الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/04/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 {السنة/أدلة عدم الحجية/خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 بعد أن انتهينا من الجواب عن السؤال الثَّانِي وهو أن عدم وجوب التَّبَيُّن عن خبر العادل هل هو بنفسه ومن دون ضم شيء آخر إليه يَدُلُّ عَلَىٰ حجيته أو لا؟ فقد اتضح أن الصحيح هو الإجابة بالإيجاب.
 
 السؤال الأول:
 هنا لاَ بُدَّ من أن نتكلم في مقامين:
 المقام الأول: في أن الآية الشريفة هل يوجد فيها مقتض لِلدَّلاَلَةِ عَلَىٰ المفهوم (لِلدَّلاَلَةِ عَلَىٰ عدم وجوب التَّبَيُّن عن خبر العادل) أم لا؟
 المقام الثَّانِي: هو أَنَّهُ بعد الفراغ عن ثبوت المقتضي فِي الآيَةِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَىٰ عدم وجوب التَّبَيُّن عن خبر العادل هل يوجد هناك ما يمنع عن تأثير هذا المقتضي أم لا يوجد مانع؟ والمانع الَّذِي يُتصور أَيْضاً عَلَىٰ قسمين:
 القسم الأول: المانع الَّذِي يمنع من أصل دلالة الآية وظهورها في عدم وجوب التَّبَيُّن عن خبر العادل.
 القسم الثَّانِي: المانع الَّذِي لا يمنع عن أصل الدَّلاَلَة والظهور وَإِنَّمَا يمنع عن حُجِّيَّة هذه الدَّلاَلَة.
 هذا هو سير البحث وفهرسه بشكل عام.
 
 المقام الأول:
 أَمَّا المقام الأول فهناك تقريبات في كتب القوم لإثبات هذا المقتضي والمفهوم فِي الآيَةِ الشريفة:
 التقريب الأول: عن طريق التمسك بالوصف المذكور فِي الآيَةِ الشريفة، فيكون المفهوم مفهوم الوصف.
 التقريب الثَّانِي: عن طريق الشَّرْط المذكور فِي الآيَةِ، فيكون المفهوم مفهوم الشَّرْط.
 
 التقريب الأول:
 أَمَّا التقريب الأول فهذا التقريب بالإمكان بيانه من خلال عدة وجوه:
 الوجه الأول: أن يُدعى أن الوصف بشكل عام يَدُلُّ عَلَىٰ المفهوم ويدل عَلَىٰ انتفاء سنخ الحكم وطبيعي الحكم عند انتفاء الوصف، بأن يكون وصف >العالم< في قوله >أكرم الإنسان العالم< دَالاًّ عَلَىٰ انتفاء سنخ الإكرام وطبيعيه بِانْتِفَاءِ وصف العدالة، فلا يجب إكرام غير العالم بتاتاً. فبما أن الآية الشريفة وصفت النبأ بأن الجائي به فاسق وقال {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا}، فَحِينَئِذٍ بِنَاءً عَلَىٰ الإيمان بمفهوم الوصف كبروياً تَدُلّ الآية عَلَىٰ انتفاء وجوب التَّبَيُّن في النبأ عند انتفاء وصف الفسق. وقد فرغنا في الجواب عن السؤال الثَّانِي بِأَنَّهُ إذا انتفى وجوب التَّبَيُّن عن النبأ فهو كاف لإثبات الْحُجِّيَّة.
 والوصف هنا يكون بِنَاءً عَلَىٰ هذا الوجه من صغريات مفهوم الوصف، وبناء عَلَىٰ الإيمان بكبرى مفهوم الوصف يكون شأن الآية شأن أية جملة وصفية أخرى، فتكون المسألةُ حِينَئِذٍ مبنائية.
 ونحن موقفنا من هذا الوجه واضح؛ فَإِنَّ الصحيح عَلَىٰ ما ذكرناه في بَحْث المفاهيم حيث قلنا إن الوصف لا يَدُلُّ عَلَىٰ المفهوم (بمعناه المصطلح في علم الأصول)، خصوصاً في الوصف الَّذِي هو غير عَلَىٰ الموصوف (أَيْ: أن موصوفه غير مذكور في الكلام)؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون كاللقب واللقب أضعف المفاهيم وَالَّذِي لم يقل أحد بأن للَّقب مفهوم.
 نعم، قلنا في المفاهيم إن الوصف وإن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح، إِلاَّ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَىٰ الانتفاء عند الانتفاء، وهذه الدَّلاَلَة واضحة ومسلمة ونقبلها، لكن الانتفاء عند الانتفاء الَّذِي يَدُلُّ عليه الوصف ليس هو مفهوم الوصف، وَإِنَّمَا هو تابع لقاعدة احترازية العقود (الَّتِي تَدُلّ عَلَىٰ انتفاء شخص الحكم وليس طبيعة الحكم)، وهو أن >العادل< قيد لـ>العالم< وَالْمُقَيَّد ينتفي عند انتفاء قيده. فلا تشمل الجملةُ الوصفية فاقدَ الوصفِ (وفاقد العدالة والجملة هذه لا تشمل العالم الفاسق).
 ومن هنا يظهر الضعف لبعض عبارات بعض مقرري الشيخ النائيني: كما هو في عبارات الشيخ محمد علي الكاظمي( [1] )، حيث يتراءى من عبارته أن النائيني يريد أن يثبت المفهوم... وهذه الجملة ساكتة عن فاقد الوصف (أَيْ: العالم الفاسق)؛ إذ لعل هذا الحكم (وجوب الإكرام) ثابت لموضوع هو أوسع من العالم العادل، لكن الْمُتَكَلِّم هنا اقتصر هنا عَلَىٰ بعض موضوع الحكم وهو العالم العادل (عَلَىٰ واجد الوصف) لغرض من الأغراض. فيظهر من عبارة المقرر أن الميرزا كأنه يريد أن يقول بأن الجملة الوصفية ساكتة عن فاقد الوصف. بينما هذا الكلام ضعيف وغير صحيح؛ ذلك لأَن الجملة الوصفية كما تَدُلّ عَلَىٰ ثبوت الحكم لواجد الوصف، تَدُلّ أَيْضاً عَلَىٰ انتفاء الحكم عند فاقد الوصف، وليس كما يظهر من عبارة الكاظمي &...
 والحاصل أن قاعدة احترازية القيود تقول بِانْتِفَاءِ شخص هذا الحكم المجعول في هذا الخطاب (باعتبار أَنَّهُ مُقَيَّد بقيد العدالة، وَالْمُقَيَّد ينعدم عند انعدام القيد، فهذا القيد له دخل في شخص هذا الوجوب) بِانْتِفَاءِ العدالة. أَمَّا أَنَّهُ لا يوجد شخص حكم آخر مماثل لهذا الحكم (أَيْ: وجوب إكرام العالم الفاسق بملاك آخر) فهذا الكلام ساكت عنه. وعليه، فالآية الشريفة وإن دلت عَلَىٰ أن شخص وجوب التَّبَيُّن ينتفي بِانْتِفَاءِ الفسق في المخبِر، لكن الآية لا تَدُلّ عَلَىٰ انتفاء مطلق وجوب التَّبَيُّن وسنخه وكليّه بِانْتِفَاءِ الفسق، بحيث إذا كان المخبِر غير فاسق فلا يجب التَّبَيُّن، فهذا ما لا تَدُلّ الآية عليه.
 إذن، هذا الوجه الأول غير تام.
 
 الوجه الثَّانِي: أن يكون الوصف في خصوص الآية دَالاًّ عَلَىٰ المفهوم حَتَّىٰ ولو لم نقبل بمفهوم الوصف (أَيْ: انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الوصف) كُبْرَوِيّاً. وخير تقريب لهذا المطلب هو أن يقال: إن الآية أناطت وجوب التَّبَيُّن بعنوان خبر الفاسق {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا} وهذا يَدُلُّ وَفْقاً لقاعدة احترازية القيود أن شخص هذا الحكم المجعول فِي الآيَةِ الشريفة مجعول عَلَىٰ هذا العنوان بما هو (عنوان خبر الفاسق بما هو خبر الفاسق)، وليس موضوعه مطلق الخبر، وَإِلاَّ لكان القيد لَغْواً ولم يكن اِحْتِرَازِيّاً، وَحِينَئِذٍ يقول صاحب التقريب: إذا انتفى شخص هذا الحكم عن خبر العادل فانتفاء شخص هذا الحكم هنا مساو ومساوق لانتفاء سنخ الحكم (أَيْ: المفهوم والحجية). أَمَّا كيف أصبح انتفاء شخص الحكم فِي الآيَةِ الشريفة مُسَاوِياً لانتفاء طبيعي الحكم؟! فيقول: السر فيه أَنَّهُ إذا انتفى شخص الحكم عن خبر العادل فإما أن يقال حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ أَيْضاً يوجد شخص حكم آخر بوجوب التَّبَيُّن مثل هذا الحكم لكن بملاك آخر، وإما أن يقال بعدم وجوب التَّبَيُّن، ولا يوجد شق ثالث. وعلى الثَّانِي يثبت المقصود وهو الْحُجِّيَّة (لأَنَّنَا في الإجابة عن السؤال الثَّانِي أثبتنا أن عدم وجوب التَّبَيُّن كاف لإثبات الْحُجِّيَّة؛ لأَنَّنَا لا نحتمل أَبَداً أن يكون عدم وجوب التَّبَيُّن عن نبأ العادل من باب كونه أسوأ من نبأ الفاسق، وَإِنَّمَا هو من باب كونه حُجَّة)، وعلى الأول فنتساءل: هل يفترض أنهما وجوبان مجعولان بجعلين أو أنهما وجوبان بجعل واحد؟ عَلَىٰ الثَّانِي (رغم أن المقدار الَّذِي أبرزه الشَّارِع فِي الآيَةِ الشريفة هو الاقتصار عَلَىٰ وجوب التَّبَيُّن لنبأ الفاسق، لكن الحكم في الواقع واحد) يعني أن شخص الحكم المذكور في هذه الآية لا ينتفي بِانْتِفَاءِ وصف الفسق.


[1] - الكاظمي، فوائد الأصول: ج1، 313.