيل الْعَامّ الدَّالّ عَلَىٰ عدم حجّيّة كُلّ ما ليس علماً، مع أَن هذا التفسير لا معيِّن له؛ فَإِنَّ عنوان >الْحُجِّيَّة< و>عدم وجوب التَّبَيُّن< ليس معناه متعيّناً في >العلمية<، فقد ذكرنا بما لا مزيد عليه في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري وفي بحث قيام الأمارات مقام القطع أَن جعل >العلمية< ليس سوى أحد أنحاء جعل الحكم الظاهري الممكنة ثبوتاً الواقعة إِثْبَاتاً، وليس هو النحو الوحيد الممكن ثبوتاً والواقع إثباتاً لجعل الحكم الظاهري، بل كما يمكن ثبوتاً جعله بهذا النحو، كذلك يمكن ثبوتاً جعله بنحو آخر، من قبيل جعل الْحُجِّيَّة وجعل المنجّزيّة والمعذّرية وجعل الحكم التكليفي المماثل، وغيرها من الأنحاء، هذا عن مقام الثبوت، إعداد الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه وكذلك في مقام الإثبات ليس لسان جعل العلمية هو اللِّسَان الوحيد لجعل الحكم الظاهري في باب الأمارات، بل إِن غيره من الألسنة أَيْضاً يمكن اختياره إِثْبَاتاً. إذن، فلا معيِّن للقول بأنَّ مفهومَ الآية الشريفة في المقام بصدد جعل العلمية لخبر العادل، نعم هو محتمل، كما أَن غيره أَيْضاً محتمل. وعليه فلا نحرز كون المفهوم ذا مفادٍ حاكمٍ، فتكون النتيجة أَن الآية مفهوماً وتعليلاً صدراً وذيلاً؛ لاتصالهما. فلا يمكن التَّمسُّك بالمفهوم لإثبات حجّيّة خبر العادل، كما لا يمكن التَّمسُّك بالتعليل أَيْضاً لإثبات عدم حجّيّته.
ثانياً: أَنَّهُ حَتَّىٰ لو سلّمنا بأن الْحُجِّيَّة معناها العلمية؛ فَإِنَّهُ مع ذلك لا تتمّ حكومة المفهوم عَلَىٰ التَّعْلِيل؛ وذلك لما ذكرناه في أدلة عدم حجّيّة خبر الواحد (عند البحث عن الاستدلال عَلَىٰ عدم الْحُجِّيَّة بالآيات الشريفة الناهية عن العمل بالظن) من أَن جعل العلمية والطريقية إِنَّمَا يكون حاكماً عَلَىٰ الأدلة الَّتِي تُثبِتُ حكماً مّا عَلَىٰ موضوع >عدم العلم< كحرمة إسناد ما لا علم به إِلَىٰ الشَّارِع، بينما الآيات الناهية عن العمل بالظن تنفي ابتداءً (عَلَىٰ حد تعبيرهم) العلمية والطريقية، فيقع التعارض لا محالة بينها وبين ما يُبت العلمية والطريقية، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إِن عموم التَّعْلِيل يَنفي جعل العلمية والطريقية بينما المفهوم يُثبته، فهما في عرض واحد ومتعارضان، إعداد الشَّيْخ محسن الطهراني عفي عنه ولا وجه لحكومة المفهوم عَلَىٰ عموم التَّعْلِيل؛ إذ كما أَن إثبات الْحُجِّيَّة معناه جعل العلمية، كذلك نفيها معناها نفي العلمية. إذن، فنحن حَتَّىٰ لو سلّمنا أَن مفاد الْحُجِّيَّة هو جعل الخبر علماً، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون مفاد المفهوم إثبات العلمية لخبر العادل، ومفاد التَّعْلِيل سلبها عنه، فكل منهما ينظر إِلَىٰ شيء واحد في رتبة واحدة، فلا حكومة لأحدهما عَلَىٰ الآخر؛ فَإِنَّ المفهوم إذا كان مفاده اعتبار خبر العادل علماً، فسوف يكون مفاد المنطوق نفي هذا الاعتبار عن خبر الفاسق، والتعليل ناظر إِلَىٰ توسعة دائرة هذا النفي وتعميمه عَلَىٰ كُلّ ما لا يكون علما، فَكَأَنَّ التَّعْلِيل يقول: إِن كُلّ ما لا يكون علماً وجداناً لا أعتبره علماً، وبذلك يكون مفاد التَّعْلِيل ومفاد المفهوم في رتبة واحدة، أحدهما يُبت اعتبار خبر العادل علماً، والآخر ينفي هذا الاعتبار، فلا موجب لحكومة أحدهما عَلَىٰ الآخر.
وللكلام تتمة تأتي إِن شاء اللـه في اليوم القادم والحمد للـه رب العالمين.