الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/05/26

بسم الله الرحمن الرحیم

 {السنة/أدلة عدم الحجية/خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 كان الكلام في وجوه التمسك بمفهوم الوصف في آية النبأ الشريفة لإثبات حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، وذكرنا وجوهاً خمسة وناقشناها وانتهينا إِلَىٰ الوجه السادس.
 
 الوجه السادس:
 هو ما أفاده المحقق الأصفهانيّ في حاشيته عَلَىٰ الكفاية (نهاية الدراية) وهو أن الآية الشريفة ذكرت وجوبَ التبيّن في خبر الفاسق وخبر الفاسق له وصفان:
 أحد الوصفين: وصف ذاتي، وهو كونه خبر واحد.
 والآخر: وصف عرضي، وهو كون المخبِر فاسقاً.
 السؤال هو أنَّه ما هو سبب الحكم المذكور فِي الآيَةِ بالنسبة لخبر الفاسق وهو وجوب التبيّن؟ هل كونه خبر واحد سبب لوجوب التَّبَيُّن أو كونه خبر فاسق؟ أو أي شيء آخر؟
 يقول: لا يخلو الأمر من أحد فروض أربعة ولا يُوجَد فرض آخر غير هذه الفروض الأربعة:
 الفرض الأَوَّل: أن نفترض أن العلة في وجوب التَّبَيُّن مجموع هذين الوصفين (كون الخبر خبر واحد، وكونه الخبر خبر فاسق).
 الفرض الثَّانِي: أن يكون كل من الوصفين سبباً وعلة مستقلة. أي: وجوب التَّبَيُّن عن الخبر له سببان: أحدهما أن يكون الخبر خبر واحد. والآخر: أن يكون الخبر خبر فاسق.
 الفرض الثَّالِث: أن يكون السَّبَب في وجوب التَّبَيُّن الوصفُ الذاتي (أي: كون الخبر خبر واحد).
 الفرض الرَّابِع: أن يكون السَّبَب في وجوب التَّبَيُّن الوصفُ العرضي (أَيْ: كون الخبر خبر فاسق).
 وَعَلَىٰ الفرض الأَوَّل يثبت المطلوب الَّذِي هو انتفاء وجوب التَّبَيُّن بِانْتِفَاءِ فسق المخبِر (بأن يكون المخبِر عادلاً)، فيكون للآية مفهوم يَدُلُّ عَلَىٰ أن المخبر إذا لم يكن فاسقاً لا يجب التَّبَيُّن من الخبر.
 وَعَلَىٰ الفرض الثَّانِي أَيْضاً يثبت المطلوب.
 هذان الفرضان كلاهما مبنيان عَلَىٰ أن نسلّم ونقبل بأن الآية ظاهرة بحسب مناسبات الحكم والموضوع في أن الفسق إما علّة منحصرة لوجوب التَّبَيُّن وإما أَنَّهُ علة لوجوب التَّبَيُّن بنحو الاشتراك مع شيء آخر (وهو الوصف الذاتي كما كان في الفرض الأَوَّل)، فهذان الفرضان مبنيان عَلَىٰ هذا الظهور.
 وَأَمَّا إن لم نسلّم بهذا الظهور (وقلنا إن الآية ذكرت وجوب التَّبَيُّن للتنبيه عَلَىٰ فسق المخبر في القضية الخارجية وهو الوليد) فَحِينَئِذٍ لا يبقى لهذين الفرضين مجال.
 وَأَمَّا عَلَىٰ الفرض الثَّالِث فهو فرض مخالف لظاهر الآية؛ فَإِنَّ الآية ظاهرة في دخالة الفسق في وجوب التَّبَيُّن، وَأَمَّا أن نصادر الفسق ولا نبقي له دخلاً فِي الآيَةِ فهو خلاف الظاهر، فكانت الآية تكتفي بـ>إن جاءكم مخبر بنبأ<، ولماذا ذكرت عنوان الفاسق؟!
 وَأَمَّا عَلَىٰ الفرض الثَّانِي فيقول الأصفهانيّ إنه أَيْضاً خلاف ظاهر الآية؛ لأَنَّهُ معناه لغوية ذكر الفسق، فإذا كان الوصف الذاتي علة لوجوب التَّبَيُّن فلماذا ذكرت الآية الوصف العرضي؟
 والحاصل ما سلم من هذه الفروض هو الفرضان الأَوَّل والرابع اللذان كان في صالح ثبوت المفهوم.
 هذا هو الوجه السادس.
 
 تتمة الوجه السادس:
 وكأن المحقق الأصفهانيّ التفت إِلَىٰ وجود نقص في هذا الوجه؛ إذ بإمكان القائل أن يقول في مقابل هذا الوجه: كما أن الوصف العرضي وهو الفسق علة للحكم (لوجوب التَّبَيُّن) إما بنحو الاشتراك مع الوصف الذاتي (كما في الفرض الأَوَّل) أو بنحو الاستقلال (كما في الفرض الرَّابِع) كذلك يُحتمل وجودُ وصف عرضي آخر في خبر العادل (مثل وصف الظَّنّ بمخالفة الخبر العادل للواقع)، وهذا الوصف العرضي أَيْضاً علة لوجوب التَّبَيُّن، إما بنحو الاشتراك أو بنحو الاستقلال. فلماذا استبعدتم هذا الاحتمال؟
 ومن هنا حاول & أن يُبطل هذا الإيراد ويعدّل هذا الوجه وأضاف قائلاً: إن هذا الاحتمال غير معقول بأن يكون هناك وصف عرضي آخر هو العلة لوجوب التَّبَيُّن؛ ذلك لأَنَّهُ لو كان كذلك فإما أن نفترض أن الجامع بين الوصفين العرضيين هو العلة في وجوب التَّبَيُّن، فهذا خلاف ظاهر الآية حيث أناطت وجوبَ التَّبَيُّن بالفسق (أَيْ: دخالة الفسق بعنوانه في الحكم) لا بما هو أحد فَرْدَيِ الجامعِ. وَأَمَّا أن تفترضوا أن كلاًّ منهما بعنوانه علّة لوجوب التَّبَيُّن. هذا أَيْضاً فيه إشكال وإشكاله صدور الواحد من الكثير، وهو محال؛ فَإِنَّ الواحد لا يصدر إِلاَّ من الواحد( [1] ).
 هذا بيان ما ذكره المحقق الأصفهانيّ &.
 أقول: هذا الوجه لو تَمَّ فهو في الواقع أحد أدلة مفهوم الوصف بشكل عام، وليس بيانا إضافياً وراء ذلك. أي: أن هذا الوجه لو تَمَّ (وهو غير تام كما سنقول) فهو من أدلة مفهوم الوصف، وليس من الأدلة الخاصة بالآية الشريفة، وعليه فلا يَصِحُّ أن نجعل هذا الوجه وجها مُسْتَقِلاًّ في مقابل الوجه الأَوَّل من هذه الوجوه الستة، للتمسك بمفهوم الوصف؛ فَإِنَّ هذا البرهان الَّذِي ذكره الأصفهانيّ هنا هو الَّذِي مضى منه & في بحث مفهوم الوصف تماماً، حيث ذكرناه في عداد الأدلة الَّتِي تُذكر لإثبات مفهوم الوصف حيث كان له & بيانان لإثبات المفهوم للوصف بشكل عام، ووضحنا مقصوده بهذين البيانين، كان هذا أحد ذينك البيانين حيث قال: إذا كان الوصف (العدالة) علة للحكم (وجوب الإكرام) فإذا افترضنا أن هناك علة أخرى للوجوب الإكرام غير العدالة كما إذا كان هاشميا، فهذا إما يَسْتَلْزِم مَحْذُوراً إِثْبَاتِيّاً (خلاف ظاهر الخطاب، فإن ظاهر الكلام هو أن العلة هي العدالة بما هي عدالة لا بما هي فرد للجامع) وإما مَحْذُوراً ثبوتياً (والقول له &) (والمحذور الثبوتي هو مخالفته لقاعدة الواحد؛ فَإِنَّ وجوب الإكرام شيء واحد لا يمكن أن يصدر من شيئين).
 وقد سبق نفس هذا البيان منه & في بحث مفهوم الشَّرْط أَيْضاً ونحن ذكرناه في التقريب الرَّابِع من تقريبات إثبات مفهوم الشَّرْط.
 وَعَلَىٰ كل حال، كما قلنا إن هذا البيان والبرهان الَّذِي ذكره المحقق الأصفهانيّ & هنا مذكور من قبله في بحث مفهوم الوصف لإثبات المفهوم للوصف ومذكور في مفهوم الشَّرْط لإثبات المفهوم لمفهوم الشَّرْط، ونحن قد ناقشناه في ذينك الموضعين وأبطلناه، وحاصل ما قلناه هناك مع التطبيق عَلَىٰ ما نحن فيه هو أن بالإمكان أن نختار الشق الثَّانِي الَّذِي قاله & حيث قال:
 الأَوَّل: إما أن الجامع بين الفسق وبين الوصف العرضي الآخر هو علة.
 الثَّانِي: وإما أن كلا منهما علة.
 نحن نختار الثَّانِي ولا محل لتطبيق هذا القانون الفلسفي هنا، حَتَّىٰ لو قبلنا بقاعدة الواحد في الواحد الشخصي والواحد النوعي.
 وهذا ما سوف نشرحه غدا إن شاء الله تعالى.


[1] - الأصفهاني، نهاية الدراية: ج2، ص74 من الطبعة القديمة وج3، ص202-203 من الطبعة الجديدة.