الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/04/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 {السنة/أدلة عدم الحجية/خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 قلنا إن الإشكال الثَّانِي الَّذِي يرد عَلَىٰ كلام المحقق العراقي & هو أن حمل الأمر الوارد فِي الآيَةِ الشريفة بالتبين عَلَىٰ الإرشاد إِلَىٰ حكم العقل خلاف الظاهر من التعليق الموجود فِي الآيَةِ حيث أن الآية علّقت وجوبَ التَّبَيُّن عَلَىٰ مجيء الفاسق بالنبأ، وهذا التعليق ظاهره عرفاً هو أن مجيء الفاسق بالنبأ دخيل ومؤثر واقعاً وثبوتاً في وجوب التَّبَيُّن، بينما لو حملنا الأَمْر بِالتَّبَيُّنِِ عَلَىٰ الإرشاد إِلَىٰ حكم العقل بالتبين وتحصيل العلم بالواقع فَحِينَئِذٍ لا معنى لهذا التعليق؛ لأَن حكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالواقع ليس مُعَلَّقاً عَلَىٰ مجيء الفاسق بالنبأ (سواء جاء الفاسق بالنبأ أو لم يجئ بالنبأ أو أي شيء آخر).
 اللهم إِلاَّ أن يلجأ هذا التعليق إِلَىٰ أَنَّهُ إرشاد إِلَىٰ عدم حُجِّيَّة نبأ الفاسق لكن بلسان أَنَّهُ يجب تحصيل العلم، باعتبار أن الآية في مقام بيان أن نبأ الفاسق لا يفيد العلم، فحتى إذا جاء الفاسق بالنبأ يجب تحصيل العلم.
 بعبارة أخرى: الإرشاد إِلَىٰ حكم العقل يكون كنايةً عن ملزومِ حكم العقل وهو عبارة عن عدم حُجِّيَّة نبأ الفاسق (إذا لم يكن نبأ الفاسق حُجَّة فلازمه أَنَّهُ يجب تحصيل العلم؛ لأَن العقل يحكم بِأَنَّهُ إذا لم يكن هناك حُجَّة عند الْمُكَلَّف يجب عليه أن يحصّل العلم بالواقع).
 فكأن الآية تُرشد إِلَىٰ حكم العقل بلزوم التَّبَيُّنِ لأجل أن تُلفت النظر إِلَىٰ الملزوم وهو عدم حُجِّيَّة خبر الفاسق، من باب التعبير باللازم وإرادة الملزوم (كما في قولنا: >زيد كثير الرماد< حيث نعبّر فيه بلازم الكرم ولكن المقصود هو الكرم).
 فليس المقصود التعليق والتفريع الحقيقي لهذا الحكم العقلي عَلَىٰ مجيء الفاسق بالنبأ كي يرد الإشكال الَّذِي ذكرناه، وَإِنَّمَا هو تفريع لهذا الحكم العقلي عَلَىٰ عدم حُجِّيَّة خبر الفاسق وعدم حُجِّيَّة خبر الفاسق فرع مجيء الفاسق بالنبأ.
 لكن حِينَئِذٍ يرد عليه إشكال آخر وهو أننا لا نحتاج إِلَىٰ مثل هذا التعسف والتعقيد. لماذا نقول: إن الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ كناية عن عدم الْحُجِّيَّة بواسطة الإرشاد إِلَىٰ لازمه (وهو حكم العقل بلزوم التَّبَيُّن)؟ لنحذف الواسطة ونقول ابتداءً ورأساً: إن الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ فِي الآيَةِ إرشاد إِلَىٰ عدم الْحُجِّيَّة وهذا ما سوف نذكره في الاحتمال الأخير.
 هذا هو الإشكال الثَّانِي الَّذِي أورده سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & عَلَىٰ كلام المحقق العراقي &.
 السيد الهاشمي حفظه الله أَيْضاً هنا حاول أن يجيب عن هذا الإشكال وقال بأن المقصود فِي الآيَةِ ليس هو التعليق كي يرد إشكال سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & القائل بأن تعليق الحكم العقلي عَلَىٰ مجيء الفاسق لا معنى له، وَإِنَّمَا المقصود هو الإرشاد إِلَىٰ عدم حُجِّيَّة نبأ الفاسق حيث أن الحكم العقلي بلزوم التَّبَيُّنِ فرعُ عدم الْحُجِّيَّة (العقل يحكم بوجوب تحصيل العلم فيما إذا لم تتوفر الْحُجَّة لدى الْمُكَلَّف، وعدم الْحُجِّيَّة فرع مجيء الفاسق بالنبأ، فلذا أخذ عنوان مجيء الفاسق بالنبأ في موضوع التَّبَيُّن... دخيل في وجوب التَّبَيُّن لكن بواسطة عدم الْحُجِّيَّة؛ لأَن الحكم العقلي بلزوم التَّبَيُّن فرع عدم الْحُجَّة وعدم الْحُجِّيَّة فرع مجيء الفاسق، فيكون مجيء الفاسق بالنبأ دخيلا بالواسطة في وجوب التَّبَيُّن.
 هذا الإشكال موجود في الأضواء والآراء( [1] ).
 أقول: هذا هو نفسه التعسف والتعقيد الَّذِي أشرنا إليه، فلماذا نقول الآية إرشاد إِلَىٰ حكم العقل بلزوم التَّبَيُّن وهو كناية عن عدم حُجِّيَّة خبر الفاسق، بل نحذف الواسطة ونقول رأسا: الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ إرشاد إِلَىٰ عدم حُجِّيَّة نبأ الفاسق بلا واسطة حكم العقل. فهذا ليس شيئاً جديداً.
 هذا كله في المطلب الأول من المطلبين الذين قلنا إن لدينا مطلبين في المقام.
 المطلب الثَّانِي:
 لنفرض أن هذا الاحتمال المذكور صحيح في نفسه (وهو أن الأمر فِي الآيَةِ إرشاد إِلَىٰ حكم العقل بالتبين وتحصيل العلم بالواقع)؛ فَإِنَّ فيه احتمالان:
 الأول: احتمال أن نبأه حُجَّة ومع وجود الْحُجَّة لا يجب التَّبَيُّن.
 الثَّانِي: احتمال وجود العلم بكذب الفاسق، فلا يجب تحصيل العلم؛ لأَنَّهُ تحصيل للحاصل.
 وَحَيْثُ أَنَّ الاِحْتِمَالَ الثَّانِي يَسْتَلْزِم أن يكون خبر الفاسق أسوأ حَالاً مِنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ فنحذف الاحتمال الثَّانِي (هذا ما قاله العراقي &).
 أقول: بِنَاءً عَلَىٰ صِحَّة الاحتمال الَّذِي ذكرتموه نحن لا نحتاج إِلَىٰ هذه المقدمة وَإِنَّمَا المفهوم رأساً يثبت عدم حُجِّيَّة خبر الفاسق؛ لأَن الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ إذا جعلناه إرشاداً إِلَىٰ حكم العقل بلزوم تحصيل العلم (كما هو المفروض) فمن الواضح أن حكم العقل بلزوم تحصيل العلم ليس حُكْماً تكليفياً مولوياً مَجْعُولاً بداعي تحريك الْمُكَلَّف نحو متعلقه، كي يَصِحُّ كلام العراقي &. فلو كان حكمُ العقل بوجوب التَّبَيُّنِ كأحكام المولى التكليفية فَحِينَئِذٍ يَتُِمّ كلام العراقي؛ لأَن مفهوم الآية يَدُلُّ عَلَىٰ أن خبر الفاسق لا يجب فيه تحصيل العلم وهذا فيه احتمالان، وأنه تحصيل للحاصل تتوقف عَلَىٰ أن نفترض بأن حكم العقل حكم تكليفي مجعول بداعي التحريك، بينما الأحكام العقلية ليست إِلاَّ إدراكات لحقائق هذا العالم ومن جملة هذه الإدراكات إدراك العقل بلزوم العلم بالواقع، وفي خبر الفاسق أرشدت الآية إِلَىٰ هذه اللابدية.
 في المنطوق يرى العقل أَنَّهُ لاَ بُدَّ من تحصيل العلم.
 في المفهوم يرى العقل أَنَّهُ ليس من الضروري أن تحصلوا العلم؛ وذلك لأَنَّ خبر العادل حُجِّيَّة ولا يوجد في أكثر من هذا الاحتمال، وهنا تنتفي اللابدية العقلية بتحصيل العلم بخبر العادل. فلا يوجد احتمالان حَتَّىٰ نحتاج إِلَىٰ ضم مقدمة الأسوئية كما أفاده المحقق العراقي &.
 والحاصل أَنَّهُ لو فرض أن وجوب التَّبَيُّن فِي الآيَةِ عبارة عن حكم العقل (كما أفاده العراقي &) فحيث أن من الواضح أن هذا الحكم العقلي ليس حُكْماً تكليفياً وَإِنَّمَا هو إدراك عقلي يقول إنه لا يوجد مؤمن إِلاَّ العلم والقطع بالواقع، وهذا المعنى محفوظ حَتَّىٰ مع فرض حصول العلم بالواقع لدى الْمُكَلَّف يبقى هذا الحكم العقلي ثَابِتاً وهو أن الإنسان دَائِماً يحتاج إِلَىٰ العلم بالواقع، والحقائق لا تنتفي بحصولها في الخارج.
 إذن، مفهوم الآية الدال عَلَىٰ انتفاء هذا الحكم العقلي وهذه اللابدية العقلية مفهوم غير ملائم مع الاحتمال الثَّانِي الَّذِي طرحه العراقي وهو أَنَّهُ لعله بنكتة العلم بكذب العادل؛ إذ لو حَتَّىٰ علمنا بكذب العادل (وهو الواقع مَثَلاً)، لكن هذه اللابدية لا تنتفي، إذن يتعين الاحتمال الآخر وهو أن انتفاء هذه اللابدية إِنَّمَا هو بنكتة انتفاء حُجِّيَّة خبر العادل، فلا نحتاج إِلَىٰ مقدمة الأسوئية.
 هذا بالنسبة إِلَىٰ المطلب الثَّانِي الَّذِي أردنا أن نبيّنه.
 هنا أَيْضاً يوجد للسيد الهاشمي حفظه الله بيان حاول فيه أن يجيب ويرد عَلَىٰ هذا المطلب الثَّانِي وقال في البحوث وفي الأضواء والآراء أَيْضاً( [2] ).
 يقول السيد الهاشمي في البحوث: إن الجزاء فِي الآيَةِ الشريفة ليس نفس الحكم العقلي والإدراك العقلي (أي: صحيح ما يقوله سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & من أن حكم العقل ليس بعثاً وتكليفاً وإعمالا للمولوية، لكن الجزاء فِي الآيَةِ الشريفة {فتبينوا}، والتبين ليس هو نفس الإدراك العقلي، وَإِنَّمَا التَّبَيُّن واستخبار الحال من لوازم الإدراك العقلي؛ فَإِنَّ الحكم العقلي هو >لاَ بُدَّ من العلم< ومن لوازمه استخبارُ الحال، وإذا لم يكن استخبار الحال واضح العدم (كما إذا علمنا بالكذب) فلا يبقى إِلاَّ الاحتمال الأول. هكذا أراد السيد الهاشمي أن يدافع عن المحقق العراقي( [3] ).
 هذا الكلام إن شاء الله غدا ندرسه لكي نرى مدى صحته.


[1] - الهاشمي، بحوث في علم الأصول: ج5، 351.
[2] - الهاشمي، بحوث في علم الأصول: ج5، 351.
[3] - الهاشمي، بحوث في علم الأصول: ج2، 271.