الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/04/06

بسم الله الرحمن الرحیم

 {السنة/أدلة عدم الحجية/خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 آية النبأ:
 ذكرنا الاحتمال الثاني في الأمر بالتبين الوارد في آية النبأ الشريفة، وهذا الاحتمال كان عبارة عن أن نفسر هذا الأمر بالتبين بأنه أمر طريقي (يجب التبين في خبر الفاسق؛ لأن المولى يريد من خلال هذا الوجوب أن يتحفظ على الحكم الواقعي الإلزامي الذي لعله موجود في مورد خبر الفاسق بخمرية هذا السائل مثلاً؛ فلعل السائل خمر في الواقع فتكون الحرمة الواقعية موجودة)، فلا يجوز لنا أن نخالف خبرَه رأسا ونجري الأصل الترخيصي، بل نؤجل إجراء الأصول المرخصة إلى ما بعد الفحص والتبين.
 إذن، منطوق الآية يوجب التبين في خبر الفاسق بهذا النحو من الوجوب الطريقي، ومفهوم الآية يدل على انتفاء هذا الوجوب بالنسبة للعادل.
 بِنَاءً عَلَىٰ هذا الاحتمال قلنا أَيْضاً: إن مفهوم الآية يكون ناقصاً ولا يمكن إثبات حُجِّيَّة خبر العادل بمفهوم الآية لوحده؛ ذلك لأَنه بِنَاءً عَلَىٰ هذا الاحتمال يكون مفهوم الآية عبارة عن أن هذا الوجوب الطريقي منتف في خبر العادل ولا يجب التبين، وهذا ما يحتمل فيه احتمالان معاكسان:
 الأول: أن خبر العادل حُجَّة من الآن فَصَاعِداً فلا يجب التبين والتريث.
 الثَّانِي: أن معنى >لا يجب التبين عن خبره< معناه أن خبرَه مرفوض سَلَفاً وقبل التبين.
 وحيث أن الاحتمال الثَّانِي يستلزم أن يكون الخبر العادل أسوأ حالاً من خبر العادل، وهذا باطل وهو مِمَّا نقطع بعدمه في الشريعة. فهذه المقدمة نضمها إِلَىٰ مفهوم الآية وَحِينَئِذٍ تثبت الْحُجِّيَّةُ لخبر العادل.
 لكن يبقى السؤال عن أن هذا الاحتمال هل هو صحيح في نفسه أو لا؟
 قلنا: إن هذا الاحتمال أَيْضاً كالاحتمال الأول غير تام في نفسه؛ ذلك لأَنَّهُ خلاف ظاهر الآية الشريفة؛ إِذْ لَوْ كَانَ وجوب التبين عَنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ حُكْماً طَرِيقِيّاً (كما يقوله هذا الاحتمال) مَجْعُولاً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع بداعي التحفظ عَلَىٰ الْحُكْمِ الْوَاقِعِيِّ الْمُحْتَمَل، لكان المناسب للحكم الطريقي أَنْ يُّعَلِّلَ الشَّارِعُ هذا الوجوبَ بالخوفِ من نتيجةِ تركِ العملِ بخبرِ الفاسقِ (كمثال إخبار الفاسق بكون سائل معيّن أَنَّهُ خمرٌ)، وهذا التعليل قرينة عَلَىٰ أن الأمر بالتبين ليس أَمْراً طَرِيقِيّاً مَجْعُولاً بداعي وبملاك التحفظ عَلَىٰ الواقع الْمُحْتَمَلِ.
 إذن، فالاحتمال الثَّانِي أَيْضاً كَالاِحْتِمَالِ الأول غير تام.
 
 الاحتمال الثالث:
 أن يكون هذا الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ في خبر الفاسق أمراً غَيْرِيّاً مُقَدَّمِيّاً (عَلَىٰ خلاف الاحتمالين السابقين حيث كنا نفترض فيهما أن الأمر أمر نفسي) لوجوب نفسي هو وجوب العمل بخبر الفاسق. فيفترض هنا وجوبين:
 الأول: وجوب نفسي (ذو المقدمة) وهو عبارة عن وجوب العمل بخبر الفاسق.
 الثَّانِي: وجوب غيري مقدمي (المقدمة) وهو وجوب الفحص عَنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ للعمل بخبر الفاسق.
 وهذا الاحتمال ما ذكره المحقق العراقي & مبيناً عَلَىٰ أحد الاحتمالين في كلمة {التَّبَيُّن}؛ لأَن كلمة {التَّبَيُّن}:
 تارة نفسّرها بتحصيل العلم واليقين، وَحِينَئِذٍ يكون الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ أَمْراً إِرْشَادِيّاً إِلَىٰ حكم العقل؛ لأَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ مُسْتَقِلاًّ بلزوم تحصيل العلم واليقين في كل مورد لا توجد فيه للإنسان حُجَّة معتبرة. وَحِينَئِذٍ نخرج عن هذا الفرض الثالث ولا يكون الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ غَيْرِيّاً بل يكون أَمْراً إِرْشَادِيّاً (وهو الاحتمال الرابع الَّذِي سيأتي).
 وأخرى نفسرها بما يشمل الظَّنَّ بالواقع، لا خصوص العلم، وَحِينَئِذٍ يكون الأمر بهذا التَّبَيُّنِ فِي الآيَةِ أَمْراً شَرْعِيّاً غَيْرِيّاً وَلاَ يَكُونُ أَمْراً نَفْسِيّاً.
 وبنا عَلَىٰ هذا الاحتمال سوف يكون هذا الاحتمال كالاحتمالين السابقين غير تام ويكون مفهوم الآية ناقصاً ولا يمكن إثبات حُجِّيَّة خبر العادل بالمفهوم وحدة، وَإِنَّمَا نحتاج لإثبات حجيته إِلَىٰ ضم تلك المقدمة (برهان الأسوئية)؛ لأَن المفهوم يَدُلُّ عَلَىٰ أَنَّهُ لا يجب التَّبَيُّن في خبر العادل وُجُوباً غَيْرِيّاً، لكن عدم الوجوب هذا لا يثبت وحدَه أن خبر العادل ليس حُجَّةً؛ لأَن فيه احتمالين:
 الأول: أن يكون >لا يجب التَّبَيُّن في خبره< من باب أَنَّهُ لا يجب العمل بخبر العادل أَسَاساً ولذلك لا يجب التَّبَيُّن عن خبره؛ لضرورة انتفاء الوجوب الْغَيْرِيّ لِلْمُقَدِّمَةِ بِانْتِفَاءِ الْوُجُوبِ النَّفْسِيّ لِلْمُقَدِّمَةِ.
 الثَّانِي: أن يكون >لا يجب التَّبَيُّن عن خبر العادل< من باب وجوب العمل بخبر العادل لكن من دون التَّبَيُّن؛ أي: أن ذا المقدمة ليس مَشْرُوطاً بِالْمُقَدِّمَةِ.
 ومثاله أن يرد في دليل أن مَن يريد زيارةَ المعصوم ^ لا يجب عليه التوضؤ. فهذا الدليل يفهم منه احتمالان:
 الاحتمال الأول: لا يجب الوضوء للزيارة باعتبار أن أصل الزيارة ليس واجباً، فلا يكون الوضوء واجباً أَيْضاً.
 الاحتمال الثَّانِي: أن يكون معنى عدم وجوب الوضوء أن الزيارة واجبة ولكن الوضوء ليس مقدمة له حَتَّىٰ يكون واجباً.
 وَحَيْثُ أَنَّ الاِحْتِمَالَ الأَوَّلَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ خَبَرِ الْعَادِلِ أسوأ حَالاً مِنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ؛ لأَنَّ أصلَ العمل بخبر الفاسق كان وَاجِباً لكنه كان مَشْرُوطاً بالتبين، عَلَىٰ عكس خبر العادل. وحيث أن هذه الأسوئية باطلة، فلا تَدُلّ الآية بصرف مفهومها (من دون الحاجة إِلَىٰ تلك القرينة الخارجية) عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر العادل.
 لا ننسى أننا بحثنا يجري حول الإجابة عن السؤال الثَّانِي الَّذِي قدمناه عَلَىٰ السؤال الأول وهو أن الآية عَلَىٰ فرض دلالتها عَلَىٰ عدم وجوب فهل معناها ...
 هذا الاحتمال الثالث.
 إِلاَّ أن هذا الاحتمال أَيْضاً كسابقيه احتمال غير صحيح في نفسه (نعم لو تم لاحتاج إِلَىٰ برهان الأسوئية حَتَّىٰ نثبت حُجِّيَّة خبر العادل بالمفهوم)؛ ذلك لأَنَّنَا نسأل المحقق العراقي & (بأن الأَمْر بِالتَّبَيُّنِ بمعنى تحصيل الظَّنّ فِي الآيَةِ أمر غيري مقدمي مترشح من أمر نفسي بالعمل بخبر الفاسق) بأن هذا الوجوب النَّفْسِيّ أي وجوب هو؟ هل هو وجوب متعلق بخبر الفاسق مُطْلَقاً (في مقابل التفصيلات الَّتِي سنذكرها الآن)؟ أم هو وجوب متعلق بالعمل بخبر الفاسق عَلَىٰ تقدير التَّبَيُّن وتحصيل الظَّنّ (إذا تبينا خبر الفاسق وحصل لنا الظَّنّ بصدقه فَحِينَئِذٍ يجب العمل بخبره)، بحيث يكون التَّبَيُّن وتحصيل الظَّنّ بصدقه شرطاً لوجوب العمل بخبر الفاسق، كما هو الحال في الاستطاعة الَّتِي هي شرط لوجوب الحج (وليس شرطاً للواجب) ومثل الزوال الَّذِي هو شرط لوجوب الصلاة.
 أم أن هذا الوجوب متعلق بالعمل بخبر الفاسق الَّذِي تبيّنا وحصل لنا الظَّنّ بصدقه، بحيث يكون الظَّنّ بالصدق شرطاً للواجب (وهو العمل بالخبر الَّذِي تبيّن لنا وظننا بصدقه) لا للوجوب (خِلاَفاً للفرض السابق). أعني: بِنَاءً عَلَىٰ هذا الاحتمال الأخير يجب علينا أن نحصّل الظَّنّ بصدق الفاسق ثم يجب علينا أن نعمل عَلَىٰ وفق مفاده، كما هو الحال في شروط الواجب الأخرى.
 إذن، الاحتمالات هي كالتالي:
 الأول: يجب العمل بخبر الفاسق مُطْلَقاً.
 الثَّانِي: يجب العمل بخبر الفاسق وجوباً مَشْرُوطاً بالتبيّن والظن بصدقه.
 الثالث: يجب العمل بخبر الفاسق الخبر الَّذِي حصنا الظَّنّ بصدقه فيجب العمل به من باب شرط الواجب.
 الرابع: يجب العمل بخبر الفاسق ويكون هذا الوجوب مشروطاً بالتبين والظن بالكذب لا الظَّنّ بالصدق.
 الخامس: أن يكون التَّبَيُّن والظَّنُ بالكذب شرطاً للواجب لا للوجوب.