الأستاذ السيد علي‌رضا الحائري

بحث الأصول

34/04/05

بسم الله الرحمن الرحیم

 {السنة/أدلة عدم الحجية/خبر الواحد/وسائل الإثبات التَّعَبُّدِيّ/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول}
 آية النبأ:
 قلنا إن الأمر بالتبيّن في آية النبأ توجد في بادئ النظر ستة وجوه واحتمالات لتفسيره:
 الوجه الأول: ما تقدم في البحث السابق وهو أن يكون هذا الوجوب وجوباً نفسياً حقيقياً، وبناء على هذا الاحتمال قد يُتصور أننا نحتاج إلى هذه المقدمة الخارجية (مقدمة الأسوئية التي ذكرناها) لنثبت حجية خبر العادل من خلال المفهوم. لكن قلنا إنه لا هذا الاحتمال في نفسه احتمال صحيح ولا أنه حتى على فرض صحته نحتاج إلى هذه المقدمة الخارجية.
 فأولاً هذا الاحتمال في نفسه غير تام.
 وَثَانِياً عَلَىٰ فرض تماميّته في نفسه لا يمكن إثبات الْحُجِّيَّة لخبر العادل بمفهوم الآية حَتَّىٰ بمعونة هذه المقدمة لا تثبت الْحُجِّيَّة لخبر العادل من خلال المفهوم.
 أَمَّا عدم تمامية الاحتمال الأول فلثلاث نكات:
 الأولىٰ: لم يحتمل إِلَىٰ الآن أحد من الفقهاء، بل ولا أحد من المسلمين أن من الواجبات في الشريعة (بالوجوب النَّفْسِيّ، أي: حَتَّىٰ لو لم نكن نريد أن نرتّب أثراً عليه) التجسس عَلَىٰ خبر الفاسق. وهذا قرينة عَلَىٰ أن المراد من الآية الشريفة ليس الوجوب النَّفْسِيّ.
 الثَّانِيَةُ: أن حمل الأمر بوجوب التبيّن عن خبر الفاسق خلافُ ما يظهر من كلمة >التبين<؛ فَإِنَّ مادة >التبيّن< نظير مادة >التعلّم<؛ فَإِنَّهَا ظاهرة في كونها طريقاً لترتّب الأثر عليه.
 وَالثَّالِثَةُ: أن هذا الوجوب المذكور في الآية معلَّل بذيل في الآية وهو {أن تصبحوا قوماً بجهالة فتصبحوا عَلَىٰ ما فعلتم نادمين}. أي: مخافَةَ أن ترتّبوا أَثَراً عَلَىٰ خبره من دون فحصٍ بجهالة، ثم يتبين لكم أن هذا الفاسق كذب عليكم.
 إذن، فالعلة لوجوب التبين عبارة عن خوف الإصابة بالجهالة وخوف الندامة، وهذه العلة لا تناسب أن تكون علةً للوجوب النَّفْسِيّ. وهذا لا يناسب إِلاَّ مع الوجوب الطريقي لا مع الوجوب النَّفْسِيّ.
 فهذه نكات ثلاث توجب أن نقول: إن احتمال أن يكون الأمر بالتبين أَمْراً نَفْسِيّاً ساقط وغير وارد. هذا بالنسبة إِلَىٰ الأمر الأول وهو أن هذا الاحتمال في نفسه ساقط.
 وَأَمَّا المطلب الثَّانِي وهو أن هذا الاحتمال حَتَّىٰ لو صَحَّ في نفسه مع ذلك لا يَدُلُّ مفهوم الآية عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر العادل؛ لطالما أخذنا بهذا الاحتمال (وهو أن الأمر أمر نفسي وحقيقي) حَتَّىٰ بمعونة تلك المقدمة الخارجية؛ وذلك لما نقلناه من الشيخ الأعظم وكذلك عن الميرزا حيث قالا - وَنعْمَ ما قالاَ - أَنَّهُ: لو حملنا وجوب التبين عَلَىٰ الوجوب النَّفْسِيّ الحقيقي فَحِينَئِذٍ ينسد باب الاستدلال بالآية الشريفة عَلَىٰ حُجِّيَّة خَبَر الْوَاحِدِ، ولا يَصِحُّ القول بِأَنَّهُ إذا لم يكن خبر العادل حُجّة فيلزم منه أن يكون خبره أسوأ من خبر الفاسق؛ لأَنَّهُ ما دمنا فرضنا أن وجوب التبين عن خبر الفاسق وجوب نفسي، فلعل الله تعالى جعل هذا الوجوب لخصوص خبر الفاسق (كما إذا أراد الله بهذا الحكم أن يفتضح هذا الفاسق لمكان فسقه وكذبه) وليس خبر العادل (كما إذا لم يكن الله تعالى يريد أن يفضحه مجاملةً له واحتراماً له)، وَبِالتَّالِي بات العادل أحسن حالاً من الفاسق، ولم تلزم الأسوئية، رغم أَنَّهُ لا خبر العادل حُجَّة ولا خبر الفاسق.
 إذن، فالاحتمال الأول غير تام.
 
 الاحتمال الثَّانِي:
 أن يكون هذا الأمر وهذا الوجوب نَفْسِيّاً (كالاحتمال الأول)، لكنه أمر نفسي طريقيّ وليس حقيقياً. بمعنى أن الأمر بالتبين عن خبر الفاسق جعل مِنْ قِبَلِ الشَّارِع طريقا لحفظ الواقع لكن بمقدارٍ مّا، وليس لحفظ الواقع كاملاً. أي: هذا الوجوب مرتبة من مراتب منجزية خَبَر الْوَاحِدِ في قبال الأصول الترخيصية والمؤمّنة.
 وتوضيحه: أَنَّهُ في الشبهات الموضوعية - وجوبيةً كانت أو تحريمية - كما إذا جهل الْمُكَلَّف أن هذا السائل خمر أو ماء، أو في شبهة موضوعية وجوبية كما إذا جهل الْمُكَلَّف أن هذا السائل فقير يجب التصدق عليه أو لا؟
 هنا توجد ثلاث حالات:
 الأولىٰ: أن لا يوجد خبر (لا من الفاسق ولا من العادل) يَدُلُّ عَلَىٰ الحكم الإلزامي.
 الثَّانِيَة: أن يأتي خبر فاسق ويخبر بِأَنَّهُ خمر.
 الثَّالِثَة: أن يأتي خبر عادل ويخبر بِأَنَّهُ خمر.
 وعلى الأولىٰ لم يتحفظ الشَّارِع عَلَىٰ الواقع الإلزامي (أَيْ: حَتَّىٰ لو كان السائل في الواقع خمراً لم يتحفظ الشارعُ في تشريعه عَلَىٰ ذاك الحكم الإلزامي الواقعي، وَإِنَّمَا قال: اجر البراءة، ولم يوجب الفحص والتبين).
 وعلى الثَّانِيَة لم يتحفظ الشَّارِع عَلَىٰ الواقع الإلزامي تحفظاً كاملاً؛ لأَنَّهُ لو كان يريد أن يتحفظ عَلَىٰ الواقع الإلزامي تحفظاً كاملاً لكان يجعل الخبر حُجَّةً ومنجزاً، وَإِنَّمَا تحفظ عَلَىٰ هذا الواقع بمقدار مّا حيث قال: افحص عن خبر الفاسق، فإذا فحصتَ وتبينت ولم تعرف كذبَه من صدقه بإمكانك أن تُجري الأصولَ المؤمنة والمرخِّصة (وإن علمتَ بكذبه أو بصدقه فترتّب عَلَىٰ علمك الأثرَ).
 وبعبارة أخرى: حرّم عَلَىٰ الْمُكَلَّف الأخذ بخبر الفاسق قبل الفحص.
 إذن، الآية تَدُلّ بمنطوقها عَلَىٰ الوجوب الطريقي للتبين عن خبر الفاسق بهذا المقدار من الوجوب، وبالمفهوم تَدُلّ الآية عَلَىٰ أن هذا الوجوب منتف عن خبر العادل، أي: الحالة الثَّالِثَة.
 وَحِينَئِذٍ بِنَاءً عَلَىٰ هذا الاحتمال أَيْضاً نقول بأن المفهوم ناقص لا يَدُلُّ عَلَىٰ حُجِّيَّة خبر العادل، إِلاَّ مع ضم تلك المقدمة الَّتِي ذكرناها وهي القائلة بِأَنَّهُ لو لم يكن خبر العادل حُجَّةً وفي الوقت نفسه لم يجب التبين عنه (لأَن المفهوم دل عَلَىٰ عدم وجوب التبين عنه) فمعنى ذلك أن خبر العادل أصبح أسوأ حالاً من خبر الفاسق؛ لأَن الشَّارِع أوجب التبين علينا في منطوق الآية وفي المفهوم لم يؤجل إجراء الأصول المرخصة إِلَىٰ ما بعد التبين عن خبر العادل. لكن هذا (لم يوجب التريث ولم يؤجل إجراء الأصول) فيه احتمالان:
 الأول: أن هذا يكون من جهة أن خبر العادل من الآن حُجَّة ومن هنا لا يحتاج إِلَىٰ التريث ولا الفحص.
 الثَّانِي: أن عدم وجوب التبين بمعنى رفض خبره من دون الفحص. التريث والتبين لم يقبل في خَبَر الْوَاحِدِ باعتبار أن خبره مرفوض سلفاً من دون الفحص.
 وهذا الاحتمال الثَّانِي يلزم منه أن يكون خبر العادل أسوأ حالاً من الاحتمال الأول، فيكون هذا الاحتمال الثَّانِي ساقطاً بالضرورة؛ لأَنَّنَا أثبتنا أن الأسوئية باطلة. إذن، يتعين الاحتمال الأول. وَبِالتَّالِي مفهوم الآية يثبت الْحُجِّيَّة لخبر العادل مع ضم هذه المقدمة الخارجية.
 فهل أن هذا الاحتمال في نفسه تام؟ هذا ما سوف ندرسه غدا إن شاء الله تعالى.